البقاء ليس دائما للأفضل

[???? ?????? \"?????\". ????? ???? ???????? ] [???? ?????? \"?????\". ????? ???? ???????? ]

البقاء ليس دائما للأفضل

By : Amr Adly عمرو عادلي


نشر صديقي أشرف الشريف مقالاً في جدلية يستشرف فيه الوضع السياسي المستقبلي في مصر مع تأكد أنباء ترشح الفريق أول عبد الفتاح السيسي للرئاسة، وظهور علامات عدة على استقرار الأمر (ولو مرحلياً) للتحالف الدولتي السلطوي الحاكم، وقد اختار أشرف مدخل الاقتصاد السياسي لتحري التناقضات البنوية التي ستواجه مشروعات إعادة إحياء السلطوية في مصر، وقد أثار المقال لديَّ العديد من التساؤلات والأفكار، فرأيت أن أكتب مقالاً لا للرد عليه لأن مساحة الاتفاق واسعة بالفعل، إنما لمد النقاش حول طبيعة السلطوية الجديدة/القديمة في مصر. 

لا خلاف حقا مع المقولتين الرئيسيتين في مقال أشرف الشريف فثورة يناير تواجه انحساراً مرحلياً ممثلاً في اقتراب إعلان تحالف الدولة السلطوية لانتصاره بعد ثلاث سنوات من الصراع مع قوى الثورة المبعثرة، فالمزاج الشعبي اليوم هو الأقرب لقبول الدكتاتور المنتخب بغية استعادة الاستقرار بأي ثمن، والداخلية التي كانت محطاً لثورة يناير هي الشريك الأكثر أهمية وفعالية في التحالف الدولتي الحاكم بسجل انتهاكات وإجراءات قمعية غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديث على الأقل من حيث عدد الضحايا من القتلى والمعتقلين، ورغم هذا فلا سبيل حقاً للدفع بأن ثورة يناير قد فشلت، أو أنها قد انتهت إذ إنَّ ما وقع قبل ثلاث سنوات من الآن هو تجل واحد فحسب من تجليات التحولات الاجتماعية العميقة التي يمرُّ بها المجتمع المصري من آخر عقد لحكم مبارك، ومن هنا فإن الأزمة مستمرة على أصعدة عدة وجوهرها هو إيجاد صيغة لنظام سياسي واقتصادي يستوعب الفئات الاجتماعية المؤثرة التي ما فتئت تجد نفسها مهمشة ومستبعدة من المشاركة السياسية ومن المشاركة في عملية الإنتاج والتوزيع، وهذه هي مقولة أشرف الثانية أن تحالف الدولة السلطوية المكون من الجيش والشرطة والقضاء وشبكات رجال الأعمال المحسوبين على عصر مبارك قد يكون قد أحرز انتصاراً مرحلياً هاماً، وأن الأمور تبدو الأقرب لتثبيت دعائم السلطة اليوم بشكل هو الأكثر جدية منذ الإطاحة بمبارك، إلا أن نقطة قوة هذا التحالف (كونه يملك أدوات الدولة ومفاتيح الاقتصاد) هي نقطة ضعفه الرئيسية لأن إعادة إنتاج نفسه بعد انكسار الإخوان وانحسار آثار الثورة لا تعني إلا إعادة إنتاج التناقضات التي ولدت ثورة يناير في المقام الأول، وتجعل النظام الجديد/القديم في مواجهة أزمتي الشرعية والإنجاز التي وكزت نظامي مبارك والإخوان فقضت عليهما. 

بالرغم من صحة المقولتين ودقتهما إلا أنّ المقال يندفع بشكل كبير في اتجاه الحكم بأن النظام السياسي قيد الإنشاء حالياً لن ينال قدراً يذكر من الاستقرار ومن ثم لن يُكتب له الاستمرار لأنه مأزوم منذ البدء باعتباره امتداداً في كثير من ملامحه لنظام مبارك، وعلى أساس أن خياريْ النظام للتغلب على الجذور الاقتصادية للثورة غير قادرين (حال تحققهما وهو أمر بعيد نظراً لتناقضات النظام الكثيرة) على منحه الشرعية والإنجاز اللازمين لبقائه، ويتحدث أشرف عن البديلين المطروحين اليوم في أروقة التحالف السلطوي الخالي من الإخوان بعد التخلص من مرسي في يوليو الماضي، وهما النيوليبرالية في مقابل النيوناصرية، ويعدد أشرف التناقضات التي تكتنف النموذجين "السلطويين" القائمين على استبعاد المجتمع من أية مشاركة ذات معنى، وإخضاعه لسلطة وسطوة الدولة على أمل تحقق أحلام التحديث السلطوي.

ورغم صحة الطرح الذي يقدمه الكاتب إلا أن هذه التناقضات البنيوية الاقتصادية التي حتماً ستواجه النظام المدعوم عسكرياً والآخذ في التشكل لا تمنع بالضرورة الخصم من إمكانية تأسيس سلطته، وبقائه في الحكم فترة ليست بقصيرة في إطار تعددي مقيد خاضع لوصاية قضائية/عسكرية/أمنية، بل وتجنبه مصير نظامي مبارك والإخوان في السقوط في مواجهة ثورة شعبية، وذلك لعدة عوامل أرى أن المقال قد غض النظر عنها:

