رزحت المجتمعات العربية لعقود عدة تحت وطأة القوانين الإستثنائية المقيدة للحريات السياسية. لذلك ما أن قامت الثورات والانتفاضات العربية الأخيرة حتى تعرضت هذه القوانين (وخاصة قوانين الطوارئ ومحاكمها التي تعرف في مصر بإسم محاكم أمن الدولة طوارئ) إلى هجوم عنيف في كافة أرجاء العالم العربي، ما أدى إلى إلغاء قوانين الطوارئ في عدة دول من بينها الجزائر وسوريا، وإلغاء عدد من الترتيبات المقيدة للحريات في كلا من تونس والمغرب. لكن بغض النظر عن جدية هذه الإصلاحات، ظلت مصر بعيدة كل البعد عن هذا المسار الإصلاحي؛ فلم يتجاهل نظام <<الثورة>> المصري المطلب الشعبي الكاسح بإلغاء قانون الطوارئ فحسب، وإنما قام بإقرار قانون طوارئ إضافي منذ يومين <<في الخباثة>>.
للأسف نجح النظام الحالي بالفعل في أن يفلت بتوسعة سلطات الطوارئ بما لم يكن نظام مبارك ليفلت به منذ أربعة أشهر فقط. وعلى الرغم من أننا لازلنا نجهل أسباب ذلك، إلا أنه من الواضح أن النظام الحالي تجاهل مطلب إلغاء قانون الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر كاملة، راح خلالها يحاكم المدنيين أمام محاكم عسكرية بكثافة تعدت كثافة المحاكمات العسكرية للمدنيين في العقد الأخير من حكم مبارك، وعندما لم يكفيه كل ذلك عمد إلى سن قانون طوارئ إضافي أسماه قانون <<تجريم الاعتداء على حرية العمل وتخريب المنشآت>>.
تقييد الحريات من أجل صيانتها
أول ما يلفت النظر في هذا القانون هو استدعائه لنفس أنماط التدليس المعروفة عن النظام <<القديم>>، وهو ما يتجلى في إدعائه بأنه إنما سن ليجرم الإعتداء على <<حرية العمل>>، في حين أن الإضراب من الحريات الأصيلة التي تكفلها كل الدساتير الديموقراطية. وكان أشرف لنظامنا <<الثوري>> ألف مرة أن يسمي قانونه هذا <<قانون تجريم الإضرابات والإعتصامات>> بدلا من يدعي بأنه سنه ليصون حرية أسمها <<حرية العمل>> في حين انه يجرمها فعليا.
وثاني ما يجب أن نقف عنده هنا هو أنه ربط إدعائه بصيانة <<حرية العمل>> بتجريم <<تخريب المنشآت>>، وهو ما ينطوي على تدليس كبير لأن القوانين المصرية تجرم الإعتداء على المنشآت بالفعل ولا تحتاج إلى إضافات في هذا الشأن. نحن إذن أمام قانون يعتدي على الحريات بدعوى صيانتها من الإعتداء وفي نفس الوقت يقدم نفسه على أنه خرج ليجرم شيء مجرم منذ مولد القوانين المصرية. الثابت في متن القانون أنه أتى ليجرم، لا ليقنن، حق الإضراب، بما فيه من حق لإيقاف العمل، الذي هو حق ديموقراطي أصيل لا تجرمه الدول ديموقراطية، بل تتعفف حتى جمهوريات الموز عن تجريمه، بما في ذلك نظام مبارك نفسه الذي لم يجرم هذا الحق بشكل مباشر من قبل.
منبثق عن دستور من؟
وتتجلى أهم أسانيد هذا القانون الجديد في إستمداده لشريعته من قوانين أخرى والأطر الدستورية الخاصة بمرحلة ما بعد الثورة، وردت في ديباجة القانون على النحو التالي: <<بعد الاطلاع على الإعلان الدستوري الصادر بتاريخ ١٣/٢/٢٠١١ وعلى الإعلان الدستوري الصادر بتاريخ ٣٠/٣/٢٠١١، وعلى قانون العقوبات والقانون رقم ١٦٢ لسنة ١٩٥٨ بشأن حالة الطوارئ>>. وهو ما يعني، أولا، أن الإعلان الدستوري هو مصدر شرعية هذا القانون. وبما أن النظام الحالي طالما تغنى بأن الإعلان الدستوري إستمد شرعيته من الإستفتاء الشعبي، فيمكنه في هذه الحالة أن يصور القانون محل النقاش على أنه نتاج عملية ديموقراطية متجذرة، أو <<عرس للديموقراطية>> كما يسمونها أحيانا.
