في مرحلة ما بعد الاستعمار، اعتبر الكفاح من أجل الديمقراطية أمراً مهماً لتحقيق الوعد بالتحرر الوطني. ومع نهاية الحرب الباردة تحديداً أصبحت الديمقراطية الانتخابية تعتبر الآلية الأكثر فاعلية لمواجهة الاستيلاء على الدول ومواردها، وحتى استقلالها على يد النخب الاستبدادية ذات الأفق الضيق التي نصّبت نفسها على هذه الدول.
في عالم تقوم فيه الدكتاتوريات، سواء الفردية أو الحزبية، بالتعامل مع الحكم باعتباره تحدياً تقوم من خلاله بإخضاع المؤسسات لإرادتها، واستثناء المواطن من أي دور ذي مغزى في صنع القرار، والإبقاء على رضا المانحين من أجل الحفاظ على دورها وتعزيز حصتها من الثروات الوطنية، تبدو الانتخابات الحقيقية العادلة والنزيهة شرطاً أساسياً لاستعادة المواطنين موقعهم الصحيح في الدولة والمجتمع. وقد رأينا ذلك مؤخراً في العالم العربي عندما خرجت الملايين مطالبة بحقها في التصويت الحقيقي من أجل بناء ديمقراطيات فعالة، والبدء بإلغاء آثار نصف قرن من فساد الحكم.
الانتخابات بالطبع ما هي إلا عنصراً واحداً من عناصر الديمقراطية التي تتطلب أيضاً التعددية، والمؤسسات، والحريات، إضافة إلى عناصر أخرى. ولكن، ومنذ وقت غير طويل، أصبح الكثيرون يعتبرون سياسات تعزيز العدالة الاقتصادية الاجتماعية المكون الرئيسي للديمقراطية بدلاً من الانتخابات المعتادة. ففي دول مثل سوريا في الأربعينيات والخمسينيات، ليس من الصعب إثبات أنه بينما كانت الانتخابات حقيقية فإن البرلمانات التي نتجت عنها كانت، من عدة أوجه، مجرد مسرحية أبطالها النخبة. من جانب آخر، فإن تجارب أخرى، خصوصاً الأنظمة في الدول التي استقلت حديثاً في إفريقيا وآسيا، تحذر من أن الانتخابات تؤدي إلى تعزيز الصراعات الإثنية والقبلية والإقليمية، بدلاً من تعزيز الوحدة الوطنية، وبهذا تقوض عملية إعادة البناء في مرحلة ما بعد الاستعمار. ومهما كانت مبررات وجهات النظر هذه، ومهما كان رأينا فيها، فإن من المهم أن نتذكر أنه مضى وقت ليس ببعيد لم تكن فيه الانتخابات، وحتى الديمقراطية، ينظر إليها بتقديس من قبل الرجال والنساء ذوي النوايا الطيبة، الذين كانوا ملتزمين بالحقوق الجمعية والفردية لشعوبهم.
في سياق ما سبق، كانت الحالة الفلسطينية دائماً حالة فريدة. في حقبة كان فيها الكفاح من أجل التحرر الوطني تحت سيطرة حركات شديدة المركزية تبنّت نظم انضباط داخلية صارمة، وقمعت، بل وصفّت الخصوم الداخليين والخارجيين والمنشقين، أو تسامحت معهم فقط لأهداف تجميلية، كانت منظمة التحرير الفلسطينية تحالفاً واسعاً لقوى متعددة، وهو ما أسماه رشيد الخالدي بـ "حساء الحروف الأبجدية" المكون من فصائل كبرى وصغرى، بعضها وطني الاتجاه بالكامل، بينما بعضها الآخر فروع محلية لحركات إقليمية، وغيرها مجرد ممثل لأنظمة عربية مختلفة.
