أسير فيَّ غريبًا عني، حرًا مني، مما تعلق بي وسمى نفسه عاملي، فلا شأن لي بما هو لي، أتأملني كغريب أرتشفني بهدوء ورتابة كغلو القهوة، وبذج السيجارة. لا زوايا لي في هذا العالم، أنزلق بين الهواجس والهزائم والحيرات، كبقعة زيت طافية على سكح المكان واللغة. بدأت تلك الحالة من "اللا مسمى"، اللاوصف اللالغة، حيث الأشياء والأشخاص والمعارك لها حضور شامل فيما وراء لغتها وعلاماتها إطلالة المدلول وتحرره من الدال و سطوته، يطل من خلالها الوجود الحر و كأنه بلا تاريخ أو معرفة أو ظل، فيصير قابلاً لأن يتعرى من كل ما تعلق به من مماحكات الإنسان. حضور غض، بري، متوحش ... والأهم أنه حر.
هنا يكون الإيقاع هو السابق على الزمن، هو الإتساع والمدى هو اللامسمى، الحر المتجرد.
الموسيقى إتساعي، حيز أفضي به إلى المزيد من المجهول فيَّ، إلى ذواتي المتجددة والمنطلقة كأفراس من ضوء، تحررت من أسماءها، وما علق بها مني، فلم أجد ما أعرفه فيَّ من تعدد مسمى، وجدتني في تحرري من كل إسم مررت به يوماً أو مر بي.
فأسير فيَّ دون إسمي ورسمي، ثمة إتساع بين ذاتي وأول مواثيق الكون خارجي: حواسي، كل ميثاق لحاسة من طينتي يسير حراً في المدى، فيغدو عالمي أوسع، ومداركه فيَّ حرة من مهادناتها ، فأدرك الله بالماء ، و المسافات بالتنهيدة، و الأزرق برائحته، و الشوق بملمسه. ذاك الإتساع هو نصي الآخر لذاتي، لا أصبح فيه أنا سيد علاقاتي بي، هو نص إنتصار بهزيمتي، بتساميَّ في هذا الجسد.
ألفتي هاهنا مختلفة، فهي ليست إرتشاحاً لمعرفة، وإلا وقعتُ ضحية الخوف من الأكيد، ألفتي هاهنا هي وجه غربتي المطمئن لمجهوله. فليس ثمة "هنا" و"الآن"، هنا فلا تعريف لهما إلا بالإتساع و المدى.
هنا، رحم، إتساع ومدى تنعتق حواس ساكنه قبل أن يدرك ما يجمعهم من "جسد" يؤالف تناقضاتها، فلا يغدو كيانًا ذاتياً بقدر ما يتماهى مع فكرة الرحم، حيث أنه خروجٌ عن تقاليد الموت والحياة وإنهياراتهما الشحيحة، على هدير أفراس الحلم والسكنى الراكضة في إتساع هذا الحد.
أسكن إليَّ في الهناك، أتأملني ببطء مطمئناً كالصمت
بقلق المسافر وحريته،
مسافر لا يملك من أمامه إلا ما بعثره من خلفه، فلا يخرج من مكانٍ كاملاًن ولا يلج مكاناً كاملاً
لا تمام هناك، يسير خفيفاً على الأرض كملاك الموت.
هنا، في الرحم، أتحرر من نزق الإنساني فيَّ لترويض البيولوجي فيَّ، ليعدو الأخير، ملقياً وشاح ترويض المكان باللغة، فالإنسان مكان. وأنا هنا خارج مماحكات الحياة والموت، هنا بيولوجيا مطلقة، لا تعريف لها، برغم إجتهاد القداسة والعلوم. فتلقي المعارف والتراتيل تعاويذها لتتأبد اللعبة وتُصلب الرهانات على أبواب وكهوف، ومواسم حج ونفخ.
هنا "خارج" البشري المحكم، يسألني سؤال وجودي عن مفهوم البشر للبشر، سؤال وإن بدا يقينيًا، إلا أنه يخبيء تحت دثاره عدميته الفعل ورد الفعل، فالبشر إمتحان لخيبة اليقين، فكيف لي أن أجيب على تساؤلٍ معلق بين "جهة الله" و"استواء العرش على الماء" من الماء الرحمي، حيث خلق الكون من ست إيقاعات.
هنا يقف الإيقاع سداً يترك لانهمار المعنى خرس اللغة و انحباس بطشها، فلا تقف إلا الموسيقى عماداً لهذه السماء، لتسقط عن الآلهة أوراق التوت، وعن آدم معرفته، ليتقاسما بهاء السمسم الساخن في رغيف خبز، تحت إحدى جسور مدننا العويل.
في الإيقاع الماء تأليب للهزيمة على خيالها، ونحن المهزومون، فتدلف إلى محراب الأخير عارية في خشوع، فتخلع عنها عتلاتها وعربات حربها وتروسها ومساطرها و شيوخها و علمائها و أحذيتها.
فأمتطي خيول شوقي، إذ تصهل في المدى و الإيقاع، و أركض إلى هواجسي بجيوش من حواس، فما من إمرأة أحببتها إلا وسأحبها ثانية، وما من شهقة انتزعتني إلا وسأراودها ثانية، وما من دمعة بذرتها إلا وسأبذرها ثانية، وما من ثمالة تلبستني إلا وسأثملها ثانية، وما من قهقهة علقتها في نحر إحداهن المسروق من مدينة إلا وسأعيد تعليقها على ناحية نفس التنهيدة، وما من هزيمة أصابتني إلا وسأترك لها شباك وحدتي مفتوحاً على المزيد من غوايتي.