لكن من يدقق في الإعلان الدستوري الذي يستند إليه هذا القانون يكتشف أن هناك مادتين فقط يجيزان سن مثل هذا القانون المستبد: أولهما المادة ١٦ التي تنص على أن <<الاجتماعات العامة والمواكب والتجمعات مباحة فى حدود القانون>>. وهنا تبرز عبارة في <<حدود القانون>> التي تحيل حرية التجمع والتظاهر والمسيرات (التي تشير لها المادة بإسم <<المواكب>>) إلى قوانين لا يفصل الإعلان الدستوري لها أطر أخرى تنظمها، وإنما يحيلها إلى المادة ٥٦ التي تحكر حق التشريع على المجلس العسكري ليشرع لها كيفما يشاء. وهنا يحق للمجلس العسكري منع التظاهر في الحر والبرد، مثلا، إذا ما تراءى له ذلك، طالما قدم لذلك مبررا يستند من حيث الشكل على الأقل إلى المصلحة العامة؛ أو أن يقصر ممارسة هذا الحق عند بوابات طريق مصر-إسكندرية الصحراوي حتى لا يؤثر في حركة المرور (وهذا مبرر قديم)، أو أن يمنعه في الأيام التي تشهد مباريات الدوري العام، أو يمنع التظاهر بجوار الميادين حتى لا توثر على مزروعاتها، إلخ...
ما يهمنا هنا هو أن الإعلان الدستوري أعطى المجلس العسكري بالفعل الحق في تحديد حدود ممارسة حق التظاهر والإعتصام كيفما يتراءى له، وذلك بموجب مادتيه ١٦ و٥٦. وهنا يجب ألا يفوتنا أن هذه المواد من المواد الخمسين التي أضافها المجلس العسكري بشكل فوقي على الإعلان الدستوري بعد الإستفتاء، وهي مقتبسة بشكل واضح من دستور مبارك بعد تعديله على مقاس المجلس العسكري. بمعنى آخر، إن المواد التي تجيز سن مثل هذا القانون المستبد كلها من المواد التي لم يستفتى عليها الشعب أصلا. ومن الملفت أننا كنا نعترض على العمل بدستور مبارك القديم حتى ولو بشكل مؤقت لما يمنحه للرئيس من سلطات جزافية، إلا أننا لم نتخيل أن يكون أول تطبيقاته المستبدة في مجال تقييد الحريات السياسية بهذا الشكل، ومن قبل النظام الإنتقالي لا الرئيس القادم، فتوقع ذلك كان بحاجة لخيال أكبر من طاقتنا على ما يبدو.
هو قانون طوارئ من حيث الشكل والمضمون
لكن تظل أهم الاشارات الواردة بهذا القانون على الإطلاق هي اشارته إلى قانون الطوارئ الذي يستمد منه شرعيته بشكل مباشر، والذي ورد ذكره بشكل مفصل كما ذكرت من قبل. كذلك ورد ذكر حالة الطوارئ كسياق أساسي لهذا القانون بما يؤكد على إرتباط هذا القانون بسريان هذه الحالة، فهو مبني على معاقبة <<كل من قام أثناء سريان حالة الطوارئ>> بعمل كذا وكذا.
هذا يعني أن القانون الجديد يعرف نفسه بشكل مباشر وصريح على أنه قانون طوارئ، ويقر أن مجال تنفيذه محكوم بحالة الطوارئ، وإن كان يفعل ذلك بشكل جبان (الصراحة تقتضي ذكر ذلك في اسم القانون نفسه، راجع ما قلته عن أسمه اعلاه). وبذلك يكون النظام الجديد قد قام بسن قانون طوارئ إضافي دون أن يعلن عن ذلك بشكل صريح. ولنا هنا أن نتساءل عن إنحيازات نظام لا يتجاهل المطلب الشعبي بإلغاء قانون الطوارئ فحسب، وإنما يتجاوز ذلك إلى توسعة مجال الطوارئ بما يفوق ما كان معمول به أيام نظام مبارك، في الوقت الذي يطالب فيه الجميع بإلغاء قانون الطوارئ القديم أصلا. وما هي طبيعة نظام يرفض أن يصارح الناس بحقيقة قوانينه، فحتى الآن يغيب عن معظم الناس أن المجلس أجاز قانون طوارئ جديد، وفي ذلك ما يفوق ألاعيب مبارك نفسه.