فأما العامل الأول فهو أن للسياسة درجة من الاستقلالية عن الاقتصاد بمعنى أن التردي الاقتصادي متمثلاً في تدهور مستويات المعيشة وارتفاع البطالة وتزايد حدة الفقر والحرمان لا تؤدي حتماً أو بطريقة تلقائية لخلخلة استقرار النظم السياسية ناهيك عن اندلاع ثورة أو انتفاضة في مواجهتها، فالسياسة وإن تأثرت بالعوامل الاقتصادية إلا أنها يظل لها مساحة ما من الاستقلالية اللهم إلا في التحليل الماركسي شديد الميكانيكية الذي لا يحيل إليه أشرف في جميع الأحوال، ومن هنا فإن السياق الذي تتأسس فيه اليوم سلطة العسكر الجديدة/القديمة هو ظرف استنزاف للمسار السياسي الذي وضعته ثورة يناير بعد انتصارها المؤقت على الدولة الأمنية، وهو ظرف انهيار كافة المؤسسات المنتخبة الناشئة عن المجال السياسي هذا الذي آل في مجمله للإسلاميين وخاصة الإخوان، فخلافاً للوضع في أوائل سنة ٢٠١١ لم يعد الكثيرون من عامة المصريين يرون أن فتح المجال السياسي كفيل بإيجاد حلول لمشكلاتهم الاقتصادية والاجتماعية العميقة بل يرى الكثيرون منهم من اللاهثين اليوم وراء أي استقرار يأتي من وراء أي استبداد أن المجال السياسي المفتوح هذا قد أنتج مؤسسات وقيادات غير قادرة على إدارة شئون البلاد اليومية على غرار ما حدث أيام مبارك، إذن فالسلطة الحالية تواجه مجالاً سياسياً قد جرى إخلاؤه من الكثير من داعميه الأوائل، ولا ننسى أن ٣٠ يونيو كانت فعلاً سياسياً ضخماً للغاية معادياً للسياسة في جوهره لأنه حتى وإن كانت هناك مبررات للقضاء المبكر على مشروع الإخوان السلطوي فإن خسائر التخلص من مرسي ستكون جسيمة على أي سلطة تنتجها انتخابات حرة في المستقبل (حال عقدها).

 ومن هنا فإننا بصدد عملية نزع لتسيس الجمهور الواسع Depoliticization وهي العملية اللازمة للتأسيس لأي سلطة سياسية بعد ظرف ثوري يشهد بالتعريف التسيس المؤقت والسريع للملايين من عموم المواطنين الذين لا ينشغلون بالشأن العام في حيواتهم اليومية، وقد كانت الديمقراطية الإجرائية بدءاً من استفتاء مارس ٢٠١١ وإلى الانتخابات الرئاسية جزءاً من عملية نزع التسيس برعاية القوى المحافظة من المؤسسة العسكرية والإخوان وقتذاك، وقد قطع الإخوان شوطاً لا بأس به في التيئيس من إمكانية أن تأتي السياسة بتغيير إيجابي (وسريع في ضوء ارتفاع التوقعات)، ثم قطف العسكريون الثمار واستلموا واقعاً يغلب عليه الكفر بالمجال السياسي المفتوح بكل ما ينطوي عليه، ومع اتساع رقعة القمع والانتهاكات غير المسبوقة في الشهور التي تلت انقلاب يوليو ٢٠١٣ فإن خيبة الرجاء هذه قد أضيف إليها الكثير من الخوف من تفشي الإرهاب وانهيار الدولة والأمن العام على نحو يدعم فعلياً من سلطة العسكريين والداخلية. لا شك أن تساؤل أشرف في محله: وماذا بعد القضاء على الإخوان والانتصار على الإرهاب؟ فعلى الرغم من أن الحرب على الإرهاب تمثل السياق الأمثل لبناء نظام أمني يقمع الاختلاف والمعارضة إلا أن بلداً كمصر لا يمكن له أن يستمر فيه كثيراً للحاجة للتعافي الاقتصادي، وارتباط هذا التعافي بعودة التدفقات الرأسمالية من الخارج، والتي ترتبط بدورها بقدر من الاستقرار السياسي، ومن هنا فإن الانتصار (أو إعلان الانتصار) في الحرب على الإرهاب ضروري وإن كان مأساوياً في الوقت نفسه. 

ومن هنا تكون نقطة أشرف في محلها أن النظام الجديد المزمع إنشاؤه بقيادة عبد الفتاح السيسي لا يملك لا القدرة ولا الرغبة حقا في إحداث تغييرات عميقة في علاقة الدولة بالمجتمع بما يحل أزمة الدولة المصرية، وهذا صحيح مئة في المئة فنظام سلطوي لا يدين لأي قوة مجتمعية منظمة بأي شئ، بل يستند بالأساس لمؤسسات الدولة التي تملك أدوات القمع، ولجمهور غير منظم مرتبط بصورة ما للقائد (أو بتجل ما للزعيم السابق عبد الناصر) ليس من المنتظر أن يتحرك ضد المصالح التي تؤسس للاستبعاد السياسي والاقتصادي في مصر منذ عهد مبارك، ولكن فليعلم الجميع أن هذا النظام سيكون هذه المرة في مواجهة جمهور منهك جرب السياسة ولم تفلح معه، وبلد شهد انتفاضة شعبية شديدة الضخامة ضد قيادة سياسية منتخبة في يونيو ٢٠١٣، ومن هنا فإن نظام يوليو (١٩٥٢)، وهو جذر السلطوية التحديثية في مصر قد نجح في إثبات أنه ليس له بديل، واللابديل هذا ممثل في الإسلاميين والإخوان على وجه الخصوص، ولهذا ثمن باهظ سيدفعه كل من يظن أنه بالإمكان العودة لدعوة الجمهور للإيمان بالسياسة وجداوها في المستقبل القريب (وربما البعيد). إن وضعاً كهذا لا ينبئ بأن الصعوبات الاقتصادية قد تقوض أسس النظام السياسي الجديد/القديم الذي يقوم على الحد الأدنى (عدم انهيار الدولة) إلا مع ظهور بديل سياسي غير الإخوان، وهو أمر وإن كان يظل محتملاً، إلا أنه ليس مرجحاً في السنوات القليلة القادمة خاصة مع بوادر إغلاق المجال العام وتشديد قبضة الأمن.

