[ بمناسبة مرور عامين على اندلاع الثورة السورية، توجّهت "جدلية" إلى عدد من الكتاب السوريّين بحزمة أسئلة تنطلق من مقولة فانون حول العنف ودوره في التغيير الثوري. تقارب الأسئلة جدلية العنف والسلم في التغيير السياسي. فتقف عند مفهوم الثورة السلمية وإمكانية تحقيقها على أرض الواقع. كما تتعرض إلى العنف كوسيلة للتحرّر، خصوصاً من نظام حكم استبدادي. والمدى الذي تفرض فيه طبيعة الحكم وسائل مقارعتها ومقاومتها. والسؤال المحوري: ما العمل؟]
نصبَ النظامُ خشبة المسرح التراجيدي، فاتحاً الأبواب كلّها لقتل شعبه وحصاره وتجويعه، كعقاب جماعي على كل من تُسوّل له نفسه الاقتراب من الكرسي المعمّد بالدم، والذي صرّح رامي مخلوف، في بيانٍ ـ حوارٍ مع النيويورك تايمز، في بداية الأحداث، أننا «سنقاتل حتى النهاية» دفاعاً عنه، منصّباً نفسه ناطقاً باسم النظام والجيش والطائفة، معتقداً أن أبناء سوريا، ليسوا سوى حطب لموقد ثروته وثروة الشركاء الآخرين. وها هو النظام، يكرر، في خطابه، اللغة نفسها، كما لو أن هذا البيان ـ الحوار كُتب من قبل جميع أطرافه، دون أن يكترثوا بأن جغرافية نفوذهم تتقلّص، ودون أن تهمهم معاناة ملايين السوريين على مدى عامين، من أجل كرسيّ، أقل ما يُقال فيه، إنه ليس ثمرة نضال واستحقاق، بقدر ما هو وراثة، كما لو أنّ الدولة بكل طاقاتها وإمكانياتها ليست سوى رصيد ماليّ مُطوَّب باسم شخص يحقُّ له أن يورّثه بوصية مكتوبة أو شفهية لمن يشاء، وها هي سوريا تدفع بدم أبنائها كلّهم ثمن هذا التوريث، فيما الوارث نفسه لا يسمع ولا يرى ولا يحسّ بما يجري في سوريا، فهل هو فيها حقاً؟
لم تصدر في ظل حزب البعث جريدة أو مجلة مهمة، أو محطة تلفزيونية أو إذاعة مهمة، أو تؤسس جامعة أو معهد أبحاث مهم، لم يرتفع دخل المواطنين، ولم تتحسن حياتهم، وكانوا بحاجة إلى أكثر من عمل في اليوم كي يؤمنوا خبزهم. ولم تتوقف السجون عن استقبال كلّ من يشكك بفردوس الشعارات الطنّانة والواقع المتردّي. مُورسَ عنفٌ تواطأ الجميعُ على عدم رؤيته، وقد ارتُكبَ بكل شراسة، لإخماد أي صوت معارض. ألم يكن هذا عنفاً ضد التنمية، وضد المواطنة وسياقها الحقيقي؟
فبماذا يفتخر الأبناء البارون لحزب البعث ومؤسساته الأمنية حين يُسألون ما الذي يقدّمه النظام لسوريا، في هذه اللحظة المصيرية، والتي تقف فيها سوريا أمام مفترق طرق، سوى أشلاء أبنائها الذين يسقطون في جميع المدن، واضعاً فئة اجتماعية بأكملها في فوهة المدفع، عبر إيهامها بأنها المستهدفة، وهي التي تخسر أبناءها، الذين حُرموا من التنمية في أريافهم فلم يجدوا أمامهم سوى التطوّع في الجيش ومؤسساته الأخرى لكي يعيشوا؟
هل ثمن الكرسي تدمير سوريا؟ هل ثمنها تدمير الجيش العربي السوري وأبنائه، الذين يخضعون لسلطة هرمية لا تكترث بآرائهم؟ وهل يصحّ أن نعتبر الجميع متورطين ومدانين يجب أن يُقتلوا؟ وهل هذا العنف المنفلت من عقاله، عنف السلطة التدميري، الذي يهدف إلى العقاب الجماعي، والذي يحصد في طريقه الأطفال والنساء والشيوخ، وكل من يقع في مرمى النيران في الأراضي المتمردة الخارجة عن الطاعة، والعنف الآخر المضاد، الذي دفعه عنف النظام إلى تبني لغة طائفيه وغرائزية، ويفتقد للرؤية والبرنامج، سيؤدي إلى حلّ في سوريا؟ على الرغم من غياب التكافؤ في المعادلة، يمكننا القول إن الجواب في غاية الوضوح... إن هذا العنف المزدوج سيحيل سوريا إلى رماد وأشلاء ودماء نازفة.
