[تعمل "جدلية" على نشر مقاطع من أعمال ومقالات أدباء وشخصيات نتناول سيرتها في "ملف من الأرشيف". نستعرض هذا الأسبوع سيرة المفكر المصري نصر حامد أبو زيد، والذي نادى في كافة كتاباته ونشاطاته الفكرية بتغليب العقل على استعباده في تأويل النصوص القرآنية، ورفض استحواذ جماعات دون غيرها على تفسير النص وتكفير من يجادلها في ذلك. فطاله في ذلك الأمر الكثير بحيث اتُهم بالردة وحُكم عليه بتفريقه عن زوجته، فما كان له إلا أن يغادر مصر دون أن يتوقف حتى مماته عن الحث على تحرير العقل كشرط لتحرر الشعوب كما يجئ في المقتطف أدناه من كتابه "نقد الخطاب الديني" الصادر عن المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة، 2007.]
الأصل والبدء هو سلطة العقل، السلطة التي يتأسس عليها الوحي ذاته، العقل لا بما هو آلية ذهنية صورية جدلية، بل بما هو فعالية اجتماعية تاريخية متحركة. هذه السلطة قابلة للخطأ، لكنها بالدرجة نفسها قادرة على تصويب أخطائها، والأهم من ذلك أنها وسيلتنا الوحيدة للفهم. فهم العالم والواقع وأنفسنا والنصوص، ولأنها سلطة اجتماعية تاريخية فإنها ضد الأحكام النهائية والقطيعة اليقينية الحاسمة، إنها تتعامل مع العالم والواقع (الاجتماعي والطبيعي) والنصوص بوصفها مشروعات مفتوحة متجددة قابلة دائماً للاكتشاف والفحص والتأويل، ومن خلال هذا التجدد والحركة يتجدد العقل ذاته وتتطور آلياته وتنضج في جدل لانهائي مُثمر خلّاق. ولأن الخطاب الديني يدرك أن الاحتكام إلى هذه السلطة يفقده كل أسلحته، ويكشف قناعة الأيديولوجي فإنه يعجز عن الحوار على أرض العقل، ويلجأ في وجه محاولات تأسيسه في ثقافتنا – وهي محاولات تتعثر بحكم عوامل كثيرة – إلى التكفير، وهو سلاح فعّال في واقع متخلف يعاني أغلبية أفراده من الأمية التعليمية ويعاني غالبية متعلميه من الأمية الثقافية، وكثيراً ما يستسلم بعض العقلانيين لابتزاز هذا السلاح، فيلجأون إلى التقية والمصالحة مع الخطاب الديني، وهو موقف خطير في مغزاه وفي النتائج التي يؤدي إليها.
ولا سبيل أمامنا إلا أن نسعى في تأسيس العقل، لا بالخطاب وحده على أهميته، بل بكل وسائل الكفاح والنضال الممكنة الأخرى. وقد سبق في تحليلنا أن كشفنا اعتماد مفهوم الحاكمية في تأويله للنصوص على المقارنة بين الله والإنسان من خلال ثنائيات: العلم/ الجهل، والقدرة/العجز، والحكمة/الهوى. وكشفنا كيف أنّ هذه الثنائيات تستند في الخطاب الديني – اعتماداً على النصوص أيضاً – إلى ثنائية الألوهية/ العبودية، وهي ثنائية تختزل علاقة الإنسان بربه في هذا البعد وحده. ولسنا نريد هنا الالتقاء مع الخطاب الديني في آلياته أو منطلقاته، فنستشهد بنصوص أخرى تؤسس العلاقة على الحب، أو نستند إلى رأي واجتهاد آخر في التراث يؤسسها على الحب كذلك، بل نريد الاحتكام إلى العقل الذي يردّنا إلى البعد التاريخي للنصوص. وهو البعد الذي يهدره الخطاب الديني في أحكامه كلها لا في تأويله للنصوص