ويبدو أن التصور السائد عن الاقتصاد لدى المجموعات الحاكمة (والتي يضمها تحالف يعاني من تناقضات ستتفجر بعد استقرار الأمر له) ترى أن الحل هو في العودة إلى ما قبل ٢٥ يناير من حيث الرهان على التوصل لصيغة تمكن النظام من إدارة أزمة الدولة المالية والتعايش معها لأن حلها بالقطع أكبر من إمكانياته، وقد كان هذا هو الوضع مع مبارك بعد اتفاق نادي باريس الذي تم بمقتضاه إلغاء ما يزيد عن نصف الديون الخارجية وإعادة هيكلة النصف الآخر، فمنذ هذا الحين تمكن النظام من التعايش مع أزماته المالية وانعكاساتها السياسية من خلال استغلال تحرير ميزان المعاملات الرأسمالية لبناء احتياطيات نقدية دولارية ضخمة تكفيه حداً أدنى من الواردات، وهو أمر أساسي لصحة الاقتصاد ككل مع اعتماد مصر كغيرها من بلدان العالم النامي في أطراف النظام الرأسمالي، على استيراد الجزء الغالب من مدخلات الإنتاج بالإضافة للغذاء والوقود (منذ ٢٠٠٦ أصبحت مصر مستورداً صافياً للطاقة)، ومع الحاجة للإبقاء على مستويات المعيشة من الانحدار لمستويات خطرة سياسياً عمل فريق مبارك المالي على تمويل عجز الموازنة (مع ضعف القدرة السياسية والإدارية على فرض المزيد من الضرائب على الملكية والأرباح التجارية والصناعية ورأس المال) من خلال التوسع في الاقتراض المحلي من الجهاز المصرفي ومن بنك الاستثمار القومي الذي يحوز على أموال التأمينات طبقاً للقانون.

 خلقت هذه الترتيبات في مجملها وضعاً هشاً ولكنه قابل للاستمرار، وهو ما كان فنظام مبارك لم ينهار في ظل أزمة ندرة المواد الأساسية أو عجز الدولة عن الوفاء بالتزاماتها الدولية أو نفاد الاحتياطيات اللازمة للواردات الأساسية إنما انهار لوجود أزمات هيكلية في تمثيل قطاعات واسعة من المصريين سياسياً واقتصادياً حسبما يقول أشرف في مقاله، ويعيدنا هذا لنقطة السياسة في مواجهة الاقتصاد، ففي ظل غياب بديل وإيمان واسع بأن السياسة تحمل مفتاحاً لحل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، فمن الصعب أن تتحول المعاناة الاقتصادية لفعل سياسي يعيد رسم المشهد خاصة إذا نجح النظام السياسي في العودة للتوازن المختل إن جاز التعبير الذي يستطيع من خلاله أن يتعايش مع أزماته المالية الكثيرة بما لا يوصلها لحد الكارثة (سواء العجز في الموازنة أو الدين العام أو الاحتياطيات الأجنبية). وهو أمر مرهون بدوره بقدر من الاستقرار السياسي يراهن النظام الأمني الحالي على التوصل إليه بالمزيد من القمع ومصادرة المجال العام وإسباغ شرعية إجرائية على حيازته للسلطة من خلال مجال سياسي مقيد كما يدفع أشرف، وهو ما أتفق معه فيه تماماً. 

وينقلنا هذا إلى آخر نقاط النقد للمقال وهو الرهان على أن الإجراءات التقشفية اللازمة لإعادة هيكلة مالية الدولة في مصر ستقوض أسس النظام السياسي القادم، والذي يتراوح موقفه بين النيوليبرالية والنيوناصرية، وهو أمر لا أجده سليماً في المطلق لسببين رئيسيين: أولهما أن النظام السياسي القادم سيضطر حقاً للتعامل مع ملفات خشي مبارك ونظامه الأمني المساس بها كدعم الوقود على سبيل المثال، ورفع الإيرادات الضريبية غير المباشرة (من خلال ضرائب القيمة المضافة) وكلها إجراءات من شأنها رفع معدلات التضخم، ومن ثم التسبب في المزيد من التآكل للأجور الحقيقية والتدهور في مستويات المعيشة، ولكن ليس هناك ما يدعو للتصور أن هذه الإجراءات التقشفية سيتم تبنيها دفعة واحدة على غرار برامج التحرير الاقتصادي في الأرجنتين في التسعينيات أو تشيلي في السبعينيات، بل سيكون بمقدور النظام تكرار سيناريو بداية التسعينيات من خلال الحصول على تمويل مدفوع سياسياً من السعودية والإمارات لا يُستخدم هذه المرة في تمويل النفقات الجارية كما هو الحال منذ ديسمبر ٢٠١٢، إنما لتمويل إعادة الهيكلة، ومن المرجح أن يأخذ هذا شكل تدفق صافي لرأس المال في صورة إلغاء الديون الحالية المستحقة لبلدان الخليج، مع ضخ المزيد من الدولارات في صورة قروض طويلة الأجل أو منح ومساعدات، ومع استمرار الالتزام السياسي من الخليج سيكون بمقدور النظام الجديد (لقاء تنازلات سياسية لا يجري الحديث عنها) الشروع في إعادة هيكلة تقلل من الخلل وتعيد إليه بعض التوازن المفقود منذ ٢٠١١، ومن هنا فإنه ليس ثمة ما يمنع أن يستغل النظام الجديد المدعوم من الجيش ديناميات الريع البترولي ذاتها التي حكمت التحولات السياسية في المنطقة منذ السبعينيات من القرن الماضي. 

