ياسين الحاج صالح كاتب ومعارض سوري، قضى ستة عشر عاماً في السجن أثناء حكم حافظ الأسد. من كتبه سوريا في الظل: نظرات داخل الصندوق الأسود (جدار٢٠٠٩). يجيب هنا على بعض الأسئلة التي طرحتها جدلية عليه حول الأوضاع في سوريا.
سنان أنطون: ما هو تحليلك للوضع الحالي في سوريا؟ تحديداً تعامل النظام مع المظاهرات ومع تبعاتها؟
ياسين الحاج صالح: سورية في أزمة وطنية حادة. لدينا نظام سياسي مغلق ومعدوم المرونة يواجه احتجاجات شعبية سلمية غير مسبوقة، وهو ليس معتادا على غير الحلول الأمنية للمشكلات السياسية العام لذلك يجتهد لتصوير الانتفاضة الشعبية بأنها فعل "عصابات مسلحة" أو هي أعمال إرهابية. يحتاج إلى تشخيص من هذا النوع، لأنه ليس لديه غير العنف علاجا للمشكلات الوطنية. باختصار، تقف سورية عن مفترق طرق. إما انتقال شاق نحو الديمقراطية، أو حل فاشي مكلف وأشد مشقة. العودة إلى الوراء غير ممكنة.
س: ما هي قراءتك لخطاب الأسد؟ هل يشير إلى استنباط دروس ما من الثورات العربية والأوضاع في المنطقة أم العكس؟
- على مستوى التحليل كان الخطاب متشددا: مؤامرة خارجية كبرى وفتنة في الداخل. هذه قراءة لا تؤسس لغير المعالجات الأمنية العنيفة إياها، وقد مارستها السلطات بالفعل بعد يومين من الخطاب في مدينة دوما بخاصة، لكن أيضا في درعا وحمص. أما على مستوى الوعود، فلا شيء محددا. الواقع أن الأجواء التي سبقت الخطاب ("مسيرات شعبية عفوية" في المدن السورية كلها)، والمشهد المشين الذي رافقه في "مجلس الشعب"، والأجواء التالية له في وسائل الإعلام وفي شوارع المدن تقول إن البلد في حالة حرب، لا في حالة إصلاح أو ما يقاربها. أنت لا تصلح بينما تثير أجواء هستيرية، غير صالحة وغير تصالحية، في البلاد. أجواء خوف وعداء وتباعد نفسي بين السوريين. ورأيي أن كل كلام على الإصلاح في سورية، بينما لا يزال يسقط الشهداء وبينما يعتقل المحتجون كل يوم هو كلام غير مسؤول، وخداع للنفس والغير. ولا يشير الخطاب إلى استفادة من دروس الثورات العربية. يفترض المرء أن ثورة في تونس وأخرى في مصر كافيتان كي يبادر النظام إلى إصلاحات أوسع مما وعد. أما بعد أكثر من عشرة أيام من الاحتجاجات في سورية، فإن خطاب الرئيس ومجمل الخطاب الرسمي السوري، منفصل عن الواقع وأسير منطق الإنكار: إنكار التماثل مع مصر وتونس، وإنكار شرعية أية مطالبات داخلية. وسنده الإيجابي في ذلك هو إيديولوجية "الممانعة" التي تجمع بين مناهضة المحور الأميركي الإسرائيلي إقليميا، وهذه نقطة رابحة سوريا وعربيا، وبين عقيدة اختلاف ثقافي ونزعة عداء لأجنبي، تشارف حدود عقيدة "الأصالة" الإسلامية، أو تشكل صيغة معلمنة جزئيا عنها تحت راية القومية العربية في صيغتها الأكثر تقليدية وانعزالا عن العالم. رد الانتفاضة إلى مؤامرة خارجية كبرى لا يحيل إلى غير هذه الإيديولوجية.
س: ماهي الخيارات التي قد يلجأ إليها النظام في حال تصاعد وتيرة التظاهرات والمطالبات بالتغيير؟
- يبدو لي أنه يتجاذب النظام منطق القمع التقليدي مع إصلاحات شكلية لا مضمون لها مثل إلغاء حالة الطوارئ وقانون أحزاب جديد وقانون إعلام مماثل، والمنطق الفاشي العدمي. وهذالأخير يجمع بين قمع فائض ساحق، ودرجة عالية من التجييش واستنفار الموالين لمواجهة جمهور المحتجين، والخطاب الوطني العالي النبرة الذي يقيم معادلة بين الوطنية والولاء للنظام، وتاليا بين معارضة النظام والخيانة، وأخيرا عبادة الحاكم. وقد سبق تجريبه في سورية قبل ثلاثة عقود، ولا تزال ذاكرة الترويع التي غرستها تلك السنوات المجنونة حية بقوة في ذاكرة جيلي والجيل الأكبر. وبسبب هذه الذاكرة الباهظة، يشغل الشباب طليعة الحراك الاحتجاجي الديمقراطي الذي تشهده البلاد اليوم. لا يتذكرون سنوات الرعب تلك.