ولكن المنظمة، خصوصاً بعد أن سيطرت التنظيمات الفدائية عليها وعلى مؤسساتها على إثر حرب 1967 وحتى عام 1982 على الأقل، قد تطورت إلى جسم وطني بشكل حقيقي، وتمثيلي بشكل حقيقي، وشرعي بشكل حقيقي. ومن الأمور الدالة أن التنظيم الفلسطيني الرئيسي الذي لم ينخرط في منظمة التحرير في هذه الفترة، وهو الحزب الشيوعي الفلسطيني، لم يشكك أبداً في مكانة المنظمة، بل إنه في الحقيقة بذل جهده للانخراط فيها، وهو الطموح الذي تحقق له أخيراً في عام 1987. وفيما عدا الموالين للأسرة الهاشمية والمتعاونين مع إسرائيل، كان الذين لم يشعروا بأنهم ممثلون بشكل حقيقي في منظمة التحرير خلال هذه الفترة صنفاً نادراً.
بالنظر إلى التجربة الفلسطينية الماضية يلفت الانتباه أنها كانت أكثر تمثيلاً، سواء من حيث القيادة أو بنية المؤسسات أو السياسات أو أي معيار آخر، عندما كانت واقعياً أقل ديمقراطية بالمعنى التقليدي والمعاصر للمصطلح. هذا لا يعني القول أن منظمة التحرير كانت تمثيلية لأنها لم تكن ديمقراطية، أو أنها عارضت المشاركة في شؤونها من قبل التنظيمات المكونة لها أو أعضائها، بل على العكس كانت منظمة التحرير في الحقيقة كياناً تعددياً بشكل كبير، ومن هذه الناحية نافست بسهولة ونجاح، ليس فقط منظمات مثل حركة التحرير الوطني الجزائرية، بل أيضاً المؤتمر الوطني الإفريقي في جنوب إفريقيا على سبيل المثال. إن للتعددية الفلسطينية العديد من الجذور والتفسيرات، يبرز منها ثلاثة:
ذكريات الصراعات والانقسامات داخل الحركة الوطنية خلال فترة الانتداب، والتي اعتبرت من وجهة نظر قيادة منظمة التحرير أنها أسهمت في إجهاض ثورة 1936- 1939، وفي نهاية المطاف في نكبة 1948.
إدراك القيادة أنه سيكون من المستحيل، وبل وقد يكون أمراً انتحارياً، السعي لفرض سيطرة صارمة على شعب موزع في عدة دول، العديد منها إما معادية لمنظمة التحرير أو غير مستعدة لتحمل دور فاعل لها داخل حدودها.
المزاج السياسي للقادة الرئيسيين للمنظمة الذين لم يستسيغوا الانضباط السياسي والأساليب المطلوبة لفرضه وآثاره السياسية، ولكن أيضاً، خصوصاً في حالة ياسر عرفات، فقد اعتبر التعددية كواقع يمكن أن يكون أداة لتعزيز موقعه من خلال تكتيكات فرق تسد في مواجهة القوى الأخرى، بما في ذلك "فتح".
كانت الثغرة الرئيسية في هذه التعددية نظام الكوتا الذي من خلاله وُزّعت المناصب في المنظمة ومؤسساتها بين الأعضاء على أساس قوتهم النسبية. فالتنظيمات الأقوى مثل "فتح"، أو تلك التي تتمتع بدعم خارجي قوي مثل الصاعقة، حصلت على حصص غير متناسبة من المناصب، ومع ذلك فقد كان هناك مكان للمستقلين غير المرتبطين بأحد، كما كان هناك ضمان للتمثيل الجغرافي. لقد كان المجلس الوطني الفلسطيني التجسيد الأقصى لنظام الكوتا، والذي تجلت فيه الجوانب الإيجابية والسلبية لهذا النظام. من بين الجوانب الإيجابية أن التعددية، في ظل غياب الانتخابات، خلقت حاجة للتوافق، أو على الأقل مفهوم التوافق والإيمان بأنه قد تحقق. هذا يختلف تماماً عن الديمقراطية الانتخابية، حيث يعتبر أمراً مشروعاً ومقبولاً بالكامل، حتى في أكثر النظم التعددية أصالة، أن يقوم الفائزون بإقصاء الخاسرين من الحكم وعملية صناعة القرار.
