"لقد حرّرتُ الملايين من البربريّة."
جورج بوش، الغارديان، ١٥ حزيران، ٢٠٠٨
١
“هل ستذهب إلى بلدك هذه الإجازة؟“
سألتني إحدى زميلاتي قبل سنوات في المصعد قبل العطلة الربيعيّة. وكانت الحرب الأهلية في بغداد أيامها في أكثر مراحلها دموّية. إنه سؤال مشروع، بالطبع، لكن عندما يكون المرء من بغداد، فإن صياغة جواب مناسب تصبح عملية صعبة ومعقدة. الجواب الذي خطر لي في تلك اللحظة هو: هل شاهدت الأخبار في السنين الأربع الماضية؟ إنها الزميلة التي تعرف تمام المعرفة من أين أنا. ولكنني مستنزف ومتعب ولا أرغب في الدخول في حوار أعرف تفاصيله مسبقاً، ولا في مراقبة آثار الشعور العابر بالذنب في موقف محرج. عليّ أن أغفر لزميلتي.
هكذا هو الحال في روما. الأخبار عن الحروب التي تخوضها روما ضد البرابرة في بلاد بعيدة تظل على الهامش. إزعاجٌ ليس إلا. حتى الإمبراطور نفسه تحدّث مؤخراً عن “التعب من العراق.”
أقاوم كثيراً لكنني لا أنجح، فاضطر إلى العودة كل يوم، ولكن ليس إلى المكان. فالبيت، بيت العائلة، الذي ولدت فيه، بيع قبل خمس سنوات. ولم يعد بيتنا. واضطرت عمّتي، آخر من تبقّي في البيت، لهجر البلد إلى عمّان بعد تزايد الانفجارات. وتحوّل البيت كلّه إلى أوراق. ومن ثم إلى ورقة واحدة: وديعة في مصرف أردني هي ثمن الحصول على إقامة في القطر الشقيق.
أجيب قبل أن نفترق في الطابق الأرضي:
”كلا، لن أعود إلى بلدي. لدي الكثير من العمل.“
”أتمنّي لك عطلة سعيدة!“
”ولك أيضاً.“
٢
في رحلة من نيويورك إلى عمّان لفت انتباهي شابٌّ يقف في طابور المسافرين على رحلة الخطوط الملكيّة الأردنيّة. معظمهم من الأردنيين الذين يعيشون في أمريكا. هناك عدد قليل من الأمريكان البيض يبدو أنهم في رحلات عمل.
لم يكن هذا الشاب يحمل أية حقائب يدوية. لم يكن قد تجاوز العشرين.. شعره قصير جداً وأكتافه عريضة. ظلّت النظارات الشمسية نائمة على عينيه طوال الرحلة. وظلت السماعات على أذنيه. كان صخب الموسيقى التي يستمع إليها، من نوع ”هيڤي ميتال“ يتسلل إلينا.
عندما وصلنا إلى عمّان اقترب منه أردني يرتدي بدلة كان ينتظر خارج البوابة ويحمل بيده علامة. أخذه إلى طابور خاص ”إكسبرس“ ليمر بسرعة بدون تدقيق الجوازات والأمن. الأشقاء الأردنيون يعرفون أصول الضيافة جيّداً.
العراق مثل الجحيم، يسهل دخوله ويصعب الخروج منه.
ها هو واحد من رسل الموت يسرع إلى العراق.
”Black Water“ هو الاسم الذي كان مكتوباً بأحرف جميلة على علامة المضيف الأردني.
٣
يهيم البربري كل يوم في شوارع روما ويهيم في شوارع بغداد على الإنترنت. يجمع الصور والقصاصات ويعلقها على الجدار، في البيت، وفي الذاكرة:
طفلة في السادسة أو السابعة تتشبّث بيد أبيها وهما يعبران الشارع الخالي. كانا على وشك الوصول إلى الجزرة الوسطية التي تغطي حشيشها أكوام الزبالة. تنتظرهما سيارة متفحّمة على الجانب الآخر من الشارع. الطفلة تحمل حقيبة حمراء صغيرة. في الزاوية اليمنى من الصورة جثة منتفخة.