بدأ العنف في سوريا مع أول طلقة استهدفت المتظاهرين السلميين الذين خرجوا في حراك خلاق مشحون بمؤثرات الربيع العربي، ومتطلّع إلى خلع نير النظام الأحادي الأمني المستند إلى إيديولوجية مكرورة وممجوجة مفروضة بـ «البوط والتقرير» على الجميع في سوريا. وفي مجتمع يكمن فيه خطاب العنف على كافة المستويات، فإن هذا العنف أخذَ طابعاً انفجارياً انتقامياً لعبتْ الأطراف العربية والإقليمية والدولية كلّها دوراً في إدخاله في مسار يهدف إلى تدمير تدريجي لسوريا وتعميق الهوة الطائفية بين أبنائها.
إن العنف في سوريا الذي بدأته المنظومة الأمنية للسلطة ضدّ المتظاهرين ولّد عنفاً آخر شبيهاً به، عنفاً كان الهدف منه في البداية حماية المتظاهر السلميّ، كما قيل، إلا أنه وبعد أن خضع لتلاعبات إقليمية ودولية، صار عنفاً انتقاميّ الطابع، يهدف إلى القضاء على الدولة واستلام السلطة، إلى تكرار السيناريو الذي لا يتوقف عن إنتاج نفسه في الجغرافيا العربية. يهدف بكل بساطة، إلى القضاء على فرادة الحراك، وعلى إمكانية انتقاله عبر الحدود، بشكله السليم، إلى بلدان عربية أخرى، هي أيضاً بحاجة إلى تغيير جذريّ.
قد يكون فانون على حق، في السياق الذي قال فيه ما قاله، ولكنّ غاندي قد يكون محقّاً أكثر منه في سياقنا، إذ كيف نؤمن بقتل الإنسان من أجل الإنسان؟ ألن نكرّر المعادلة التوراتية، ونقتل الأخَ من جديد، لكي نبني نظاماً قائماً على القتل، يكرّر الأنظمة المتعاقبة القائمة على المعادلة نفسها؟ ألن نكرّر العنف الشامل الذي هدف إلى القضاء على الحراك؟ ذلك أن العنف هنا، في السياق السوري، ليس مرتبطاً بحركة تمتلك أهدافاً واضحة، وتتبنى رؤية سياسية عقلانية للحل يجمع عليها السوريون كلّهم، بقدر ارتباطه بجماعات متفرّقة، منقسمة، تغلب عليها انتماءات دينية ويدعو بعضها علناً إلى تأسيس الدولة الدينية. إنه عنف تنابذي، إلغائي الطابع ـ السلطة أحد أطرافه ـ ولا يهدف إلى البناء بقدر ما يهدف إلى هدم النسيج السوري.
وإذا ما دقّقنا في التفاصيل سنجد أن القوى التي تحمل السلاح على الأرض لا تندرج في إطار مشروع واحد يعكسُ التطلعات الجمعية للشعب السوري بكافّة مكوّناته، بل نجد أن الفئات قابلة للتصنيف وفق مرجعيات معيّنة، وقد تكون عابرة للدولة الوطنية أو عابرة للحدود، كمثل ظاهرة المجاهدين الذين فجأة نراهم قادرين على اختراق أي حدود في العالم بحسب الطلب، وقد يكون بينهم حالمون ـ كما يرى البعض ـ ولكن لم نر إلى الآن سيراً ذاتية فردية تؤرخ لتجارب من هذا النوع.
فُجع الحراك السوري بعنف النظام، وبتلاعب دول الجوار التي لا تريد للحراك أن ينجح في سوريا عبر دعم أطراف على حساب أطراف، عبر التذبذب في المواقف، عبر ازدراء واحتقار اللاجئين، وعبر صناعة الطابع القاعديّ للعنف المسلّح. اشتركت الأطراف كلّها في تدمير احتمال النضال السلمي البريء في سوريا. كان العنف الذي سُلّط شرساً، إلا أنه كان يجب ألا ينهي الملحمة النضالية السلمية الرائعة التي لو استمرت بكامل زخمها لقدمت رؤية جديدة خلاقة وغير مسبوقة تبدأ من سوريا وتشع في الاتجاهات كلّها.