مع أنه موقف غير مقبول في القرن الحادي والعشرين، إلا أنه لا يمكن إنكار أن نظام الكوتا عمل بشكل فعال في فترة زمنية معينة وضمن سياق سياسي محدد. قد يعود السبب إلى أن وجود الآلاف من المقاتلين في لبنان منع إساءة استخدام هذا النظام، أو في مقابل ذلك فإن وجود عدد كبير من القيادات القوية وذات المصداقية في منظمة التحرير ومؤسساتها منع فصيلاً واحداً من استخدام النظام لفرض سيطرته. إذا سئل أي فلسطيني في أواسط العمر إذا كان يشعر بأنه كان ممثلاً أكثر في المجلس الوطني في عام 1985 أم في المجلس التشريعي الفلسطيني الآن، فأنا أعتقد أنه حتى بعض الأعضاء الحاليين في المجلس التشريعي سيجيبون بأن المجلس الوطني قام بالمهمة بشكل أفضل.
لا شك أن نظام الكوتا فيه العديد من الثغرات، ليس أقلها تشجيع نظام الحماية والمحسوبية، وطول فترة البقاء في المنصب للوصوليين الذين يفتقرون إلى المؤهلات المهنية والالتزام السياسي. ولكن، إذا كانت الديمقراطية هي المعيار، فإن منظمة التحرير في فترة السبعينات كانت ستنجح إذا قورنت بنظيراتها في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية.
من المؤكد أنه سيكون من المستحيل إحياء نظام الكوتا في ضوء التغير في الحقائق الفلسطينية منذ العام 1982، والأصح أن يقال أنه يجب أن يبقى ميتاً ومدفوناً. ولكن، لعله من المفارقات الكبرى أن تلك المواصفات التي من المفترض أن تصونها وتعززها الديمقراطية، مثل التمثيل، وسيادة المؤسسات، وتجديد القيادة، والانتقال السلمي للسلطة، والعمل السياسي الموحد، قد بدأت بالتراجع، وفي بعض الحالات اختفت بالكامل، بعد البدء بالانتخابات في إطار اتفاقية أوسلو في العام 1993 وإقامة السلطة الفلسطينية.
هذا بالطبع يعود إلى طبيعة أوسلو والسلطة الفلسطينية وليس للانتخابات نفسها. مع ذلك، هناك حاجة لفحص ما إذا كانت الانتخابات الفلسطينية، خصوصاً الانتخابات الحرة والنزيهة منها، قد أسهمت في المحصلة أو قوضت الديمقراطية الفلسطينية، وحقوق وحريات المواطنين، والكفاح في سبيل تقرير المصير للفلسطينيين. إذا وضعنا السؤال ببساطة، هل عززت الانتخابات الفلسطينية المشروع الوطني أم أعاقته؟
وهذا بدوره يثير سؤالاً أوسع، ليس حول ما إذا كان الفلسطينيون جاهزين للديمقراطية، بل هل الانتخابات الديمقراطية التنافسية هي أداة مناسبة للفلسطينيين للتغلب على أزمات معينة تواجههم في هذه المرحلة من تاريخهم. وبكلمات أخرى: هل الديمقراطية جاهزة للفلسطينيين؟
في هذا المجال هناك عدة ملاحظات هامة يجب طرحها فيما يتعلق بتداعيات الانتخابات الفلسطينية منذ عام 1996:
هذه الانتخابات لم تؤد إلى تعزيز شرعية المنتَخَبين، وأفضل مثال على ذلك ياسر عرفات، الذي لم تقارب مكانته بعد أن انتخب رئيساً للسلطة الفلسطينية المستويات التي تمتع بها كزعيم توافقي غير منتخب لمنظمة التحرير قبل أوسلو. وبالمثل، فقد تراجعت شرعية "حماس"، خصوصاً شرعيتها الإقليمية والدولية، بعد فوزها في عام 2006 في انتخابات المجلس التشريعي. ويبدو أن هذا يشير إلى أنه في ظل الاستعمار يأتي التفويض الشعبي أولاً، وقبل كل شيء، من القدرة على تطوير المشروع الوطني وليس من صندوق الاقتراع.