ويقودنا هذا إلى نقطة هامة وهي افتراض أن النيوليبرالية والنيوناصرية (على قصور الصيغتين) غير قابلتين للتعايش بمعنى أن إجراءات تحرير الأسعار والتجارة وخصخصة الأصول الحكومية تتناقض بالضرورة مع السياسات الشعبوية ذات الطابع التوزيعي التي يتخيل الناصريون الجدد إمكانية إنتاجها لدعم شرعية الزعيم الجديد، فواقع البلدان النامية منذ الثمانينيات يشهد بأن السياسات العامة في مجملها كانت خليطاً عجيباً ومتناقضاً بين سياسات نيوليبرالية وأخرى شعبوية توزيعية، هكذا كان الوضع في تركيا منذ الثمانينيات وحتى اليوم، وفي أمريكا اللاتينية في أعقاب انهيار الدكتاتوريات العسكرية، وذلك لأن نظاماً سياسياً في العالم النامي لا يحتمل إجراءات تحريرية واسعة النطاق لأنها ستضر بالطبقات الوسطى والشرائح الدنيا منها بالأخص، علاوة على فقراء المدن والريف، وليس بخاف أن دولة ما بعد الاستقلال في الجنوب عامة استندت لإجراءات توزيعية لإنشاء تحالفها الاجتماعي الأساسي، وقد أطلق داني رودريك على هذه الصيغ الملفقة من التحرير الاقتصادي والشعبوية النيوليبرالية غير الأرثوذكسية، وهي التي كانت قائمة في عهد مبارك، والمرشحة للقيام مرة أخرى في المستقبل القريب. 

لا تعني هذه السطور أن النظام السياسي قيد الإنشاء سيكون خلواً من التناقضات، أو أنه ليس تجسيداً للجناح الدولتي من الثورة المضادة بكل ما يحمله هذا الجناح من رغبات في العودة للعلاقات الحاكمة في عهد مبارك، ولكنها تشير بأن هذا النظام مع الانكسار المرحلي لثورة يناير قد يكتب له بعض البقاء نظير إجراءات وسياسات تعيد إليه بعض التوازن المالي، وربما إجراءات توسع بعض الشئ التحالف الاجتماعي للسلطوية الجديدة، وإن كان هذا الأمر يحمل تفجيراً من الداخل للتحالف الحاكم لأنه سيستلزم الحد من الشبكات المهيمنة على الاقتصاد منذ عهد مبارك، وتفكيك بعضها من أجل دمج قطاعات من رأس المال الصغير والمتوسط وتوفير موارد لبرامج توزيعية. 

إن الخلاصة هي أنه خلافاً لمسلمة علم الأحياء بأن البقاء للأفضل أو للأصلح فإن المعارف الاجتماعية تشير إلى أن البقاء لا يكون دوماً للأصلح بل قد يكتب لنظام سقيم لا يستمد شرعية بقائه إلا من غياب البديل له جراء عقود طويلة من تحطيم قدرة المجتمع على التنظيم، وتغذية تيارات إن مثلت شيئاً فإنها تمثل اللابديل في تنظيمات وأيديولوجيات شديدة البؤس والفقر فكرياً وسياسياً، وهذه هي سمات النظم المحافظة التي تلي انتصار الثورات المضادة لأنها تقوم على الطرح المحافظ الأزلي بأن كل تغيير هو شر في ذاته. 

[اضغط/ي هنا لمقال أشرف الشريف وهنا لمقال خليل العناني الذي يرد على المقالين]

 

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • المخبر العضوي وتراث الوطنية المصرية

      المخبر العضوي وتراث الوطنية المصرية

      "في تصوري المجتمع المصري مجتمع تاريخي له حضارة عريقة ولكنه مجتمع غير عصري، مجتمع متخلف" هكذا اختتم الراحل أحمد عبد الله رزه تعليقا له حول تاريخ الحركة الوطنية في مصر ضمن أعمال ندوة كان هو مقررها في ١٩٨٧.. 

    • Amr Adly, Cleft Capitalism: The Social Origins of Failed Market Making in Egypt (New Texts Out Now)

      Amr Adly, Cleft Capitalism: The Social Origins of Failed Market Making in Egypt (New Texts Out Now)

      It started with a policy report I wrote for Stanford’s Center on Democracy, Development, and the Rule of Law (CDDRL) in 2013-2014 about reforming entrepreneurship ecosystems in Egypt and Tunisia after the 2011 revolutions. Extensive fieldwork in both countries raised questions about the overall validity of many of the neoclassical institutionalist frameworks that stressed crony capitalism and corruption as the primary reasons for the dismal development record in MENA, to which I personally subscribed.

