الأنظمة التسلطية لا تسقط طوعا

[????? ???? ????????. ???? ?????? ???? ??????] [????? ???? ????????. ???? ?????? ???? ??????]

الأنظمة التسلطية لا تسقط طوعا

By : Khalil al-Anani خليل العناني

أسهب الصديقان أشرف الشريف وعمرو عادلي،  في شرح الخلل البنيوي المصاحب لإعادة تأسيس النظام التسلطي فى مصر وأنه يحمل فى ثناياه بذور فنائه بسبب تناقضاته الهيكلية. وبالرغم من أن الصديقين كليهما يتفقان حول حتمية سقوط هذا النظام فإن الاختلاف (وليس الخلاف) بينهما يكمن فى المدى الزمني لهذا السقوط. فبينما يرى أشرف (أو هكذا بدا لي) أن سقوط هذا النظام قد يحدث فى أية لحظة نظراً لتناقضاته الداخلية غير المحتملة، فإن عمرو يرى بأن هذا النظام وتحالفاته وأذرعه قادرون جميعاً على البقاء والتعاطي بذكاء مع الأزمة الاقتصادية-الاجتماعية الراهنة (خاصة فى ظل الانكسار المرحلي لثورة يناير)، وهو ما قد يطيل عمر هذا النظام ويمكّنه من البقاء ولفترة. وقد لخص عمرو أطروحته فى عبارة وجيزة عَنْون بها مقاله وهي "البقاء ليس دائماً للأفضل".

بوجه عام أتفق مع تحليل وخلاصات أشرف وعمرو، وأرى أنهما يقدمان وجبة دسمة ومهمة لتحليل طبيعة النظام الجديد/القديم كما أسمياه واستشراف مصيره، وحيث لا يمكنني الادعاء بامتلاك ناصية الاقتصاد السياسي كما هو الأمر في تحليل الصديقين، كما أنني لا أمتلك قدرتهما وجرأتهما البحثية على إصدار أحكام عامة أو نهائية بشأن الظواهر الاجتماعية والسياسية قيد الحركة والتشكل، فإنني أرى من المهم أن نأخذ النقاش حول مستقبل النظام إياه إلى مستوى جديد يكمل ولا يناقض ما يطرحه الصديقان، مما يمكننا ليس فقط من كشف نقاط القوة والضعف فى النظام الجديد/القديم، والتي تبدو واضحة لكل ذي بصيرة، وإنما أيضاً من كشف مكامن العطب فى محركات الثورة، أو بالأحرى القوى المحركة للثورة ومحاولة العمل (إن أمكن) على إصلاح هذا العطب ومن ثم استعادة الثورة وأهدافها ولو على المدى الطويل نسبياً.

بتعبير آخر، إن سقوط النظام الجديد/القديم ليس مرهوناً باختلالاته وتناقضاته الداخلية فحسب وإنما أيضاً بقدرة الطرف الآخر للصراع (القوى الحية الراغبة والقادرة على التغيير) على الاستفادة من هذه الاختلالات لطرح نفسها بديلاً لهذا النظام بعد انهياره. فلربما يسقط النظام ويأتي من يحل محله من نفس جنسه ولونه وسياساته​.

من هنا أرى أن مدخل الاقتصاد السياسي، على أهميته الفائقة في تحليل البنية التحتية للصراع، إلا أنه يجب أن يتم تسكينه ضمن إطاره الأوسع، وهو سوسيولوجيا الثورات، الذي يكشف لنا عن الصورة الكلية التي تحكم ديناميات الصراع وتفاعلاته وربما تساعدنا فى التنبؤ بمآلاته. 

باختصار ودون استطراد فإن ما أقصده هو أن فهم والتسليم بالقصور الذاتي للنظام الجديد/القديم ربما لن يفيد كثيراً فى استشراف مستقبله دون النظر لبقية المكونات أو الفاعلين المنخرطين فى الصراع مع هذا النظام وقدرتهم ليس فقط على إسقاطه وإنما أيضاً الحلول محلّه علي غرار ما حدث فى حالات أخرى مشابهة. وهو أمر على درجة كبيرة من الأهمية ليس فقط لأن هذا النظام لا يعمل فى فراغ وإنما أيضا لأن سياساته وقراراته وتكتيكاته هي (فى جزء منها) الوجه الآخر لسياسات وقرارات وتكتيكات بقية الأطراف.

من هنا أرى أنه لا مندوحة عند الحديث عن سقوط أو إسقاط النظام الذي يتم ترميمه وإعادة بنائه أن يجري الحديث عن أربعة عناصر (أو شروط) أساسية من أجل تحقق هذا السقوط، ومن ثم نجاح أي عمل ثوري أو تغييري وهي: قيام تكتل أو حركة ثورية متناغمة، حاضنة اجتماعية متنوعة، أجندة راديكالية للتغيير، تعجيز الدولة والاستيلاء على السلطة.