لم تؤد هذه الانتخابات من قريب أو بعيد إلى تعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية. فقد كانت انتخابات عام 1996، في الحقيقة، التعبير المؤسساتي عن أقصى درجات التشرذم التي أصابت الفلسطينيين منذ عام 1948، أي تقسيم الفلسطينيين إلى مجموعة تعيش في المناطق الفلسطينية المحتلة، لها الحق في التصويت أو تعمل في البرلمان، ومجموعة أخرى هي كل الفلسطينيين الآخرين. وبالإضافة إلى إخضاع منظمة التحرير الفلسطينية للسلطة الفلسطينية، فقد حُرم غالبية الفلسطينيين، أولئك الذين يعيشون في إسرائيل وفي الشتات، عملياً من حق الانتخاب. وبالمثل، فإن انتخابات عام 2006 قد رسخت الانقسام الجغرافي السياسي داخل الأراضي المحتلة. هناك بالطبع العديد من الأسباب للانقسام أو للصراع بين "فتح" و"حماس"، ولكن الاعتقاد داخل كل من المعسكرين بأن هذا التنافس يجب أن يحل على أساس الانتخابات وليس على أساس التوافق هو سبب رئيسي. بل وأبعد من ذلك، فإن نجاح "حماس" في انتخابات عام 2006 قد عقّد، بدل أن يسهّل، انضمامها وانضمام حركة الجهاد الإسلامي إلى منظمة التحرير الفلسطينية.
هذه الانتخابات لم تؤد إلى تشجيع مؤسسات أكثر تمثيلية أو مشاركة شعبية أكبر في العملية السياسية. في الواقع، إذا قارنا بين مؤسسات السلطة الفلسطينية حالياً ومؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية قبل عشرين أو ثلاثين عاماً، فسنجد أنها قد تحولت إلى مجرد ظل لسابقاتها.
هذه الانتخابات لم تؤد إلى تشجيع تجديد القيادة، وهذا في الحقيقة ينطبق أيضاً على الانتخابات الداخلية في كل من "فتح" و"حماس".ومؤخراً لم تؤد المطالب بمثل هذه الانتخابات إلى تشجيع المصالحة الفلسطينية. ويبدو أن هناك شيئاً من الحقيقة في استخلاص جميل هلال، بأن الانتخابات التي تجري في ظل سيطرة أو تدخل خارجيين، كما حصل في العراق ولبنان وفلسطين، تتجه نحو مفاقمة الاستقطاب بدلاً من الإسهام في الوحدة. سيكون أمراً شديد التبسيط بالطبع اعتبار الانتخابات مسؤولة عن المشكلات المذكورة أعلاه، وذلك لأنها أقيمت ضمن إطار اتفاقات أوسلو، وفي ظل تفتت الحركة الوطنية الفلسطينية، وهي العوامل المسؤولة في نهاية المطاف عن هذه الأزمات.
ومع ذلك، فإن الانتخابات الفلسطينية، خصوصاً الانتخابات العادلة والنزيهة، قد لعبت دوراً جوهرياً في هذه العملية، من جانب لأنها أقيمت تحديداً لإضفاء الشرعية على عملية غير شرعية قادت إلى مزيد من الترسيخ للاحتلال والتشرذم الفلسطيني، ومن جانب آخر لأنها كانت مركزية في عملية هيمنة السلطة الفلسطينية على منظمة التحرير الفلسطينية، ومن جانب ثالث لأنها أسهمت في تشريع تجزئة الشعب الفلسطيني وحرمانه من حقوقه الانتخابية.