    • تقرير جنينة: أسئلة المعرفة والنضال السياسي

      تقرير جنينة: أسئلة المعرفة والنضال السياسي
      تكرم الأستاذ محمد واكد بكتابة مقال على صفحات جدلية تحت عنوان "أخبار السيسي "السارة" لن تسره". وجاء المقال تعليقا على ثلاثية المقالات التي نشرتها مدى مصر لي ولوائل جمال و

تنظيم المخلّ بالنظام؟ الباعة المتجولون والدولة التنمويّة

 عندما أصدر الرئيس مرسي في العشرين من تشرين الثاني (من العام الماضي) مرسومه المثير للجدل والذي يقع خارج صلاحياته الدستورية، والذي قام لاحقاً بإلغائه جزئياً جرّاء ضغط شعبي هائل، وعد باستعمال صلاحياته التشريعية الإستثنائية الممنوحة له فقط في حدود مقلصة للغاية. وعندما قام فعلياً بممارسة هذه الصلاحيات، قام بذلك سريعاً من أجل سنّ قانون رقم 105/2012 وذلك في خضم ما بات يوصف –دون مغالاة- باللحظات الأكثر حسماً في تاريخ مصر الحديث. حتى المحلل السياسي الأكثر تمرّساً يمكن أن يغفر له إذا ما افترض من باب السذاجة أن هذا القانون يتعلق بالاستفتاء الوشيك على مسودّة الدستور التي أدت الى استقطاب حاد البلاد، أو أنه يتعلق بدور الجيش في الاقتصاد. إلا أن ما يثير الاهتمام هو أن قانون 105/2012 كان قد صُمم من أجل زيادة الإجراءات العقابية ضد الباعة المتجولين، فقد رُفعت العقوبة على الإخلال المنصوص في القانون رقم 33/1957، والتي كانت، حتى ذلك الوقت، تنظم عمل ما يقدر بخمسة ملايين بائع متجول في مصر؛ من شهر واحد إلى ثلاثة أشهر سجن والى خمسة آلاف جنيه غرامة بدلاً من ألف جنيه. لكن، هل كانت هذه على ما يبدو واحدة من إخفاقات مرسي اللانهائية في الأسابيع الأخيرة التي تعكس عدم تواصله بتاتاً مع الحقائق السياسية؟ أم أن هناك المزيد مما يمكن قراءته في مثل هذا القرار من حيث طبيعة علاقات الدولة والمجتمع، الاقتصاد والحيز العام في المرحلة الثورية الحالية؟

إن ثورة 25 يناير، والثمانية عشر يوماً الصاخبة في ميدان التحرير والمسيرات والاحتجاجات العملاقة والاعتصامات التي تلتها والتي اجتاحت البلاد منذ ذلك الوقت، قد أدت الى أكثر من مجرد إسقاط حسني مبارك. فهي تطرح تحديات لهؤلاء الذين خلفوه. الثقافة السياسية الجديدة التي نشأت في صحوة هذه الثورة، كانت قد أبرزت في المقام الأول، الحسّ الفردي والجماعي للمطالبة بالحرية. وعليه فقد قامت بتغيير ممارسات وإدراكات حول الحيز العام. فقد قام النظام التقليدي للحفاظ على الأمن في الحيز المديني المصري، معززاً بكل من قانون الطوارئ المشهور وحضور بوليسي مكثف في الشارع والجدران العالية المنتشرة حول المجمعات السكنية المسوّرة ومراكز التسوق، بإرهاب المواطنين لوقت طويل وحدّ من قدرتهم على استملاك الحيز العام. سواء كانوا نشطاء يدفعون للتعبئة ضد النظام أو كانوا عشاقاّ يبحثون عن لحظات حميمية سريعة، أو فقراء يأملون بلحظات من الراحة من شقائهم اليومي الطاحنّ؛ فقد مُنع المصريون جسدياً من الوصول إلى الحيز العام. الإحساس بالقوة الكامنة الذي تم الحصول عليه أثناء الخروج الى الشوارع على مدى العاميّن الماضيين لم يتمكن من إلغاء حكم السيطرة بالكامل ولكنه بالتأكيد أدى الى ما بات يسميه الكثيرون "إعادة الاستيلاء" على الحيز العام. لا يمكن بعد اليوم تقييدالملايين التي اختبرت الحرية عبر الخروج الى الشوارع للتظاهر، للتناقش وتبادل الأفكار مع رفاقهم من المواطنين الذين لم تتح لهم فرصة التلاقي علناً من قبل، من قبل النظام القمعي ذاته، على الأقل ليس بشكل تام.

إلا أن إكتشاف فرص وموارد جديدة عادة ما يؤدي إلى معارك على الملكية والاستحقاق. لذلك فالمقدرة على إستعادة الحيز العام سرعان ما خلقت نقاشات حادة حول أحقية الوصول لهذا الحيز، من يتوجب إقصاؤه وما هي قواعد التواصل التي يجب اعتمادها بين المواطنين من ذات الدولة. الفئات السياسية المتحاربة قدمت مثالاً لهذه المعركة الجديدة في حملاتها للمطالبة بنسب مواقع تجمّع معينة لها، وعلى رأسها ميدان التحرير الذي بات موقعاً أيقونياً. وكان رسم كاريكاتوري تم تناقله بشكل واسع على الفايسبوك بعد الصدامات بين القوى المعارضة والمؤيدة لمرسوم مرسي الرئاسي حول استعمال ميدان التحرير كبؤرة الزلزال لحملاتهم الشعبية لتعبئة الجماهير، قد عكس هذا النزاع بشكل كبير. ويقترح الرسم الكاريكاتوري مجموعة من القواعد "لجدول ميدان التحرير"، حيث يتم حجز أيام السبت والإثنين والأربعاء لمؤيدي السلفيين والأخوان المسلمين، بينما تُحجز أيام الأحد والثلاثاء والخميس للثوار. وأخيراً فإن يوم الجمعة قد تم تحديده للصيانة والتنظيف وتبادل أسرى "الحرب". إلا أنه، ومنذ 25 يناير 2011، تعدّت المعارك حول ملكية واستحقاق الحيز العام إلى ما هو أكبر من الصراعات الدائرة بين القوى السياسية المتحاربة. الإمكانيات الجديدة لاستحقاق الحيز العام أحيت مخاوف مجتمعية متأصلة وخطوط تماس بين مجموعات اجتماعية وسياسية مختلفة. واحدة من الأمثلة الأكثر صلة بهذا التماس كان السؤال حول حضور المرأة في الحيز العام والمضايقات المتكررة التي عانت منها خلال وما بعد الثورة. الحالات الأخرى التي أثارت قلقاً متواصلاً تتعلق بمكان مجموعات مهمشة أخرى مثل "أولاد الشوارع" والباعة المتجولين.