كم سنة، بل كم عقداً، حتى تتمكّن الطفلة من عبور الشارع؟
٤
”زعم محامو السيد موسى بأن أكياس رمل فارغة وضعت على رأسه ورؤوس بقية المعتقلين وأجبروا على البقاء في أوضاع مؤلمة، كالجلوس على كراس خياليّة، لفترات طويلة. وحرموا من النوم وتناوب الجنود البريطانيون على ممارسة لعبة يتنافسون فيها في ضرب وركل العراقيين ككرة.“(٢)
٥
اقترب مني عراقي يعيش في الولايات المتّحدة منذ أكثر من ثلاثين سنة أثناء المؤتمر السنوي لدراسات الشرق الأوسط وسألني إن كنت معنياً بالمشاركة في كتاب يتضمن مجموعة مقالات عن الأدب العراقي الحديث.
”طبعاً، سأكون سعيداً جداً بالمساهمة.“
وقبل أن أخبره بما كان يدور ببالي عن المقالة التي سأكتبها، أضاف:
”أريدك أن تكتب عن الأدب المسيحي.“
هل يعني التراتيل الكنسية؟ تساءلت في سرّي. لكنها ليست ”حديثة“ ولم أكن أعرف أي شيء عنها باستثناء بعض الكلمات التي أجبرتُ على حفظها وترديدها في صغري دون أن أفهم معانيها.
أضاف: ”يعني سرگون بولص ويوسف الصائغ. . .“
وهكذا يولد حقل دراسي جديد. يولد جنس أدبي جديد في روما. واسم عائلتي، أنطون، يهبني معرفة استرجاعية ومؤهلات تخولني بالكتابة عن حفنة من الآدباء العراقيين الذين كانوا مسيحيين بمحض الصدفة ومعظمهم ملحدون!
”لم أسمع بشيء اسمه “الأدب المسيحي.“ يمكن أن أكتب عن الجواهري أو سعدي يوسف.“
لم يعجبه جوابي ولم أسمع منه أبداً بعد ذلك اللقاء.
إحدى الشاعرات العراقيات سارعت لاحتضان الهويّة الجديدة، فأخذت تكتب على أغلفة كتبها المترجمة أنها تكتب الشعر بالآرامية!
٦
كنت أشاهد السي إن إن ذات ليلة عام ٢٠٠٤. الصحفي على وشك أن يرافق دورية من الجنود تخرج من معسكر التاجي. قال له أحد الجنود: ”سندخل الآن في أراضي الهنود الحمر.“ This is Indian Country
٧
أشرتُ، أثناء محاضرة في كلية صغيرة في ولاية بنسلفانيا، إلى اللامبالاة التي يقابل بها معظم المواطنين الأمريكيين الحرب وآثارها. بحيث لو جاء شخص من الفضاء الخارجي إلى أمريكا وتجول في شوارعها لما عرف أنها تشن حربيْن. رفعت إحدى الطالبات، وهي عضوة في نادي السلام، يدها، وسأتني بخجل:
”أعرف عن حرب العراق يا أستاذ. لكن أين الحرب الثانية؟“
٨
رحلة مبكرة للعودة من سانت بول، مينيسوتا، إلى نيويورك. هناك محل واحد يبيع الفطور والقهوة في هذا المطار والطابور طويل جداً. المدنيون فيه أقلية. أما البقيّة فكانوا جنوداً يبدو أنهم في طريقهم إلى إحدى جبهات الإمبراطورية في العراق أو أفغانستان. يبدو أن هذه أول ”سفرة“ لهم وأنهم أنهوا تدريبهم للتو. أعرف ملامح الجنود الذين يعودون من الجبهة. متعبون ومستنزفون. كأنهم ماكنات معطوبة. كنت أرى خرائط الموت والخراب في العراق على وجوه العائدين من جبهات القتال مع إيران.