فحسب. لقد كان المجتمع الذي جاء الوحي يخاطبه مجتمعاً قبلياً عبودياً، تعتمد العلاقات فيه على هذين البعدين اللذين يمكن اعتبار أولهما بُعداً أفقياً، واعتبار ثانيهما بُعداً رأسياً، ولا حاجة للإطالة في بيان البُعد الرأسي الذي جسد علاقة أعلى/ أدنى داخل القبيلة الواحدة، ويستوي في ذلك أن يكون العبد عبداً بالشراء أو بالأسر والاسترقاق، فلم يكن ثمة فارق في مكانة العبد إذا كان عربياً، ويجسد البعد الأفقي علاقات القبائل، وهي علاقات قامت على الصراع على موارد الثروة – أدوات الإنتاج – وهي الماء والكلأ. ومن الطبيعي في ظل علاقات الصراع أن تلجأ القبائل الضعيفة لالتماس الحماية من القبائل القوية التي تستأثر بالموارد المتاحة في منطقة تسمى ((حمى القبيلة))، ومن هنا نشأت علاقات الولاء بين القبائل، وهي علاقات تبدو على السطح أفقية، لكن لأنها علاقة أقوى/ أضعف فهي في منطقة وسطى بين البعدين الأفقي والرأسي، وقد صاغت اللغة هذه العلاقات ولذلك نجد الكلمة المعبرة عن علاقة الولاء ومشتقاتها ذات دلالة ملتبسة، فهي من الأضداد اللغوية التي تدل على المعنى ونقيضه، فألفاظ ((مولى)) تدلّ على السيد والسادة.
والنصوص أبنية لغوية لا تفارق النظام الدلالي للغتها إلاّ في حدود خاصة مشروطة بطبيعة وظيفتها المقصودة في الثقافة، لذلك من الطبيعي أن تصوغ النصوص علاقة الله والإنسان من خلال الثنائيات اللغوية/ الاجتماعية، لكن إذا كانت اللغة تتطور بتطور حركة المجتمع والثقافة فتصوغ مفاهيم جديدة، أو تطور دلالات ألفاظها، للتعبير عن علاقات أكثر تطوراً، فمن الطبيعي، بل والضروري، أن يُعاد فهم النصوص وتأويلها بنفي المفاهيم التاريخية والاجتماعية الأصلية وإحلال المفاهيم المعاصرة، والأكثر إنسانية وتقدماً، مع ثبات مضمون النص. إنّ الألفاظ القديمة لا تزال حيّة مستعملة لكنها اكتسبت دلالات مجازية، الإصرار على ردّها إلى دلالاتها الحرفية القديمة وإحياء المفاهيم التي تصوغها إهدار للنص والواقع معاً، وتزييف لمقاصد الوحي الكلية، ومن الجدير بالملاحظة أن الخطاب الديني يلجأ إلى التأويل المجازي للنصوص لنفي علاقات الحب والولاية والقرب بين الله والإنسان، في الوقت الذي يصّر فيه على التمسك بحرفية علاقة العبودية التي يؤسس عليها مفهومه للحاكمية. إنّ تأويل ما هو اجتماعي / تاريخي في النصوص شرط لتجدد النصوص ذاتها بتجدد ما هو جوهري أساسي وإسقاط ما عرضي مؤقت بالنسبة لشروط اجتماعية / تاريخية مغايرة. لقد كان المجتمع الذي خاطبه الوحي مجتمعاً تجارياً خاصة في مراكز التأثير والسيطرة الدينية، ولذلك تعكس لغته إطار المفاهيم التجارية كالبيع والشراء، والربح والخسران، والميزان، ...إلخ، ولم يتمسك أحد من القدماء، بل من المعاصرين للوحي، بالدلالات الحرفية لهذه المفاهيم، وتمّ تأويلها كما تمّ تأويل نصوص الصفات سواء بسواء.
[نصر حامد أبو زيد، "نقد الخطاب الديني"، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة، 2007]