\"\"

[الصورة من صفحة "منتديات الشاب كول" على الفيسبوك]

 

منذ الأيام الأولى للثورة، توافد الباعة المتجولون إلى ميدان التحرير حيث خلقوا إقتصاداً محلياً مزدهراً زود ملايين المحتجّين الذين ارتادوا ميدان التحرير لاحقاً بوجبات خفيفة ومشروبات بأسعار معقولة. سواء كانوا عائلات أو مجموعات من الأصدقاء الذين جاؤوا للانضمام للاحتجاج أو للتمتع بالإحساس بالحرية والتفاؤل الناضح من الميدان أو كانوا من المقاتلين المستميتين الذين جعلوا من ميدان التحرير بيتاً لهم، فإن كل هؤلاء اعتمدوا على الباعة المتجولين بدلاً من القهاوي والمطاعم المكلفة في وسط البلد في القاهرة. مع الوقت، إنضم اليهم المزيد من الباعة الذين يبيعون مختلف البضائع وسرعان ما تناثروا جميعهم على أرصفة وشوارع كامل منطقة وسط البلد.

فور سقوط مبارك، شرع الجيش والحكومات المتعاقبة في حملة لإخلاء ميدان التحرير، ليس فقط من المحتجين وإنما أيضاً من الباعة. كان الهدف من هذه المحاولات حفظ النظام العام في الشوارع والأهم من ذلك استعادة صورة الدولة القوية "ووقار" المجتمع المصري، الذي يعتبره هذا المنطق مهدداً نتيجة إحتلال الحيز العام. ونادرة هي الحالات التي لا تؤدي بها الإزالة القسرية إلى تصادم عنيف، يعتبر فيه الباعة و"البلطجية" (غالباً ما تم خلط/استعمال الاثنين بالتبادل) بكونهم الملامين على العنف. جهود سلطات الدولة لإخلاء الباعة من التحرير والشوارع المحيطة شكّلت جزءاً واحداً فقط من حملة شاملة طويلة الأمد تمتد لكافة أطراف البلاد لقمع الظاهرة، والتي يعزو إليها الناس مواطن الشر بما في ذلك الفوضى في الشوارع وأزمة المرور والإخلال بالقانون وعلاوة على كل هذا "تشويه" المظهر الحضاري المصري. يدعم أصحاب المحال التجارية والطبقة الوسطى من سكان المدينة مثل هذه الجهود. فبالنسبة لأصحاب المحال التجارية، من الواضح أن الباعة يشكلون مصدر تهديد لهم لأنهم يبيعون بضاعة بأسعار معقولةعند عتبات محالهم. بينما يرى سكان الحارات التي تقطنها الطبقة الوسطى في المدينة الباعة المتجولين كتهديد لأنهم يعيقون انسياب حركة السير ويسّدون الأرصفة مما يجعل تنقل المارة بسهولة أمراً مستحيلاً. وهناك أيضاً بُعد آخر "أخلاقي" متعلق بشعورهم بالقلق الذي يثيره الفقر وعدم النظام المتجسد بالباعة المتجولين. ومن نافل القول، أنه لا يمكنه عزو السبب الحقيقي للزحمة المرورية الخانقة في القاهرة وفوضى الشوارع وإلقاء اللوم في ذلك على الباعة المتجولين. وإنما نجد تلك الأسباب في غياب نظام ناجع ومعقول للمواصلات العامة، وفي شبكات الشوارع الرديئة، وفي أخطاء كبيرة في التخطيط المديني ونظام رأسمالية المحاسيب. على أية حال، فسكان المناطق المرفهة في مصر عازمون على القضاء على حضور الباعة المتجولين "غير الحضاري" والمهدد أخلاقياً، موظفين لذلك كل التبريرات. عليه، فهم يدعون الشرطة بشكل متكرر حيث يرونها حليفهم الطبيعي في حماسهم ضد الإخلال بالقانون وانعدام النظام، وذلك لقمع الباعة المتجولين ومنعهم من العمل في أحيائهم.

جاء قانون مرسي المذهل كخطوة يائسة في معركة طويلة الأمد للتخلص من الباعة المتجولين. فعلى سبيل المثال، في مارس/آذار 2011 قامت قوات من الجيش والحرس المدني بإخلاء باعة متجولين بالقوة من ميدان رمسيس وإعتقال الكثيرين منهم، فيما قُدِم بعض منهم للمحاكمة لاحقاً حيث حوكموا في المحاكم العسكرية. مؤخراً، وتحديداً في أوكتوبر/تشرين الأول 2012، لقي بائع فاكهة شاب يبلغ من العمر 22 عاماً حتفه في صدامات عنيفة خلال هجوم شنته قوات تابعة للشرطة في محاولة منها لتطهير دوار الجيزة من كل الباعة. الأمر الذي أدى الى احتجاج نظمه زملاؤه الباعة أمام مكتب المدعي العام مطالبين بالاقتصاص من المسؤول.