معظم هؤلاء كانوا من البيض، من الطبقات الفقيرة، مع بعض السود والإسبان. أدرك بأن معـظمهم أيضاً ضحايا لماكنة اللامساواة والاستغلال والتفرقة الضخمة التي تديرها روما. بعضهم يبدو وكأنه نجح في الاحتفاظ بشيء من البراءة في وجهه. . . لكنهم سيتقنون أدوارهم بسرعة.
كان أحدهم يقبض بيمناه على العمود الحديدي وهو ينتظر في الطابور. وكان يحرك سبابته إلى الأمام والخلف وكأنه يضغط على الزناد. هل بدأ بإطلاق الرصاص على العراقيين من الآن؟
٩
في انتظار طائرة العودة إلى نيويورك، أشاهد الأخبار على التلفزيون في مطار في تكساس. يعلمني الشريط أسفل الشاشة بأن المحكمة أسقطت كل التهم عن جندي آخر من الذين اشتركوا في مذبحة حديثة. أقرّر أن أهرب من الأخبار. أسمع موسيقى بعيدة فأبحث عن مصدرها. عندما أجده أرى فرقة تعزف وتغني ترحيباً بالجنود الأبطال، العائدين: Welcome Home Our Heroes
١٠
أغاني البرابرة القديمة تعبّئ القلب بالغيوم والحنين. لقد تعلّم البربري كيف يحارب الحنين كأنه عدو، كما ينصح شاعر كبير كان هو قد ترجم أشعاره إلى لغة روما. ولقد انتصر البربري في معارك عديدة ضد الحنين وجيوشه اللامرئية. لكن هناك أيام يضطر فيها إلى الانسحاب والاختباء في خندق من تلك الختادق التي حفرها في روحه كي يداوي جراحه بصمت.
١١
الشعور بالذنب أو الانبهار بما صنعه البرابرة فيما مضى يولّد الرغبة في الإعجاب. في مؤتمر في تكساس، مهد الإمبراطور، تسألني أكاديميّة تحمل شهادة في تاريخ الفن من جامعة مرموقة:
”هل هناك فن حديث في العراق؟“
١٢
ربما أكون قد قسوت وتسرّعت في أحكامي. فبعض أهل روما يحبّون البرابرة. . . الكلاب:
”بعد الهروب من بغداد وبعد رحلة استمرّت ١٣ ساعة من الكويت، بدا چارلي وكأنه يبتسم للجميع.
بعد خمسة أشهر من استلام طلب المساعدة من الجنود الأمريكيين الذين كانوا يأملون في نقل كلبهم السائب إلى أرض أمريكية، أصبح چارلي أول المستفيدين من جهود المنظمة التي تنقذ الحيوانات الأليفة التي تصاحب الجنود في مناطق الحروب. سيعيش چارلي في مدينة فينكس مع أحد الجنود.
ولكون اليوم الذي وصل فيه چارلي هو عيد الحب فقد بالغت المنظمة في لغتها العاطفية، فقالت إن الصلة بين چارلي والجنود ”هي قصة الحب المثالية بين الإنسان وكلبه.“ ولم يبخل الجنود في وصف مشاعرهم، فكتب أحدهم في رسالة إلكترونية:
”نحن على أحرّ من الجمر لرؤية چارلي ثانية. ونريده أن يتذوق طعم الحياة الولايات المتحدة.
وقالت ستيفاني كروغس، المتحدثة باسم المنظمة، أنها تعمل حالياً على إنقاذ أحد عشر كلباً وقطتين تبناها جنود في العراق أو أفغانستان. وستدفع المنظمة ٤ آلاف دولار لكل عملية إنقاذ. واعترفت أن هذا المبلغ يمكن أن ينفق على مساعدة عدد أكبر بكثير من الحيوانات في أمريكا نفسها، لكنها قالت إن البرنامج يدعم الجنود. . .