صناعة الكتلة/الحركة الثورية

يقدم كلٌّ من جيف جودوين، أستاذ الحركات الاجتماعية والسوسيولوجي بجامعة نيويورك، وجون فوران أستاذ السوسيولوجيا وعلم الثورات (إن جاز استخدام هذا التعبير) بجامعة كاليفورنيا-سانت بربرا، تحليلاً رصيناً ومهماً لفهم ديناميات الثورة وتفاعلاتها واستجابة الأنظمة المختلفة لها والأهم من ذلك ديناميات وتفاعلات مرحلة ما بعد الثورة. وبالرغم من الاختلاف المنهجي بينهما في تفسير الثورات (أو التغيير الثوري بالأحرى)، حيث يركز جودوين على دور الدولة  state-oriented approach وطبيعة السياق السياسي المنشئ للتفاعلات الثورية بينما يركز فوران على طبيعة العملية ذاتها process-oriented approach من حيث تفاعلات اللاعبين وإيديولوجيتهم وثقافتهم وطبيعة النظام الدولي، فإن كليهما يتفقان على أمر واحد وهو: حتمية وجود حركة/كتلة/ائتلاف ثوري يمكنها لا استغلال اللحظة الثورية وإسقاط النظام (على غرار ما حدث في 25 يناير) فحسب وإنما أيضا الوثوب إلى السلطة وملء الفراغ وفرض الأجندة الثورية. في هذا الصدد فإن أدب الثورات ومحاولاتها فى أمريكا اللاتينية (المكسيك 1910-1920، كوبا 1953-1959، نيكاراغوا 1977-1979، السلفادور 1979-1992) وأوروبا الشرقية (بولندا، المجر، بلغاريا، رومانيا، تشيكوسلوفاكيا) وآسيا (الصين 1911-1949) وجنوب شرق آسيا (الفلبين 1986، إندونيسيا 1998) غني بالأمثلة التي تخبرنا بأهمية وضرورة وجود كتلة أو حركة ثورية عابرة للطبقات cross-class والإيديولوجيات cross-ideology ومتعددة الأعراق multi-racial من أجل تحقيق التغيير الثوري. والأمر هنا يتجاوز مجرد الالتقاء المرحلي أو التكتيكي بين هذه القوى والكيانات بهدف إسقاط النظام (على غرار ما حدث عشية 25 يناير) إلى تشكيل كتلة اجتماعية/سياسية تتبنى أهداف الثورة ومبادئها وتضع خطة عملية لمرحلة ما بعد إسقاط النظام. وهو ما يتطلب قدر من المداولات والتفاوض بين أطياف هذه الكتلة أو الحركة قبل المضي قدماً.

نظرة خاطفة للوضع الراهن فى مصر ربما تعطي الانطباع بأن فرص إنشاء هذه الكتلة أو الحركة الثورية المتماسكة ربما لا تبدو متوافرة، أو هى أقرب للحلم وضرب من الخيال فى ظل التفتت والتشتت الذي ضرب القوى والحركات الاحتجاجية خلال الأعوام الثلاثة الماضية. لكنّ نظرة أكثر تأنياً وعمقاً تكشف أن العكس هو الصحيح. فمعظم الحركات الثورية أو التغييرية قد نشأت فى ظل الديكتاتوريات والأنظمة السلطوية القمعية (أحد شروط قيام الثورة أصلاً هو وجود هذه الأنظمة) وذلك لسببين رئيسيين: أولهما هو القمع الممنهج غير المميِّز (بكسر الياء) للنظام، أي الذي لا يفرق بين فصيل وآخر بغض النظر عن انتمائه الإيديولوجي، وثانيهما هو عدم قدرة كل فصيل لوحده على تشكيل تحدٍّ حقيقي للنظام القائم.

هنا قد يُثار سؤال مشروع وهو: كيف يمكن التغلب على الخلافات والتناقضات الإيديولوجية والعقائدية بين القوى أو الفصائل التي تمثل القلب الصلب core لهذه الكتلة الثورية؟ هنا تطرح الخبرات السابقة أحد حلّين: الأول (وهو الأسهل عملياً) العمل على استقطاب التيار الأكثر واقعية أو قرباً داخل القوى العقائدية المغلقة إن وجد، والثاني (وهو الأصعب) التغاضي عن وجود هذا الفصيل من الأصل ومحاولة خلق (أو العمل معه إن وجد) فصيل مشابه له إيديولوجياً وإنما لا يتفق معه سياسياً. في حين يتمثل الحلّ الأمثل في قدرة الكتلة الثورية على تجذير نفسها ضمن حاضنة اجتماعية واسعة قد تمكّنها من عزل القوى التقليدية، أو دفعها لتغيير أفكارها من أجل الانضمام للكتلة الثورية.

