خمسةُ أنهار في الجحيم
الفرات
(إلى الصديقين أحمد حافظ وعلي العائد)
أيّها النهر،
أين نجد شموعاً لجميع القبور،
ملائكةً تسهر على الجراح،
آذاناً إلهيّة تصغي للأنين،
لحشرجةِ الموتى في أنفاسنا؟
في دخانٍ يُموِّهُ الفَجْر
ويَرْميه كتلةَ لهبٍ فوق الوجوه،
في أشلاء طفْلٍ حالمٍ أمامَ العتبة،
وأحلامٍ مغمورةٍ بالرماد،
على ضفاف تشتعلُ
وتُحْفَرُ فيها القبور،
يُعيِّد ماؤك في الأوردة
ونظلّ نسمع أصواتنا تردّد:
الفراتُ
عذوبةٌ
تكتب قصيدتها
على أوراق الضوء.
إنها الفجيعة أيّها النهر
في المسامّ،
الهواء الذي نتنفّسهُ
يُسرِّب إلينا رسائل فرح مزوّرة.
أقاليمكَ
مرايا للأشلاء
والضوء الذي كان يلوّح بمناديله الشمسية
انطفأ في الأفئدة والوجوه.
أنينٌ ينبجسُ
كما لو أنّ بركاناً ينفجر
وتتطاير الحمم
أعيناً غاضبة فوق مدنك النازفة.
أقاليمك
مطرٌ من الرصاص
تحت سماء لا تُمطر إلا كما تُؤمر
على أرض
تُحْفر قبورها بأيدي الكلمات.
إنه ماؤك أيها الفرات
حزنُ مائكَ يهدرُ في عروق الأرض.
قويق
في مائك أيّها النهر
ماء آخر ينبع من العيون.
الأيدي المقيّدة خلفَ الظّهور
تتمسّك بضوءٍ عابر
تسافرُ معه نحو أحلامها.
مُوحلاً تتدفَّقُ أيّها النّهر
على كَتفيْ مدينةٍ
تترسّبُ أحلامُها في مائكَ
اخضراراً آخر للموت.
بشباكِ آمالنا كنّا نصطادُ الجُثث
نرفعُها على الضّفاف
نحملُها على أكتافنا إلى القبور
تحتَ سماء لامبالية
مدوّرةٍ كقذيفة المدفع
فوق أرض
لم تعد تُنبت إلا الخوف
ولا دروبَ فيها للأحياء.
قويق
يا نهْر الجثث
يا نهر احتمالات مؤجلة
مهدورة في المياه السوداء
كان ثمة نقاء قديم لمياهك
كان ثمة عذوبة
لم نعد نراها إلا في الدموع.
كنتُ قطْعةَ سرابٍ في المدينة
في بزّة خاكيّة
كنت أقفزُ فوق الأسوار بحثاً عن ليْل حلب
ولم يكن الدويّ المزروع في تمزّق الأفق
مسموعاً آنذاك.
كان في الكلمات ثقوب
في الوجوه إبرٌ تخيّط الأقنعة.
وبين أشجار الفستق الحلبيّ،
مُنكَّسَ الرأس تحت شمْسٍ محجّبة
كانَ الفضاء صخرةً على كتفيّ
والأرض هاوية تحت أقدامي.
قالوا: إنه المسير
علَّ الجسد يتروّض ويدخل قفصه المناسب.
قالوا:
مدينة ضيّقةٌ
أحلامها لا تغادر القلعة
تغرقُ ملامحها في وحل التاريخ.
وكان ماؤك أيّها النهر سؤالاً يخترقُ الحدود.
بردى
على ضفافكَ تتلعثمُ خطواتي
ورأسي، ضحيّة اللغة القديمة،
يحلمُ بمائكَ، جديداً، يتدفّق كلّ يوم.
أتسمعُ الرصاص يثقبُ الآن؟
أترى الدخان يخطُّ سيرة المدينة؟
أين كان هذا مخبأً
كمياهكَ التي لا نراها
إلا حين يغضبُ الشتاء؟
أين مياهُكَ أيّها النهر؟
أعليَّ أن أعلِّقَ صورةً
لكَ على الحائط
كي أُمجِّدَ نقاءكَ القديم؟
بردى!
ما أجمْلَ هذه الكلمة!
ما أجمْل تخيّل الوجه،
النظر إليه،
عشقه في مياهكَ الجارية!
ما أجملَ الضفاف مشتعلةً
بالأخضر العنيف!
نهر السنّ
يا نهْر الباطن
أيّ مسافات تجتازها في الأغوار
لإرواء ظمأ قديم؟
أركعُ أمامَ هديركَ
وأصلّي طالباً الغفران من المياه.
أيّها النهر
أسمعُ نقاءك يهمسُ في آذان قرى ظامئة
يُرمى أبناؤها في اللهب
ويُذرى رمادُهم في ريح الموت.
أيُّها النهر
كيف نستعيدُ الموتى من الموت؟
كيفَ نُجري ماءك في وجناتهم؟
كيف نعيدُ إليهم القلبَ النقيَّ،
الحبَّ النقيَّ
كي يظلّوا أحياء
في عناق على مدى البلاد؟
أيها النهر
يا نهر السنّ
تعرفُ في قرارة مياهك
أن الحياة أنقى من أن تُسفح
في قطرة دم سوداء.
ألْمحكَ
ألمحكَ تذرفُ
تسفحُ مياهكَ في البحر الأبيض المتوسّط
حيث يخبو الضوء حزناً على موتنا.
العاصي
أُحبُّ رنينَ حروفكَ أيّها العاصي،
الكلمةَ التي تُشَكِّلها،
سَطْوَتكَ وأنتَ تُجمْهرُ مياهك،
تحشدُها، وتوزّعها على الحقول.
لم أسمعكَ أيّها النهر
كنتَ جافّاً في وجناتي
منفيّاً عن شراييني.
لم أعرفْ أن لك حناجر
تنبعُ منها المياه
وتتدفّقُ غاضبةً
على مدى السهول.
إنّه الجفاف
أيّها النهر
ضربكَ في الصميم
والأيدي
التي حَرَفَتْكَ عن مجراك
ظلّتْ أمام عينيكَ
رمزاً لجفافٍ
يلفُّ أنشوطتَه
على أعناق المدن.
(19-3- 2013)