أما الخيار الأول فأكثر براغماتية، وشعاره الضمني لا بأس بتغيير أي شيء بشرط أن يبقى كل شيء كما هو. وهو التوجه المهمين في البلاد في الأوقات العادية. أشك في إمكانية الاستمرار فيه بعد اليوم. على أن كل شيء مرهون بتطور الانتفاضة الشعبية، وقدرتها على فرض موازين قوى مؤاتية لتحويل سياسي جدي في سورية، يطوي صفحة نظام الحزب الواحد والحكم الأبدي، ويفتح أبواب تطور ديمقراطي أمام البلد.
س: هل تعتقد بأن حلفاء النظام وأصدقاءه الجدد سيلعبون أي دور؟
- قامت تركية بدور إيجابي عموما. نصحت الحكم السوري بأن يبادر إلى إصلاحات جدية في وقت مبكر نسبيا، ويعتقد أن لها ضلعا في وعود النظام بمعالجة مشكلة 300 ألف كردي محرومين من الجنسية السورية بفعل إحصاء شوفيني أجري قبل خمسين عاما. تركيا تريد وضعا كرديا مستقرا في سورية من أجل عودة وإعادة تأهيل مئات من مقاتلي حزب العمل الكردستاني السوريي الأصل. العلاقة التركية السورية من النمط العقلاني المصلحي، الممتزج بدرجة من التقارب الثقافي. وهذا يمنح أنقرة قدرا من التأثير، الذي يبدو لي أن أيام الأزمة الراهنة تكشف محدوديته بسبب نوعية النظام السياسي السوري وضعف الآليات العقلانية لاتخاذ القرار فيه. بالمقابل ليس هناك معلومات موثوقة عن دور محتمل لإيران وحزب الله في الأوضاع السورية اليوم. لا شك عندي أن الطرفين متضامنان مع النظام. لكنهما يتصرفان بحذر. أما ما قيل عن مشاركة عناصر من حزب الله ومن الحرس الثوري الإيراني في قمع احتجاجات السوريين في درعا أو غيرها، فهو في تقديري كلام غير مسؤول وضربا من البروباغاندا السوداء، قد تكون خلفها دوافع طائفية منحطة. في شأن قمع الاحتجاجات النظام السوري يُصدِّر ولا يستورد. لكن يبقى صحيحا أن حزب الله أقرب إلى النظام بكثير مما هو إلى مطالب الشعب السوري التحررية، الأمر الذي يتعارض مع صفته المفترضة كحركة مقاومة تحررية. ومثل ذلك ينطبق على حماس. فهي إلى جانب سورية، قيادة و.... شعبا!
س: ما هي التيارات المختلفة، سياسية واجتماعية، التي تشكل القلب النابض للحراك السياسي المعارض؟
- ليس للمعارضة المنظمة دور يذكر في قيادة الاحتجاجات الشعبية أو توجيهها أو حتى محاولة بلورة أفق سياسي لها. ورأيي أنه أيا يكن مصير الانتفاضة السورية، فإن المعارضة التقليدية المنحدرة من أصول شيوعية وقومية عربية، قد ولجت طور الأفول. وهذا وجه من سيرورة سياسية وجهها الآخر هو تقادم وانتهاء صلاحية النظام السياسي السوري الموروث منذ مطلع سبعينات القرن العشرين. لكن النظام يستطيع أن يعوض بالتوسع باستخدام وسائل الإكراه، فيما ليس لدى المعارضة التقليدية تعويض من أي نوع. ويبدو لي أن نواة الانتفاضة جمهور شعبي متنوع، نسبة الشباب من الطبقة الوسطى المتعلمة عالية فيه. لكونه يجمع بين معرفة جيدة نسبيا للعالم وعلاقة جيدة بتكنولوجيات الاتصال، وقدر هو الأدنى من الأمان الاجتماعي بسبب قلة فرص العمل وتضاؤل فرص الهجرة.. هرم العمر في سورية فتي جدا، نحو 60% من السوريين دون 25 عاما، بينما هرم السلطة والنفوذ شائخ وثقيل الحركة ومتصلب المفاصل. لكل ذلك، في سورية وفي العالم العربي بعامة، الشباب اليوم مقولة اجتماعية وليس مجرد مقولة عمرية. والطيف المتنوع للانتفاضة، بطليعته الشبابية، لا يجد لنفسه أية قضية مشتركة مع نظام أوليغاركي مغلق، فظ أمنيا ومغلق سياسيا وقائم على الامتيازات والتمييز اجتماعيا. من النقاط الحساسة في سورية ما يتصل بالتكوين الديني والمذهبي للمجتمع السوري. