تتلصص ذاكرتي، البطيئة في النمو، على آذان من سطور الماضي المحمل بأتربة الطفولة، الذي تحول لطين هو الآخر بسبب " طاسات " الماء المنسكبة كل يوم خلف ظهر أحلامي. لفرط خوف والدتي على أحلام بناتها. ها أنا أسير ببطء شديد، أحاول تهدئة بعض الحروف المدونة قرب الارض التي ألتهمها سغب الارصفة. أحاول التمسك بنملة، لأبرحها ضرباً. والتوجه لجدار وشم على جسده شعارات البعث وفدائيي صدام. أعود للحادية عشر خريفاً! أردد في ذهني القاتم: هل جلبت أحذية كافية لتعيلني على الجري في هذه السنة المدقعة بخمر البكاء؟. . . والصراخ !!
البكاء وحده لا يكفي، فالتوابيت بحاجة لتمزيق جسدها الخشبي، والعلم الذي أجهل وجوده في حياتنا، هو فقط لأجل احتضان شهدائنا، هو متواجد فقط للوقوف في ساحة مدرستي كل يوم خميس، لنلقي التحية له، ثم ليعود مختبئاً في غرفة الرياضة.
أسير ولا أدرك حجم هذا الدمار المخزون في ثقب دماغي، أود حشوه بقصاصات ورقية من دفتر الرسوم، الوحيد الذي يمكنني الاستغناء عنه في بلد لا يملك سوى الاسود! في مناسباته كافة. . .
كيف سنعود للمنزل؟ والأميركان بابا؟ جملة أتذكرها كل يوم، لا تزال تقبع في مستنقع الخوف. أتمتم في قلب لساني: أكنت خائفة منهم آنذاك؟ أم أن الطفولة المتجعدة الأماني تحاول الاعتدال قليلاً؟ يحتضنني والدي ويقول: لنعود لمنزلنا، ثم نعود من منزل جدي لمنطقتنا الواقعة في مركز بغداد، المحتضنة لكثير من الوزارات ودوائر الدولة التي شهدت انهيارات جراء القصف الأميريكي آنذاك. لذلك مسألة العودة لذات الصوت، وتكرار المشهد المعتم دون فانوس الأمل، وامتزاج أصوات صراخنا المتشنج مع صوت الانفجارات، أمر يثير الريبة في أذني، التي باتت غير متحمسة لسماع الموت مرة أخرى وهو يدنو قرب كتفي تارة وخلفي تارة أخرى وتحت قدم قطتي! توسلت كثيراً لأجد منفذاً للبقاء في منزل جدي، وذلك للأمن طبعًا. لم أدرك بان خوفي كان محض خرافات أفرزها شكي المتذمر. سيكون المنزل مهدماً! ستصبح مدرستي قطيعاً لأغنام مذبوحة في صباح دون عيد. سأرى رأس جارتنا أم عطور في السطح وقدمها في الغرفة، أما ملابسها فاتكأت على بدنها الغربان! لترتديها بدلاً عن السواد.
نعود، تسير بنا سيارة عمي بشوارع غارقة في الصراخ. هناك موت يبحث عن حياة ليمحو في كل بقعة أسفلت. هناك صغار يحاولون النجاة بعبث النرد المحتفي بهذا الضجيج. هناك استسلام ! وجدت كل شيء مثيراً للمرض، إلا ملابس عمي الداخلية، التي باتت علماً ابيض! تعلن بها سيارتنا بموجب موافقة الجميع عن استسلامهم، واعطائهم قطع الأراضي من الكرامة لكومة ذباب، عفواً جنود! أحقاً؟ جنود، كيف، لا أتذكر سوى تلك الخرقة البيضاء وهي تهلهل بعصا ضرير ضعفها وخنوعها. أاغمض عيني بشدة لأحلم بأليس في بلاد العجائب، يسير بي الحلم كما تسير بنا السيارة نصل وكأننا لم نصل. الوقت، نباغته بسهونا المريض.
الغبار يملأ البيت وكأن عوائل من الغبار كانت تقطن في منزلنا لخوفها الشديد من ملاجئ الهواء، ومساكن الرياح، التي توقفت هي الأخرى عن النضج، ليبدو المشهد مغلفاً بكيس من السكينة المؤقتة، ستنفجر حتماً بصوت الغارة. نحاول النوم، أو يحاول النوم ملامستنا يأخذ مقلتي، بأصابعه، فيعود به عشر خطوات للوراء، زقزقة صاروخ! نعم زقزقة، هذا ما تيقنته من حركات قطتي الغريبة كلما استمعت لمثل هذه الاصوات. الشوارع تبكي على ما أظن، وأذني تمزق ملابسها، عارية من السمع. أصبحت في تلك الليلة، حاسدة لكل أصم، لكل ضرير، لكل أبكم، لكل رضيع، لكل مجنون، لكل حيوان، لكل جنين لا يزال نائماً في سرير الرحم، لأنهم لا يشعرون.
كنت أتمنى لو أنني تلك النملة التي تستوقفني عند الصباح وأنا أحاول الذهاب لمدرستي، حاملة تأريخ حروفه رثة. الوضع يتكرر، الموت يتكرر، وقلبي يتكرر، يموت ويولد بحافات وسادة أمي. غرفة صغيرة لا تستوعب كل هذا الضجيج. سجائر والدي تمضي قدماً نحو اللاشيء، لأجل استرخاء اعصابه. وأنا وأختاي، أخي، جيراني، مدرستي التي يخيل لي أنها ستموت ارتطاماً بباب حديدي!
يقطن الصبح في باحة منزلنا، يرفض الخروج، والموت يحدث ذاته دون حاجة من أحد. كان لايزال طازجاً حين سرق عمي! لم نستطع ممارسة طقوس البكاء عليه لخوفنا، منه!