وكان هناك الكثيرفي برنامج چارلي. موعد في صالون لغسله من تراب الصحراء. ليلة في فندق. وموعد لفحص يجريه طبيب بيطري في الأيام القادمة. ثم رحلة بالطائرة إلى لوس آنجلس حيث سيتم الإعتناء به حتى يعود صاحبه، واتسون، من العراق. لكن أول نشاط على القامة هو جولة في مجمع تجاري (مول).
وكان واتسون قد كتب رسالة إلكترونية في الثانية من صباح الأمس يقول فيها”ستكون صدمة حقيقية له حين يرى كل ذلك الجمال وتلك البنايات. هو الذي لم يعرف شيئاً سوى محلّات بغداد الفقيرة والوسخة.“ (٣)
١٣
يشكو البربري من الأرق.
يشكو البربري من الأرق في روما.
كنت أزور صديقاً من الذين يحبّون البرابرة لأنه يدرس ثقافتهم وكان قد عاش بينهم. نشرب ونتحسّر. وأدرك، مرة أخرى، بأن الرثاء والحزن قد يصبح هو الآخر ترفاً. لم ترفق بي آلهة النوم تلك الليلة. ولم تساعدني قراءة رواية. لدى الصديق تلفزيون في غرفة الضيوف. قررت أن التلفزيون سينجح في إثقال جفنيّ وينقذني من الأرق. التنقّل بين القنوات يشبه النبش في القمامة. أبحث عن مزيج مناسب من الضجيج والضوء ليضجرني وينيمني. في الثانية صباحاً أستقرّ على قناة ”پي بي إس.“ مقدم برنامج ”آنتيك رود شو“ يدور ويتحدّث مع الذين يعرضون أنتيكات لتقييمها وبيعها. ساعات قديمة، قطع أثاث، لوحات. . . تعثر الكاميرا على امرأة عادية المظهر في أواخر الخمسينيات تقف بفخر بجانب معروضها.
”ماذا لديك هنا يا سيدتي؟“
”إنه مهد من مهود السكان الأصليين (الهنود) من الجلد الحقيقي، مصنوع باليد.“
”Wow. جميل جداً. ومن أين حصلت عليه؟“
” هو لجدي الذي كان جندياً. وورثته أنا عن أبي.“
”وكم قيمته؟“
”قيل لي إنه يمكن أن يباع بـ ٤٦ ألف دولار.“
” Wow، مبروك.“
” شكراً.“
أتشبّث بالمهد، لكن مقدم البرنامج يبتعد عنه وتتبعه الكاميرا.
أطفئ التلفزيون وأدع الظلام يحتلّ المكان من جديد. . . .والأشباح أيضاً.
أحاول، في الظلام، أن ألمس المهد قبل أن يتم إفراغه ووضعه في مدار ”الحضارة“ كي يصبح ”وثيقة ثقافية.“ مداره السابق الآن مسكون بالإشباح. شبح ڤالتر بنيامين يحوم في الغرفة:
قلتُ لك ”ليست هناك وثيقة حضارة ليست، في ذات الوقت، وثيقة للبربرية.“
***
[مقاطع من نص طويل غير منشور هو عبارة عن مشاهدات يومية في الولايات المتحدة]
١. الشركة الخاصة، سيئة الصيت، التي تعاقدت معها وزارة الدفاع الأمريكية للقيام بمهمات حماية أمنية في العراق وفي بلدان أخرى والتي توظّف المرتزقة والمحاربين السابقين وقد تورطت بمذابح ضد المدنيين.
٢. ”عراقيون يحصلون على تعويضات من جرّاء سوء معاملتهم من قبل بريطانيا“، نيويورك تايمز١١، تموز، ٢٠٠٨.
٣. ”بيت لچارلي، بعيداً عن أحياء بغداد الفقيرة“، واشنطون بوست، ١٥ شباط، ٢٠٠٨.