هذه المعركة المستمرة ليست بالجديدة أو الفريدة والخاصة بمصر وحدها. ولكنها شكلت جزءاً متكاملاً من بناء وعمل الدولة التنموية منذ الخمسينيات والستينيات في أغلب الدول النامية. روجت الدولة التنموية عند الأمم المستقلة حديثاً، والنظام الإقتصادي الذي دعمها في النصف الثاني من القرن العشرين لمشروع تحديث يعتمد على العقلانية والنجاعة والتكنولوجيا ووسائل الإدارة الغربية، بالإضافة إلى النظام. بناء على هذا، فقد اعتبروا الإقتصاد غير الرسمي والباعة المتجولين في صلبها كنقيض لمشروع الدولة ووجودها. الباعة المتجولون جسدوا كل ما هو مخالف للحداثة: عدم النجاعة، الفوضى، والطفيلية وعدم الانضباط. صورة المدن غربية الطراز الحداثية وحسنة التخطيط كانت مهددة بفعل ربطها بالفقر والإخلال بالقانون والفوضى التي يخلقها باعة تقليديو الملبس والعمل. الباعة تجولوا في الشوارع، ولم يكن لهم أماكن تجارة ثابتة ولم يتبعوا أي قانون، كما يقضي بذلك المجتمع المتحضر والحداثي.

وضع زاغموند باومن إصبعه على جوهر الحداثة بوصفه إياها بـ "النظام كهوس". لقد عمل النظام، قبل أي شيء، كمحرك جوهري في إعادة إنتاج نظام إقتصادي سائد. في نظام رأسمالي حداثي، فيما تعمل الشركات الكبرى وفقاً لأسس سلم الإقتصاد، فإن الشركة وحتى رجال الأعمال الصغار ولكن المنظمين- يُعترف بهم كشركاء وعملاء للحداثة لكونهم يتلائمون ضمن نموذج عماده تمركز الانتاج والتوزيع. أما الباعة المتجولون، فهم لا يدفعون الضرائب ولا يحفظون السّجلات كما ويستحيل إدراجهم في المؤشرات الاقتصادية العامة مثل مؤشر الناتج المحلي الإجمالي؛ عليه فهم مضّرون للتخطيط القومي الإقتصادي. والأكثر أهمية من ذلك، فإن الشركات والمؤسسات التجارية الكبرى تكرس الدوّر التنظيمي للدولة لإدارة علاقات الإنتاج، حيث تزود الدولة بكونها"رأسمالي جماعي مثالي" الشروط السياسية المسبقة لعملية تراكم صحية عبر السيطرة على علاقات رأس المال لصالح منافع رأسمالية.

على أية حال وبالرغم من جهود الدول المستقلة حديثاً لدمج الإقتصاد غير الرسمي في منظومة مرتبة والقضاء على البيع في الشوارع، إلا أن كلاهما، أي الإقتصاد غير الرسمي والباعة- قد تابعا الإزدهار بمعزل عن الدولة في البلدان النامية. إن الفشل في التنظيم المركزي، والقطاع الخاص غير المتطور وحقائق إقتصادية أخرى في هذه الدول عنت أن القطاعات الأكثر تقليدية مجبرة على تقديم الحلول والرد على احتياجات الملايين المقصيين من مشاريع الحداثة؛ الاحتياجيات التي فشلت الدولة التنموية ذاتها بتلبيتها. هذا صحيح الآن في القرن الواحد والعشرين كما كان صحيحاً في العقود الأولى للاستقلال. لكن القطاع غير الرسمي يستمر بتوفير الوظائف لهؤلاء الذين يدخلون سوق العمل في كل عام والذين تنعدم أمامهم فرص العثور على عمل في القطاع الرسمي.

تغير معنى التنمية إلى حد كبير على مر العقود، وتغيرت ومعه أيضاً تعريفاتها وتوجهاتها التي تم توظيفها من قبل الحكومات الوطنية. التحولات في معنى التنمية كانت قد واكبت دائماً الإحتياجات المتزايدة للنظام الإقتصادي العالمي. بناء على ذلك، فإن الكثير من الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي اضطرت الى تغيير افتراضاتها المبكرة عن التطور والسياسات المتبعة لتحقيق التمنية، وذلك بناء على تطور الإقتصاد العالمي. إلا أن التناقض الآن يكمن في أن الاحتياجات الأخيرة للنظام الرأسمالي العالمي أدت الى مأسسة عمليات من اللارسمية. فالتغييرات في هيئة منظومات التصنيع وفي قطاعات أخرى قد ولّدت منطقاً إنتاجياً جديداً. على سبيل المثال، يعتمد "خط الإنتاج العالمي"، على الإستعانة بشبكات من المصادر الخارجية، بالإضافة الى التعاقد الهرمي ومرونة سوق العمل. هذا النظام على أي حال، ينتج بشكل ثابت المزيد من الإستغلال في العمل، رواتب متدنية، شروط عمل غير آمنة والمزيد من عدم التوازن الوظيفي.

