طوال التاريخ السياسي العراقي الحديث، عملت الأحزاب والقيادات العراقية الساعية إلى السلطة، على تحويل المواطن إلى «قاتل» من حيث يدري أو لا يدري. سلّمت خصومها الى «يد الشعب»، وشغّلت جهاز الدعاية، ومنحت علامة الرضا على أعمال العنف والسحل. وبدلاً من أن تقوم بإثبات قوّة القوانين وسلطة القضاء، أخذت تشرّع قانون الغاب في كل مناسبة سياسية.
بدايات متجددة
في صباح 14 تموز / يوليو عام 1958، قام الضباط الأحرار بثورة أطاحتْ بالعهد الملكي في العراق وأعلنتْ قيام الجمهورية الأولى. سُحلت بالحبال عند بوابة وزارة الدفاع في بغداد جثّة الوصي عبد الإله، خال آخر ملوك العراق فيصل الثاني. وكان رجلاً متعالياً ومكروهاً من الناس. وبعد يومين، سُحل رئيس الوزراء آنذاك، نوري السعيد، على يد جموع غاضبة في منطقة البتاويين في قلب العاصمة. وتتالت حوادث السحل. ففي 14 تموز / يوليو عام 1959، شهدت كركوك، في الذكرى الأولى للثورة، سحل أكثر من 79 شخصاً بحبال مشدودة بسيارات عسكرية، بعد قتلهم، فضلاً عن دفن 46 شخصاً وهم أحياء، على يد «الجبهة الوطنية» وبعض المتواطئين من قيادات الجيش، بحسب لجنة التحقيقات التي أوفدها الزعيم عبد الكريم قاسم للتحقيق بالمجزرة والتي وصفها بأنها «لم تحدث في عهد هولاكو».
أصَّل سحل نوري السعيد لثقافة ستتطور فيما بعد. لم تكن كركوك وحدها التي سحلت الخصوم، ففي آذار / مارس 1959، سُحل وقُتل نحو مئة شخص في الموصل. كان هؤلاء من القوميين الذين يناهضون حكم قاسم، وكانوا يخططون لانقلاب. سحل هؤلاء في شوارع المدينة لكي «يكونوا عبرة». ومع هاتين الحادثتين انبثق شعار (على شكل «هوسة»، وهو ترداد الجملة بشكل غنائي في المكان العام): «ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة». ومفردة «ماكو» في اللهجة العراقية تعني «لا يوجد».
عودة السحل... دون دم
دشّنت ثورة حزب البعث في العراق عهدها عام 1968 بالسحل. لكنه سحل عمودي هذه المرة وبلا دم، حيث أدخلت البلاد في دوامة متابعة وترقب دراما محاكمات شبكة تجسس اسرائيلية يترأسها اليهودي العراقي عزرا ناجي زلخا، وتُوِّجت هذه الدراما بتعليق أعضاء الشبكة على أعمدة نصبت في ساحة التحرير، قلب بغداد، ورؤوسهم مدلاة بحبال، حيث بقوا على هذه الحالة طيلة نهار كامل فرجة للشعب الذي حضر الى الساحة بأعداد غفيرة جداً، وهو مسرور بهذا النصر، دون إثارة السؤال عن الجانب القانوني والانساني والأخلاقي مع من يخالف القانون... وإن كان جاسوساً.
وبعد هذه الحادثة بأعوام قليلة، أي في منتصف عام 1973، نقلت الصحف العراقية خبر سحل جثة مدير الأمن العراقي آنذاك ناظم كزار، الذي كان يُسمّى رجل الرعب، من مكان مقتله قرب الحدود العراقية ـ الايرانية، محاولاً الهرب بعد فشل محاولته الانقلابية، الى داخل الحدود حيث كانت طائرة مروحية بانتظار نقل الجثة.