تغيّر المشهد وانحدرت اللغة، فبدلاً من أن نسمع عن برامج سياسية حول سوريا المستقبل، المتعالية على الجراح، سوريا التي تحتضن أبناءها كلّهم، لا نسمع على المواقع سوى بيانات تدعو إلى الانتقام والتشفي، والإبادة، ونزع الملكية الشرعية، كما لو أن إعادة إنتاج العنف تقدم حلولاً سحرية لجميع المشكلات، وكما لو أنّ إعادة إنتاج الاستبداد في أشكال جديدة، صارت الهاجس الأكبر. ولن نغفل هنا القول بأن عنف النظام هو الذي دفع إلى هذا التطرّف، فلغة القتل والتنكيل التي تزرع الموت لن تحصد سوى الدمار.
إن العنف الحاليّ الممارس من قبل النظام والعنف المضاد الذي ولّده هما امتداد للعنف على مدى تاريخنا وهو عنف تآكلي تمزّقي لن يبني دولة ولا مجتمعاً، ولكن ربما من هذا الرعب كله، والزلزلة كلّها، والصدمة الجماعية والتمزقات والتهدّمات والتشرد وهدم البيوت بطريقة إجرامية فاقت كل التوقعات والاعتقالات الجماعية وعمليات النزوح نحو الداخل ونحو الخارج قد تولد احتمالات لولادة جديدة تعكس وعياً جديداً، يبني سوريا على أسس جديدة.
من هذا العنف الشرس، من هذه اللوحة الرمادية، ستولد سوريا أخرى تطرح الأسئلة من جديد وتعيد النظر في كلّ شيء وهذا هو الوعد المتجدّد للأجيال الجديدة.
يتوسع العنف المضاد ويمتدّ حاملاً عناوين ذات طابع إلغائي مطلق، تغذيه المواقف وطبيعة اللغة المستخدمة، والتي هي ممارسة للقتل كالرصاص. ثمة تعادل بالعنف، أو توازن للعنف، ليس بالطبع من ناحية القوة النارية، بل من ناحية الطبيعة الخطابيّة الانتقامية للعنف. كلّ طرف يرى في الآخر جثة يجب أن تُنتهك، كل طرف يمارس تصنيفه الخاص: أولاً نضع الجسد في الفئة الخاصة به ثم نسجنه، نذلّه، نغتصبه، نقطع رأسه، أو نطلق عليه النار، أو نقصفه بصاروخ عابر للقطر، لا يهم، المهم زراعة الرعب وقد أبدع النظام في هذا.
من الطبيعي أن تلجأ الأنظمة الاستبدادية إلى العنف، فهي قائمة عليه أصلاً، والدولة حتى في شكلها المتحضر إن هي إلا هرب إلى الأمام، نحو نسيان وتمويه لبؤرة العنف التي صدرت عنها.
إن كلّ من يبرر جريمة شريك فيها على كل المستويات، حتى لو كان المقتول إرهابياً حقيقياً، فكيف إذا كان مواطناً عادياً؟ لم يؤد العنف في العقود الأخيرة إلى حلول بل ترك الأمور عالقة في كثير من البلدان، ومن ضمنها بلدان الربيع العربي. ولكن ما الذي أنتجه القضاء على النظام الذي نصبه السوفييت في أفغانستان؟ ما الذي أنتجه العنف الذي أطاح بصدام حسين؟ هل أنتج يوتوبيا عراقية أم آفاقاً جديدة للعنف؟ إن العنف المنفجر في سوريا مشحون بخطاب إيديولوجي دينيّ متوارث، يتم تصنيعه إقليمياً عبر اختراع لعبة الصراع السني ـ الشيعي.
إن ما تقدمه اليوتيوبات من مناظر مريعة، ولغة التعليق المستخدمة، تكشف عن جلادين لا يعرفون الرحمة تزخر بهم صفوف النظام وبعض جماعات المعارضة، ويبدو أن كل طرف يستخدم القاموس المناسب لتبرير عنفه، فثمة من يقاتل الإرهابيين وهناك من يقاتل الكفار الصفويين والمجوس والنصيريين وهلمّجرّا. إن من يعزف على هذا الوتر يخلق مناخاً تضاديّاً تطوعّيا يخدم خططه للتجييش والتشكيل الميليشياوي.