معاقبة كل أوجه النضال العمالي
نحن إذن أمام قانون طوارئ جديد يقيد الحريات تحت مسمى الدفاع عنها ويبرر ذلك بتجريم <<تخريب المنشآت>> التي تجرمها القوانين بالفعل. ويعاقب هذا القانون <<كل من قام أثناء سريان حالة الطوارئ بعمل وقفة أو نشاط ترتب عليه منع أو تعطيل أو إعاقة إحدى مؤسسات الدولة أو إحدى السلطات العامة أو إحدى جهات العمل العامة أو الخاصة عن أداء أعمالها>> بالحبس والغرامة. يلاحظ هنا أن النص يبدأ بتجريم <<منع أو تعطيل أو إعاقة>> المؤسسات العامة وينتهي بتجريم الشيء ذاته بالنسبة لجهات العمل الخاصة.
وهذا يعني أن من حق أصحاب الشركات الخاصة والعامة حبس أي موظف أو عامل يقوم بـ<<وقفة>> أو أي <<نشاط>> يترتب عليه <<إعاقة>> ثروات سيادته بغض النظر عن سبب الإعاقة ومدى جرم شركته في حق هذا العامل أو الموظف. كما يلاحظ إستخدام النص القانوني للفظ <<يترتب عليه إعاقة العمل>> (بدلا من اللفظ المباشر <<يؤدي إلى إعاقة العمل>>) وهي صياغة توفر مساحة أكثر رحابة للقمع من لفظ <<يؤدي إلى>>؛ فمن الممكن أن يترتب على فعل ما حدوث تعطيل دون أن يؤدي هو له بشكل مباشر، وهكذا يبدو أن قانون الطوارئ الجديد يريد معاقبة كلا الجانبين: من تؤدي أفعالهم بشكل مباشر لتعطيل العمل، ومن يترتب على أفعالهم تعطيل العمل.
كما يعاقب هذا القانون <<كل من حرض أو دعا أو روج بالقول أو بالكتابة أو بأية طريقة من طرق العلانية...لأي من الأفعال السابقة ولو لم يتحقق مقصده>> بالحبس والغرامة أيضا. بمعنى آخر، ليس من الضروري أن تشارك في نشاط يؤدي فعليا لإيقاف العمل، بل يكفي أن تحرض <<بالقول>> على ذلك، حتى لو لم ينتج عن ذلك أي إيقاف للعمل بالفعل--بمعنى آخر، ليس من الضروري أن تتحقق الجريمة لكي تعاقب؛ ستعاقب على ما خرج من <<بقك>> بغض النظر عن النتيجة. وهنا نلاحظ نفس رحابة <<يترتب عليه>> في إستخدامهم للفظ <<حتى لو لم يتحقق مقصده>>، وهو لفظ غريب جدا يحاسب الناس على نياتهم.
الأنكى من ذلك هو أن هذا التجريم يشمل بشكل ضمني كل من يقومون بحملات مقاطعة لشركات بعينها، كتوزيع بيانات مقاطعة أمام محلات <<ستار بكس>> أو <<ماكدونلدز>> مثلا، حيث يحق للمالك في هذه الحالة أن يدعي أن أنشطتهم أعاقت العمل وعطلته وأن <<نية هؤلاء النشطاء ماكنتش صافية>> فما بالكم لو نجحوا بالفعل في إثارة الزبائن ضد هذه الشركات بما <<يترتب عليه>> إعاقة العمل. كما يمكن تحت هذا البند معاقبة كتاب المقالات الذين يحفزون الناس على الإضراب من أجل تحقيق مطلب محدد، حتى لو لم يقام هذا الإضراب من الأساس.