لقد كان بالإمكان أن يكون تحقيق هذه الأهداف أكثر صعوبة، أو ربما مستحيلاً، دون السماح بإجراء انتخابات فلسطينية حرة ونزيهة، فلو أن "حماس" قد منعت من المشاركة في انتخابات عام 2006، على سبيل المثال، أو لو أن فلسطينيي القدس الشرقية قد منعوا من المشاركة على يد الجيش الإسرائيلي، لكان تحمل التداعيات السياسية لمثل هذه الانتخابات أكثر صعوبة بكثير.
الملاحظة الأوسع فيما يتعلق بالأزمة التي تمر بها الحركة الوطنية الفلسطينية هي أن انتخابات السلطة الفلسطينية جاءت على حساب التعددية الفلسطينية، بل أيضاً على حساب آفاق بناء ديمقراطية نابضة بالحياة، قائمة على الحقوق الوطنية والفردية الأساسية. من المؤكد أن الانتخابات الفلسطينية يمكن، في ظل ظروف سليمة، أن تسهم في تعزيز الديمقراطية والحقوق الفلسطينية. لعل أحد أفضل الأمثلة على ذلك انتخابات البلدية في الضفة الغربية عام 1976، مع أنها كانت ذات طبيعة محلية محضة وأقيمت في ظل شروط الاحتلال العسكري والتدخلات الإسرائيلية ومحاولات التخريب المستمرة. الدرس المستفاد هنا هو أنه عند الحديث عن الانتخابات، فإن السياق هو كل شيء: هل هي فعل مقاومة ضد الاحتلال تقوم به حركة وطنية حية هي جزء من مشروع وطني ديناميكي، أم هي عملية تحويل لهذه الحركة وذلك المشروع وإفراغه من مضمونه؟
في ظل الظروف الحالية، فإن الأولوية يجب أن تكون إعادة بناء التعددية وصياغة برنامج وطني واستراتيجية وطنية مبنية على التوافق وتحشد الشعب الفلسطيني بأكمله، والانتخابات، على الأقل في الوقت الحالي، تبدو كعقبة في طريق هذه العملية. وتوضح التجربة أن الانتخابات تكون ذات معنى عندما تخدم مشروعاً وطنياً قائماً، وتفشل عندما ينظر إليها باعتبارها حلاً لأزمة هذا المشروع.
وهذا ينطبق على المطالبة بإجراء انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني كسبيل لإحياء منظمة التحرير الفلسطينية. إن من المشكوك فيه إمكانية إجراء هذه الانتخابات، ولكن حتى ولو كان ذلك ممكناً، فإن من الضروري إحياء منظمة التحرير حتى يكون لهذه الانتخابات معنى. ومهما بدا ذلك خالياً من الجاذبية، فإن المطلوب أولاً هو الإجماع والاتفاق بين الأطراف الرئيسية على الحركة الوطنية والمشروع الوطني والبرنامج الوطني، وحينها نستطيع أن نقترع على من هو المؤهل لقيادة هذا المشروع وتنفيذ هذا البرنامج، أما البديل فسيكون مشروعاً وبرنامجاً تعاد كتابته من الألف إلى الياء من قبل الطرف الفائز في الانتخابات. وبالمصطلحات التقليدية نحن بحاجة إلى مبادئ دستورية أساسية محصنة من نتائج الانتخابات القادمة.
فيما يتعلق بالأراضي الفلسطينية المحتلة تحديداً، يتوجب على مؤيدي إجراء انتخابات السلطة الفلسطينية أن يقدموا إجابات مقنعة عن عدد من الأسئلة المحددة: إذا كانوا يعتقدون بأن الانتخابات ستسهل المصالحة، فكيف سيضمنون أنه ليس فقط "فتح" و"حماس"، بل أيضاً، وأكثر أهمية، إسرائيل، لن تمنع إجراء حملات انتخابية حرة ونزيهة، وعملية اقتراع تضمن مشاركة جميع الفلسطينيين في الضفة الغربية (بما في ذلك القدس الشرقية) وقطاع غزة؟ وإذا كان الهدف حكومة يختارها الشعب، فما هو اقتراحهم لضمان أن الفائزين الذين تعارضهم إسرائيل لن يجبروا على ممارسة الحكم من داخل الزنازين؟ إن إسرائيل بمثابة "قطيع الفيلة" في كل غرفة، ولكن عند مناقشة موضوع الانتخابات فإنها غالباً ما تعامل كأنها نملة وحيدة. إن طرح الحلول لا يتطلب فقط التزامات تبرهن أنها يمكن أن تطبق عملياً، ولكن أيضاً كيفية التغلب على التحديات الرئيسية.