لا أحد يقدر أن يقف في طريق التغيير في سوريا. ولكن التغيير لا يتم بالقتل الأعمى، والهجوم على مكتسبات الشعب السوري، ولا بالانتقام من طبقة الموظفين عبر استهدافهم وقتلهم فهم في النهاية لا يملكون شيئاً إلا وظائفهم وهم لا يدافعون عن النظام بقدر ما يدافعون عنها.
إنّ عنفاً مُتلاعباً به، تديره قنوات إقليمية ودولية، لن يقود لا في سوريا ـ ولا في غيرها ـ إلى سوريا جديدة ديمقراطية تعددية. إن العنف الانتحاري يعكس أنانية مقيتة، فمن يفجّر نفسه ليقتل وليخرب الممتلكات العامة والخاصة، لا يمكن أن يقود عنفه إلى أي أفق لولادة جديدة، فهو يقتل نفسه والآخر، ويقتل أي إمكانية لأي شيء ظانّاً أنه بهذا يحقق الخلاص الفردي، أي الذهاب إلى الجنة، والخلاص الجمعي عبر إرساء التجربة السياسية الدينية لإيديولوجيا المجموعة التي ينتمي إليها. إن هذا النوع من القتل قائم على مبدأ الرشوة (تيري إيغلتون). هناك وعد بالفردوس مقابل هذا القتل.
لا يمكن للعنف أن يكون منتجاً على أي مستوى في السياق السوري: لا عنف النظام المنفلت من عقاله ولا عنف الجماعات المسلحة. إن «السلمية» هي لغة التحضر والعصر والوقوع في فخ العسكرة أصاب الحراك السوري مقتلاً. كان الحراك المسلّح بمزيد من السلمية، بمزيد من التضحيات هو الحل الأمثل، ولكنّ حملة القمع والقتل غير المسبوقة لم تترك منفذاً سوى الانجرار إلى اللعبة، مما حرفَ التطلعات كلّها، وأدى إلى تقوقع فئات المجتمع السوري ضمن مرجعياتها، وإلى تحويل الحراك إلى خطاب أغلبية عددية، وفي خضمّ هذا كلّه لم نر برنامجاً سياسياً أو بياناً مطمئناً، كانت حرباً افتراضية ضروساً تذبح فيها المواقع والشاشات بعضها بعضاً متزامنة مع حرب على الأرض يذبح البشر فيها بعضهم بعضاً.
إن العنف قد يكون في سياقات معيّنة منتجاً ولكنه في السياق السوري سيقود إلى مزيد من العنف، إلى مزيد من التشفّي والانتقام وتراكمات الحقد، إلى أن ينفجر البركان وتخرج الماغما دفعة واحدة.
من المعروف، مما هو متداول في الدراسات المتعلقة بالموضوع، أن الدولة تحتكر العنف، أنها نتاج العنف ومُدجّنته، وهي التي تمنح لنفسها حقَّ استخدامه، وتبتكر شرعية قابلة للتعميم، هي شرعية حقّ حصر استخدام العنف بالدولة، ولكن ما حدث في سوريا خرقَ هذه المعادلة: كي تستخدم العنف، من أجل غايات معيّنة، ومن منظور سلطوي، يجب أن تكونَ دولةً، ولكي تكون دولة يجب أن تُرسي أسس الدولة، أما أن تمارس العنف دون أن تعمّق التجربة المؤسساتية، أي دون أن تصنع دولة بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، فهذا يعني أنك تضع نفسك في مكان مفضوح، وهكذا بدل أن تكون الدولة مسؤولة عن الحل الأمني صارت الطائفة مسؤولة، وبدلاً من أن تكون المؤسسات الأمنية مسؤولة صارت فئات معيّنة مستولية على هذه المؤسسات مسؤولة، وهكذا أعيد إنتاج المشهد في سوريا على مصراعيه: تبدّى فشل ذريع على مدى عقود في تأسيس دولة مواطنة وقانون، وبدلاً من أن يُبْنى مجتمع منفتح على بعضه صُنعتْ تجمعات سكانية ضمن منظوماتها المستعادة جاهزة للتجييش والتوظيف وهذا ما يشهد عليه الواقع السوري بكل قوة.
[ للإطلع على الأسئلة بالتفصيل وكذلك أجوبة بقية الكتاب يمكن الضغط هنا!]