بعد هاتين الحادثتين، توقفت اعمال السحل بشكلها العلني، لكنها أخذت أشكالاً أُخرى لا تقل بشاعة، في السجون والمعتقلات والمزارع الخاصة، وفقا لما كان يتناقله بعض العاملين مع أجهزة النظام تبجحاً أو محاولة للانعتاق من تأنيب الضمير.
السحل كعقوبة شعبية
وفي نيسان / ابريل 2003، لم يمضِ الاحتلال الأميركي لبغداد من دون حادثة سحل، حيث قامت الحشود الغاضبة على نظام صدّام حسين بسحل رمزي لشخصه، إذ ساعدت دبابة أميركية بخلع تمثاله من ساحة الفردوس وسط بغداد، وقامت الحشود بسحل التمثال! لكن السحل الرمزي للرئيس لم يكن كافياً على ما يبدو بالنسبة لعائلة ابن عم صدام وصهره، حسين كامل، الذي قتل على يد أعمامه، فسرت إشاعة عززتها وكالات الانباء تقول إن أهل حسين كامل نبشوا جثة صدام حسين ما إن أعدم وسحلوها ومثّلوا بها...
وفي ظل تراخي القوات الامنية عن أداء واجباتها وفشل السلطات التام في مواجهة العمليات الارهابية التي أصبحت زاداً يومياً يحصد العشرات من أرواح العراقيين، انتقلت ظاهرة سحل الجثث في الشوارع من أنظمة سياسية سقطت بفعل انقلاب أو احتلال، إلى تعبير جماهيري عن السخط على الحكومة والأحزاب التي فشلت في إحلال دولة القانون.
إلا أن عودة السحل هذه المرة كانت معززة بسلوك عنيف بشكل مضاعف. فقد بدأت الجموع الغاضبة بتعليق الجثث بعد سحلها واحراقها امام مرأى السلطات التي لم تقم بأي فعل سوى المشاهدة. ففي شهر حزيران / يونيو الفائت، وفي محافظة ديالى شمال العراق، عمدت مجموعة من أبناء المدينة الى سحل شاب فشل في تفجير حزام ناسف كان يرتديه وسط سوق شعبي، وعلّق الغاضبون جسد الشاب على عمود كهربائي وأضرموا النار فيه، في خطوة وصفت بأنها تعبير عن سخط مزدوج ضد الحركات الارهابية وضد الحكومة معاً. وتكررت القصة نفسها في منطقتي الكسرة والشعب في بغداد هذا الشهر.
وبغض النظر عن مدى قسوة المشهد، فإن الرسالة التي حاول الساخطون إرسالها الى الحكومة وأجهزتها الامنية مفادها «نحن قادرون على محاكمة الارهاب وعلى تنفيذ احكامنا الشعبية بحقه». وهذه الحوادث فتحت مجدداً ملفات أزمة الثقة بين الشعب والحكومة. فقد اختصر أحد الشباب هذه الازمة من خلال رده على سؤال وجهه إليه أحد الصحافيين عن سبب عدم تسليم الارهابي الى الاجهزة المختصة لمحاكمته، بالقول: «لو سلمناه اليهم ستجده بعد فترة خارج السجن، إما بصفقة فساد مباشرة مع بعض المسؤولين، وإما بعدما يتمكن رفاقه الارهابيون من تهريبه من السجون التي يعشش فيها الفساد. نحن نحرقهم لكي لا يحملوا الينا الموت مجدداً». وفي كل تلك الحوادث كانت الجماهير تهلّل. وبانتقامهم لحياتهم المهددة، فقَدَ الكثير من الشباب «بكارة» إنسانيتهم التي كانت حائلاً دون ارتكاب أي فعل يدفع إلى الإيذاء أو القتل. و«كسب» الشارع العراقي أشخاصاً مستعدين لممارسات مرعبة. كل هذا كان يجري أمام أنظار قوات الأمن وبمساعدتها.
[ينشر ضمن اتفاقية شراكاة وتعاون بين جدلية و“السفير العربي“]