بما أن المقارنات مع جنوب إفريقيا أصبحت أمراً دارجاً بين الفلسطينيين، فإنه مما يستحق أن نتذكره أن نظام الأبارتهايد- الفصل العنصري قد استسلم قبل الانتخابات وليس بعدها، وأن نلسون مانديلا قد انتخب رئيساً لدولة كان قد تم التفاوض والاتفاق مسبقاً على دستورها ومؤسساتها. وفي الواقع فإنه من المفيد هنا المقارنة مع مصر وتونس، فالأخيرة سارعت إلى صندوق الانتخاب قبل تحقيق التوافق على معالم تغيير النظام وشكل الدستور الجديد، وكانت النتيجة التي لا تثير الدهشة هي حدوث تغيير غير كاف في النظام القائم، ومحاولة الفائزين في الانتخابات فرض نظام سيطرة جديد، وتصاعد الصراع الداخلي.
والخلاصة أن الانتخابات الفلسطينية ليست كالانتخابات التي تجرى في البرازيل أو السويد، وما لم تُجرَ كفعل مقاومة على يد حركة وطنية ديناميكية بأجندة سياسية واضحة، فإنها، في أحسن الأحوال لن تحقق شيئاً لا للحركة الوطنية ولا لأجندتها. وفي ظل الانقسام الحالي فإنها لن تحقق شيئاً إلا إذا تم التوافق على أسس المصالح وتطبيقها. إن الترويج للانتخابات لن يكون له معنى إلا إذا كان هناك اتفاق مسبق بين القوى المتنافسة بشأن ما تدور أو لا تدور حوله هذه الانتخابات. إن الانتخابات في الواقع الفلسطيني الحالي هي أداة تكتيكية وليست مبدأ استراتيجياً.
هذا يعني في الواقع العملي أن الأولوية الفلسطينية تظل التوصل إلى اتفاق سياسي عن طريق الحوار والمفاوضات، بين "فتح" و"حماس" حول أسس المصالحة، وكذلك بين هذين الطرفين الكبيرين وبقية مكونات الطيف السياسي الفلسطيني حول طبيعة وأهداف الحركة الوطنية والبرنامج الوطني، ولكن ليست هناك احتمالية لأن يتحقق ذلك في غياب ضغط حقيقي و/ أو تغيرات على الأرض تجعل هذه الحركات تستخلص أنها ستخسر من الإبقاء على الوضع الراهن أكثر مما ستكسبه لو تحركت في هذا الاتجاه.
في ضوء شمولية الأزمة الفلسطينية، فإن الإجماع الذي لا يفعل أكثر من التعبير عن القاسم المشترك الأدنى ويتجنب أي خلاف سيثبت أنه غير مجدٍ ومؤقت بنفس الدرجة. لا يوجد سبب يمنع الغالبية من السيطرة، كما كان الحال غالباً في السبعينيات والثمانينيات، شريطة ألا تجد كتلة المعارضين نفسها مضطرة إلى الانسحاب من الحركة. هذه العملية يجب أن تقود، بدورها، إلى إحياء أو بناء قيادة شرعية ومؤسسات شاملة مخولة بالتفاوض والمصادقة على تفاصيل ما سبق، وممثلين قادرين على حشد الشعب الفلسطيني وكامل موارده من أجل الكفاح في سبيل تقرير المصير والحقوق الفردية. وما أن يوضع الحصان أمام العربة، يصبح من الممكن والواجب أن يتم التفكير في أهمية وضرورة كل أنواع الانتخابات.
[عن موقع "مسارات" للنسخة الإنجليزية يمكن الضغط هنا]