إن النقد المترتب عن هذا التطور وتأثيره على حياة الملايين من الفقراء على المستوى العالمي، حدا بالمؤسسات المالية الكبرى لابتكار سياسات تعزز فعلياً المزيد من أشكال "اللارسمية" من أجل تحسين نصيب هؤلاء العاملين ضمنها وذلك بمساعدة تدخل الدولة. السياسات النيوليبرالية المعززة من قبل "إجماع واشنطن" والمؤيدة بكل طاعة من قبل الجنوب العالمي، بما في ذلك مصر، تقوم، الآن –للمفارقة- بتعزيز مبادرات متواضعة عبر قروض صغيرة وغيرها من برامج التدريب والإقتراض باعتبارها حجر الزاوية المساند للاقتصاد. نتيجة لذلك فإن السياسات المنبثقة عن المؤسسات الإقتصادية إتجاه الإقتصاد غير الرسمي، تهدف إلى "تنظيم" القطاع ولكن ذلك بهدف تعزيزه وليس القضاء عليه.

في سياق مصر طالما اكتسب "التنظيم" دائماً معنى مختلفاً وذلك حسب من يتحدث عنه. ففي الوقت الذي يعتبر تشكيل نقابة للعمال بمثابة سلاح عظيم ضد الاستغلال، إلا أن الطريقة التي يفهم بها المسؤولون المصريون "التنظيم" تختلف بشكل كبير عن تلك التي يفهمها العمال. فبالنسبة لدولة مثل مصر، فإن تنظيم العمل لم يتعلق أبداً بلجم قوة التفاوض الجماعية للعمال، وإنما بتنظيمهم في هيئات قابلة للضبط. في حالة الباعة المتجولين، عنى ذلك تنظيم ظاهرة فوضوية ولكن أيضاً حتمية. وفقاً لهذا المنظور يتم التسامح مع الباعة المتجولين طالما يحتلون مكاناً محدداً، وعليه فيمكن موضعته، إقصاؤه والسيطرة عليه. مؤخراً، قامت كل من نقابة المهن التجارية سوية مع وزارة المالية والإتحاد العام لنقابات عمال مصر المعروف بفساده، بمسح لكافة الباعة المتجولين على صعيد وطني في محاولة منها لتنظيمهم. في الأسابيع الأخيرة، طالب إتحاد الغرف التجارية المصرية الحكومة بتخصيص سوق أسبوعية محددة في مناطق معينة وذلك من أجل "دمجهم في كيان الدولة الرسمي".

حاولت الحكومات المتعاقبة، بما في ذلك تلك التي كانت في فترة حكم مبارك، إبعاد الباعة المتجولين عن مركز القاهرة إلى مدن تابعة لها تقع على أطرافها مثل عبور، وستة أوكتوبر، والشيخ زايد وسلام. مع شبكة المواصلات العامة الضعيفة التي تربط هذه التجمعات السكانية الهانشية (مثال هائل على فشل التخطيط المديني)، فإن النقل يشكل حكم إعدام يحاول كل الباعة تجنبه.

من جهة أخرى، فإن الباعة المتجولين تواقون لتشكيل نقابة عمالية، وعلى الأقل تنظيم صفوفهم جماعياً ضد مضايقات الدولة، وفساد الشرطة والحماية من الاحتيال. وكان أحد باعة القاهرة المتجولين قد أخذ على عاتقه مبادرة للضغط لتشكيل إتحاد عمال مستقل، وتمكن من جمع أربعة آلاف توقيع من باعة من مختلف المحافظات. إلا أن إقامة إتحاد مستقل واجهت الكثير من التعقيدات من قبل وزارة العمل، ويأتي هذا كجزء من استراتيجية حكومات ما بعد مبارك لتوقيف تطور المئات من الاتحادات المستقلة، والتي ازدهرت في فترة ما بعد سقوط مبارك. أسوة بغالبية الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي، المسؤولون المصريون اضطروا للعمل وفقاً لإملاءات المؤسسات المالية العالمية والتي صممت سياستها بشكل يدعم مصالح نظام رأسمالي عالمي. ومع ذلك، فإن بيروقراطيات هذه الدول هي أقل مرونة من الرأسمال العالمي فمسؤولو الدولة يلاقون صعوبة في تعلم خدع جديدة والتخلي عن العادات القديمة. لذلك ما تزال الدولة المصرية ملتزمة باللقضاء على الباعة المتجولين الذين يمثلون تهديداً لحفظها للنظام، ذلك في الوقت الذي تصرح سياساتها الرسمية بدمجهم كشركاء في التطور. ومن نافل القول، أن أياً من توجهات الدولة بالنسبة للتعامل مع "مشكلة" الباعة المتجولين لن تكون ناجعة، ففي تجريم قطاع ما غاية في الأهمية لسوق العمل وللسياسيات الاقتصادية الحكومية الرسمية، بدون طرح بدائل، لن تكون هناك نجاعة ولا حكمة. وفي النفس الدرجة، فإن إحتواء وتنظيم الباعة المتجولين عبر ابعادهم عن قلب المدن وإعادة موضعتهم في الهوامش المدينية بأمل تحويلهم إلى غير مرئيين، يعمل بعكس الأسباب التي تقف وراء نجاح القطاع غير الرسمي، وتلك مرونته، لارسميته وقدرته الجسدية على التنقل. حاولت الدولة التحديثية التي تعتمد التنموية منهجاً، في مصر وفي أماكن أخرى، حاولت جاهدة ملائمة الواقع الإجتماعي في إطار متخيًّل؛ إطار أتقصى مواطنيه وهمشهم بشكل ممنهج. لم ينجح هذا في الماضي، ولن ينجح الآن أيضاً.

[نشر المقال على "جدلية" باللغة الإنكليزية وترجمته حنين نعامنة إلى العربية]