في تغطيتها للإحتجاجات في العراق، نشرت مجلة الإكونومست مقالاً تحت عنوان "حتى بلد تعم فيه الديمقراطية غير مصون من الإحتجاجات." والمقالة تصف العراق كبلد يتمتع بحكومة منتخبة، ومع ذلك فان التظاهرات تعمه بسبب فشل الحكومة في توفير الخدمات الأساسية. وتعكس هذه المقالة إتجاهاً عاماً في فهم الوضع العراقي في الصحافة السائدة. فالمظاهرات في العراق -إن تم تغطيتها أصلاً - تصور على إنها ضد إخفاقات الحكومة في توفير الكهرباء والأمن والخدمات فقط. وهذه الصورة تغفل حقائق جوهرية تتعلق بالعراق والإحتجاجات. فمن مطالب العراقيين الأساسية: إنسحاب القوات الإميركية الفوري من العراق وإسقاط نظام المحاصصة الطائفي. وهذا الإغفال ليس إعتباطياً أو سهواً. فعدم الإشارة الى الإحتلال والتركيز على غياب الخدمات يقدم صورة "إيجابية" عن العراق: فالعراقيون ضد الفساد وعنف الحكومة وغياب الخدمات فقط، حالهم حال أقرانهم في مصر وتونس. فهذه الصورة تغيب الإحتلال ومطالبة العراقيين برحيل القوات الأميركية، كما إنها تعتبر، ضمناً، الإنتخابات في العراق نزيهة ودلالة على وجود ديمقراطية وشفافية.
والكلام عن وجود ديمقراطية في العراق في مجلة تعتبر متوازنة في تغطيتها للشرق الأوسط يعكس هيمنة خطاب الديمقراطية الذي روجته الحكومات الأميركية في غزوها وبقاءها في العراق. فالعراق لا يتمتع بالديمقراطية منذ 2003 فحسب، بل هو حالة نادرة في المنطقة بحسب المجلة، مما يجعل المظاهرات ومطالب العراقيين جزءاً من هذه الديمقراطية! وبالإضافة الى ذلك، يغفل خطاب الديمقراطية وجود قوات أجنبية في العراق خلال الثمان سنوات الماضية، وما قامت به من قتل وإرهاب للمدنيين ومن نهب لثورات البلد. وبالفعل حال العراق مختلفة عن المنطقة. فالعراق تحت إحتلال منذ ثمان سنوات سبقته عقود من الدكتاتورية والحروب والحصار المدعومة من قبل الحكومات الغربية. فالكلام عن الديمقراطية وعدم ذكر الإحتلال يبرئ الحكومة الأميركية على الأخص من أي مسؤولية في تدمير العراق، كما انه يعتبر العيش تحت الإحتلال أمراً عادياً لا يستحق أي ذكر.
في أعقاب الإحتجاجات في مصر على الأخص والتي أطاحت بالرئيس حسني مبارك، بدأت الدعوة للتظاهر في مختلف المدن العراقية. وصار "يوم الغضب العراقي" في 25 شباط/فبراير في ساحة التحرير في بغداد نقطة تحول، إذ أصبحت التظاهرات والإحتجاجات ظاهرة يومية. ولقد أثبتت هذه الإحتجاجات إختلاف الشعب العراق عن حكومته وعن رغبته في الثورة ضد هذا النظام الفاسد - سواء في كردستان أو بغداد - والذي يسعى جاهداً إلى التمديد للقوات الأميركية. ولم يتوقع الكثيرون، في أول الأمر، خروج مظاهرات في العراق على شاكلة التظاهرات في مصر وتونس. ومصدر هذه النظرة السلبية لإمكانية أي عمل سياسي شعبي في العراق - في ظل المحاصصة الطائفية وسيطرة الميليشيات والأحزاب المذهبية والإثنية على العملية السياسية - هو الشك بقدرة العراقيين على خلق حيّز عام ومشترك بعيداً عن التمذهب، وكذلك الوضع السياسي الراهن. فالإنتفاضات العربية في مصر وتونس على الأخص كانت عفوية، ولم تواجه قوى كبرى وخارجية في طريقها في البداية. فالمصريون في البدء كانوا في مواجهة النظام المصري فقط (وذلك قبل الثورة المضادة التي قادتها وتقودها الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية). وهذا الوضع لم يتوفر للعراقيين. فنقطة البداية للعراقيين كانت معقدة وفي صلب اللعبة السياسية الدولية: فالعراق ساحة معركة لقوى مختلفة وعلى رأسها الولايات المتحدة، إيران والمملكة العربية السعودية، وكان على الإنتفاضة العراقية، من اللحظة الاولى، مواجهة "المصالح العالمية."