ثم يعرج هذا القانون <<بالمرة>> على تجريم الإضرار <<بالسلام الاجتماعي أو الإخلال بالنظام أو الأمن العام>> دون أن يعرف أيا من هذه الأفعال. فحتى الآن لا نعرف ما يقصده بـ<<الإضرار بالسلام الإجتماعي>>، هل يشمل ذلك التحريض ضد حيتان البيزنيس مثلا؟ هل يعتبر التحريض ضدهم تحريض طبقي مرفوض لأنه يخل بالسلام الإجتماعي؟ فكثيرا ما أستخدم النظام السابق لفظ <<السلام الإجتماعي>> هذا للدفاع عن مكتسبات الأغنياء وتجريم النضال على أساس طبقي. وما معنى <<الإخلال بالنظام>>؟ هل نحبس الآن إذا تظاهرنا تحت شعار <<الشعب يريد إسقاط النظام>>؟ أم المقصود هنا شيء آخر بعيد عن خيالنا؟ في كل الأحوال مثل هذه التهم موروثة بشكل مباشر من نظام مبارك الذي طالما أتهم النشطاء بالإخلال بالأمن العام والإضرار بالسلام الإجتماعي. (يجرم القانون كذلك إثارة الفتن الطائفية، لكن هذه النقطة أكثر تعقيدا وتحتاج لمقال خاص لأنها غالبا ما وردت في هذا القانون حتى يسانده الناس).
إزدواجية المعايير والنحياز الطبقي أساس قانون الطوارئ الجديد
يبدو أننا سنترحم على صدق نظام مبارك وإتساقه مع نفسه. فنظام مبارك لم يقدم نفسه أبدا على أنه <<حكومة الثورة>>، ولم يدعي أبدا أنه يصون <<الشرعية الثورية>>، ولم يتملق المتظاهرين في ميدان التحرير، إلا أنه لم يكن ليجرؤ على سن قانون طوارئ إضافي كهذا في أي حال من الأحوال. ولم يكن بحاجة في أي وقت من الأوقات لأن يؤسس لقانون طوارئ إضافي يبرر تقييده للحريات بدعاوى مبتذلة عن صيانة الحريات. ولأن نظام مبارك كان مستبدا وفاسدا بشكل متسق مع نفسه لم يتوانى لحظة في الدفاع عن الطوارئ على ما هي عليه، دون أن يخفي ذلك عن الناس أو يصدره في الخباثة فتعرف به الناس بالصدفة عندما ينشر في الجريدة الرسمية. كذلك كانت ديكتاتوريته دائما ما تضعه في موقف دفاعي ولذلك لم يجرؤ على تجريم حق الإعتصام بشكل مباشر وما يرتبط به من إيقاف للعمل حتى في ذروة النضال العمالي--بل أحيانا ما كان يضطر لتلبية بعض مطالب العمال.
أما النظام <<الثوري>> <<الجديد>> فحدث ولا حرج. فعلى الرغم من أن <<حكومة الثورة>> لم تقدم أية حلول ملموسة للعمال حتى الآن، ولم تتبنى حتى الحد الأدنى للأجور الصادر بحكم قضائي ولو من حيث المبدأ (كان يمكن أن تتبناه من حيث المبدأ وتطالب العمال بالإنتظار لحين تتمكن من تنفيذه لو كانت صادقة) ولم تبلور أي تصور لحل مشاكلهم، ولو حتى في شكل خطة مستقبلية، نجدها تشرع لمعاقبة النضال العمالي بالحبس والغرامة.
كذلك قام النظام <<الجديد>> بإيقاف المئات من النشطاء (١٧٠ في يوم ٩ مارس وحده) في عدة مناسبات وإحال العشرات منهم إلى محاكمات عسكرية حكم عليهم فيها بالحبس المشدد لمدد طويلة (أحيانا من أول جلسة) عقابا لهم على إعتصامهم. وحول عدد آخر من المواطنين إلي نفس المحاكمات بتهمة البلطجة، هذه التهمة الجديدة التي لاقت رواجا غير مسبوق مع بزوغ نجم النظام <<الثوري>>. لكن في الوقت نراه يتأنى مع الفاسدين وكل من يعتقلهم من علية القوم ويحيلهم إلى محاكم مدنية حتى لا يظلم منهم أحد، ويسوق لنا هذا التأني كدليل على عدله. بل وصلت بهم البجاحة إلى حد إحالة بلطجية الحزب الوطني إلى محكمة مدنية فيما عرف بحادثة <<موقعة الجمل>> في الوقت الذي أحالوا فيه كل من لقبوه بـ<<بلطجي>> لمحكمة عسكرية تنسف مستقبله من أول جلسة.