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل إن جمهور التحركات الاحتجاجية مسلم سني حصرا، أو أساسا؟ يمكن قول شيئين في هذا الشأن. من جهة إن الانتفاضة وتطلعاتها التحررية والديمقراطية تخاطب حساسيات سورية واسعة ومتنوعة، وينحدر متحمسون لها، بل ومشاركون في جوانب من أنشطتها، من الأطياف السورية كلها. وبعض المعتقلين من الرجال والنساء متنوعو الأصول. بالمقابل، تنطلق أهم الفاعليات الميدانية للاحتجاج من المساجد. هذا يثير بصورة مفهومة حفيظة جمهور غير مسلم سني، أو "علماني" بصورة ما. وبعض الأصوات مسموعة في هذا الشأن منذ الآن. لكن ما يفترض أن يهدئ من ذلك جزئيا أنه لم تسمع شعارات دينية. الهتاف الأساسي للانتفاضة السورية هو: "الله، سورية، حرية، وبس!"، وهو هتاف لا يفهم إلا بالتقابل مع نظير مكرس له ينادي: "الله، سورية، بشار وبس!". الهتاف الثاني هو "الشعب السوري ما بينذل!". وأبرز هتافين للمصلين في جامع الرفاعي يوم 1/4 هما "بالروح، بالدم، نفديك يا درعا!"، ثم "واحد، واحد، واحد/ الشعب السوري واحد!". وهذه شعارات وطنية عامة، تحيد التمايزات الدينية والمذهبية، ويقلب بعضها شعارات سلطوية مكرسة فيضع الحرية أو سورية أو درعا محل اسم الحاكم. وفي تشييع شهداء دوما، 3/4، وقد شاركت فيه شخصيا، كان من الهتافات البارزة: "لا إله إلا الله، الشهيد حبيب الله!" وهو هتاف ديني تقليدي لا يدل على توجه سياسي. وكان لافتا أن يرفع في هذه البلدة الإسلامية المحافظة هتاف "وحدة وطنية/ إسلام ومسيحية". المحتوى العام للهتافات يحيل تكرارا إلى سورية وإلى الحرية، وإلى الشهداء، وإلى مدن سورية أخرى، درعا واللاذقية وحمص بخاصة. في المجمل الحساسية العامة للانتفاضة وطنية استيعابية، يقوم الإسلام فيها بدور ميراث عام ولغة عامة لا إيديولوجية خاصة. من جانب آخر، غابت المساهمة الكردية في أسبوعي الانتفاضة الأولين. كانت السلطات اتصلت بقيادات كردية قبل أية تحركات احتجاجية في سورية ووعدت بمعالجة مظالم مزمنة. ويبدو أن قيادات كردية من شمال العراق نصحت الكرد السوريين بعدم التحرك. لكن شارك كرد من القامشلي وعامودا مواطنيهم يوم "جمعة الشهداء"، 1/4، هاتفين ورافعين شعارات وطنية عامة، تتضامن مع درعا، وتعلن إحدى لافتاتهم أن "الحربة ليست مؤامرة خارجية". هل يحتمل أن تتوسع مشاركتهم في مقبل الأيام؟ هذا وارد.
س: ما الذي تأمل إليه كمعارض؟
- أتطلع إلى حياة سياسية طبيعية في سورية، أشعر فيها بالأمان، وأستطيع فيها أن أعود إلى القراءة والكتابة وفق نظام يومي اعتدت عليه طوال سنوات. لقد سجنت وقتا طويلا في شبابي، وأعرف جيدا ما معنى السجن، وما معنى التعذيب، وما معنى المهانة. وأعرف معنى نشفان الريق وتقصف الركب رعبا. وأعرف جيدا ما يعانيه أصدقائي المعتقلين مثل عامر مطر وزاهر عمرين، وصديقي وزميلي في سجن عدرا خلف الزرزور من حوران الذي اعتقل في 1 نيسان. هذا بشع. هذا لا إنساني. وآن له أن ينتهي.