وبعد الإحتجاجات الكبيرة في ساحة التحرير في بغداد في 25 شباط/فبراير، عمت التظاهرات معظم المدن العراقية بما في ذلك كردستان. وتنبع أهمية المظاهرات في كردستان من واقع الحال هناك: فأكراد العراق، شأنهم شأن بقية العراقيين، يعانون من غياب الخدمات والبطالة والمحسوبية والهدر. فحصول هذه التظاهرات في المدن الكردية يكشف عن خواء "قصة نجاح" كردستان. فالحزبان الكرديان الحاكمان، كالسلطة في بغداد، لا يكترثان لمصالح الشعب ولا يتورعان في إستعمال القوة المفرطة ضد المتظاهرين. فكردستان دائماً تسوق على انها واحة للديمقراطية وعلى انها المكان الوحيد في العراق الذي يتمتع بالحياة الطبيعية على عكس المناطق العربية في العراق والتي تصور دائماً على إنها غير مستعدة للديمقراطية بعد. ولكن مطالب المحتجين هناك والعنف المستخدم ضدهم تعكس الوضع المزري السائد. فكردستان هنا تصبح جزءاً من العراق مرة أخرى: فعلى الرغم من إختلافهم الإثني، فعامة الأكراد يواجهون المصاعب اليومية نفسها التى يواجهها العراقيون في باقي أنحاء العراق، ويعيشون تحت رحمة الميليشيات والأحزاب.
وعلى الرغم من أهمية هذه الإحتجاجات، فالطريق أمام العراقيين أكثر من صعب. ولعل التطورات في البحرين خلال الشهرين الماضيين - والتي تتمثل بدخول القوات السعودية لدعم السلطات البحرينية في قمعها للشعب وبتزكية أميركية - تظهر صعوبة أي تغيير حقيقي. فالبحرين مثال مصغر وصارخ للعراق. وأي نظرة سريعة لتاريخ العراق خلال الأربع عقود الماضية تظهر الدور الذي لعبته المصالح الدولية في التطورات السياسية هناك. فمثلاً، التدخل الأميركي في الشأن العراقي يعود إلى عهد الرئيس العراقي الأول، عبد الكريم قاسم. فخوف الحكومة الأميركية من تزايد قوة الشيوعيين في العراق دفعها إلى دعم حزب البعث ومساعدته في تولي السلطة في الستينات. وصار العراق أكثر أهمية للولايات المتحدة والحكومات الغربية ودول الخليج بعد الثورة الإسلامية في إيران. ولم تخف هذه القوى دعمها لصدام حسين خلال الحرب الإيرانية-العراقية، ولم تكثرت لقمعه للشعب العراقي. كما انها لم تتورع عن تدمير البنية التحتية للبلد وقتل المدنيين وتلويث بيئته باليورانيوم والقنابل خلال حرب الخليج عام 1991وخلال قصفها في التسعينات. وفي إحتلالها للعراق في عام 2003 وتنصيبها لحكومة قائمة على المحاصصة الطائفية، لجأت الولايات المتحدة وحلفائها إلى الأكاذيب وخطاب الديمقراطية. وطبعاً لم يحصل العراقيون إلا على الإحتلال والعنف الطائفي والموت وشبه غياب للخدمات العامة والفساد.
وصار الحصول على عمل وتسيير الأمور اليومية - في كردستان وباقي العراق- يعتمد على إنتماء الشخص لحزب أو ميليشيا معينة، في الوقت الذي لم تجد القوات الإجنبية أو الشركات الأمنية التي جاءت معها أو هذه الأحزاب المحلية من يردعها عن إرهاب الشعب. ومنذ عام 2003، صار العراق ساحة معركة مفتوحة لقوى خارجية وداخلية. فبينما كانت الحكومة الأميركية مشغولة بعقود النفط والتبرير للحرب والتخطيط لتغيير المنطقة، كانت إيران والسعودية وسوريا تتدخل في العراق لحماية مصالحها ولضمان عدم وقوع العراق في قبضة دولة معادية. وبما ان كل قوة سياسية في العراق مرتهنة بقوة خارجية ولاهثة وراء نهب ثروات البلد، كان على الشعب العراقي ان يدفع الثمن. ومع ان العراقيين تظاهروا منذ عام2003 للإحتجاج على تدهور الأوضاع، فان الأحداث في مصر وتونس خصوصاً أعطت زخماً لهذه التظاهرات. إذ مثَل إصرار الشعبين التونسي والمصري قوة إرادة الشعب وإمكانية تحقيق التغيير. ومنذ شهر شباط/فبراير، تحدى الشعب العراق السلطات الحاكمة التي إستخدمت ولا تزال تسخدم العنف ضد المتظاهرين العزل.
ولكن الشعب العراقي، كما هو حال الشعب البحريني، يواجه قوى محلية ودولية في صراعه اليومي. فكما دخلت القوات السعودية بدخول البحرين لقمع المتظاهرين بمباركة أميركية، قامت طائرات الهيكوبتر التابعة للقوات الأميركية بالتحليق فوق المتظاهرين المعتصمين في ساحة الأحرار في الموصل. وما على المرء إلا التمني بان هذا التحليق ساعد على تهدئة مخاوف السلطة في بغداد وكردستان: فان فشلت السلطة في قمع المتظاهرين، فان القوات الأميركية ستتدخل للقيام بالمهمة!