بمعنى آخر، إذا كنت من بلطجية الحزب الوطني أو ممن قتلوا الثوار أو من علية القوم تحاكم أمام محكمة مدنية حتى لا تظلم (ويخلى سبيلك بكفالة أيضا وتتمتع بخدمات أفض المحامين)، أما إذا كنت من صغار البلطجية فتحال إلى محكمة عسكرية فورا تحكم عليك بعد جلستين. وظلت هذه الإزدواجية (على نفس التهمة) تحكم عمل النظام <<الجديد>> منذ أن تبوأ مقاليد الحكم حتى فض إعتصام ٩ أبريل بالقوة، وهنا أحال النظام عدد من صغار <<البلطجية>> والنشطاء للمحاكم العسكرية، كالعادة، وأتهم رجل الأعمال إبراهيم كامل بالتخطيط لأعمال البلطجة في نفس الحادثة أيضا، لكنه سرعان ما أحاله لمحكمة مدنية بتهمة تورطه في <<موقعة الجمل>>. وهذا يكشف مستوى الإزدواجية فيما يتعلق ليس فقط بنفس التهمة ولكن في نفس الحادثة أيضا.
لذلك ليس من المستغرب أن يصدر مثل هذا النظام قانون طوارئ جديد ليستخدمه في التنكيل بالناس الغلابة (مجال هذا القانون لا ينطبق أصلا على علية القوم)، فيكفي إزدواجيته في التعامل مع <<البلطجية>> الكبار والصغار للدلالة على أن هذا جزء لا يتجزأ من إنحيازاته العميقة. وهذا ما تظهره أيضا سياساته الاقتصادية التي تظل منحازة لأغنى الأغنياء وضد الفقراء، بالضبط كما كانت سياسة مبارك منحازة لهم. فكما يظهر للجميع لم يقدم النظام <<الجديد>> على خطوة واحدة ولو صغيرة نحو تحقيق العدالة الإجتماعية، ولم يستعيد مليم واحد من الثروات المنهوبة حتى الآن.
وهنا تستوقفني حقيقة أخرى وهي أن المجلس الموقر لم يصدر حتى الآن سوى قانونين هامين، كلاهما أكثر إستبدادا من الآخر: قانون تغليظ عقوبة البلطجة (وهذا القانون طبق بشكل جز افي على النشطاء الذين رفضوا فض الاعتصامات بعد إتهامهم بالبلطجية)، وقانون تجريم الإضرابات محل الحديث هنا. لكنه في الوقت ذاته عجز تماما عن إصدار أية قوانين تقدمية، مثل تعديل نظام الضرائب بشكل تصاعدي، أو وضع حد أدنى للأجور، أو قبول الحد الأدنى للأجور من حيث المبدأ (كما قلت من قبل)، أو وضع حد أقصى للأجور ولو في مجال العمل العام، إلخ... (على سبيل المثال، نقلت الصحف مؤخرا أن دخل وزير الداخلية وحده كان يصل بشكل قانوني إلى مليون ونصف المليون جنيه في الشهر، ومساعدة وزير المالية كانت تتقاضى نصف مليون جنيه شهريا، ولا نعلم كم تتقاضى قيادات الجيش والداخلية والعمل العام الأخرى).
كل ما صدر عنهم حتى الآن ينحصر في قوانين ردع واستبداد، وهذا ليس وليد الصدفة لأن رفضهم إصدار قوانين تقدمية يتطلب بالضرورة زيادة جرعة الاستبداد لإحكام قبضتهم على شعب متعطش للعدالة. إن انحيازاتهم الاقتصادية تتطلب بشكل شبه تلقائي إصدار قوانين استبدادية تجرم نضال الناس الغلابة، وخاصة العمال لأنهم يمثلون الفئة الأكثر إستفادة من إتمام الثورة. هكذا لم يأتي إصدار قانون الطوارئ الجديد من فراغ، بل أتى كإمتداد طبيعي لإنحيازات نظام يتعمد عدم التطرق بأي شكل من الأشكال (ولا حتى بالحنجوري) لإعادة توزيع الثروة وتحقيق العدالة الإجتماعية...لكن الجديد هنا هو إفلات هذا النظام بقانون الطوارئ الجديد بشكل لم يكن نظام مبارك ليفلت به، لدرجة أن الناس لم تلاحظ أن النظام أصدر قانون طوارئ إضافي يستهدف به تقييد النضال العمالي.