حاضنة اجتماعية متنوعة 

قيام الكتلة أو الحركة الثورية بحد ذاته لا يوفر ضماناً لنجاح الثورات أو حتى إمكانية إسقاط النظام ما لم يتوافر لها حاضنة اجتماعية متنوعة. ففى معظم التجارب الثورية سواء فى أمريكا اللاتينية أو أوروبا الشرقية فإن فئات العمال والفلاحين والطبقات الدنيا والوسطى وأحياناً الشرائح العليا لعبت دوراً مهما ليس فقط فى نجاح الثورة فحسب (وذلك بفضل قدرتها على التعبئة والحشد) وإنما أيضا فى نجاح المسار السياسي بعد الثورة. ولعل أحد العوامل التي أدت إلى الانتكاسة الراهنة لثورة يناير هو عدم استثمار القوى الثورية لرأس المال الاجتماعي الذي ظهر خلال الثورة ولعب دوراً مهما فى الإطاحة بنظام مبارك (إضرابات العمال والعصيان المدني خلال 18 يوماً). فى حين أن أحد الفوارق المهمة (بالإضافة إلى الفوارق الأخرى) بين حالتي مصر وتونس هو الدور المؤثر والقويّ الذي لعبته المؤسسات المجتمعية الوسيطة مثل اتحاد الشغل، والحركات النسائية، ومنظمات المجتمع المدني ليس فقط فى إسقاط النظام وإنما أيضاً فى ضبط سلوك المسار السياسي بعد الثورة.

بيد أن الدور الأهم الذي تلعبه الحاضنة الاجتماعية هو خلق كتلة مضادة لتلك التي تستخدمها الأنظمة السلطوية من أجل تبرير قمعها وعنفها وسيطرتها. نظرة بسيطة للواقع المصري تكشف أن الحاضنة الاجتماعية للثورة لا تزال موجودة وذلك رغم المحاولات الحثيثة للنظام الجديد/القديم بناء كتلته المضادة للثورة (كتلة تسلم الأيادي أو حزب الكنبة) وذلك ليس فقط بسبب الاختلالات الهيكلية التي تحدث عنها الشريف وعدلي والتي سوف يظهر أثرها عاجلاً أو آجلاً، وإنما أيضا بسبب التقلب الشديد والسريع فى المزاج العام، ناهيك عن العامل الديموغرافي المهم الذي يقذف يومياً مئات الآلاف من الشباب الذي يتوق إلى الثورة والتغيير. فضلاً عن ذلك المواطن البسيط الذي يضع حذاء العسكر فوق رأسه أو تلك المواطنة المسكينة التي رقصت طرباً لدستور جرت كتابته على طريقة "علي بابا والخمسين حرامي"، سوف ينفضون عن سيرك السلطة بعد فترة وجيزة من وصول الساحر إلى منصة التتويج واكتشاف خوائه وكذب أطروحته حول الوطنية والدولة والاستقرار.

بعبارة أخرى، إن الفرصة تبدو، على عكس ما يرى البعض، مواتية لبناء حاضنة اجتماعية تضم العمال والفلاحين (المتضررين من السياسات العقيمة للدولة) والطلبة وبقايا المثقفين التقدميّين فضلاً عن شرائح الطبقات الدنيا والوسطى وبعض شرائح الطبقة العليا التي ترغب فى الاستقرار الحقيقي المبني على التغيير وليس مجرد البقاء ضمن إطار صراعي يهدد مصالحهم ونمط حياتهم. ورغم حالات القمع والتضييق والتشويه التي تتعرض لها التيارات الديمقراطية الناشئة، فإن ثمة مساحة لا تزال متاحة لها سواء فى الإعلام البديل أو الانترنت قد تساعد فى استقطاب وبناء الحاضنة الاجتماعية وتوسيعها والاستفادة من تناقضات النظام واختلالات سياساته

أجندة راديكالية للتغيير

تظل الثورة، بمعنى من المعاني، هي النقيض للوضع القائم حتى وإن كان ثورياً (ديالكتيك الثورات والثورات المضادة التي تعود بجذورها إلى الهيجلية). وذلك إلى الدرجة التي جعلت إريك هوبزباوم يقول بأن "الثورات تبتلع بعضها بعضاً مثلما فعلت الثورة الصناعية في بريطانيا مع الثورة الاجتماعية فى فرنسا". لذا فإن إنشاء علاقة مؤسسية بين الكتلة الثورية وحاضنتها الاجتماعية يظل أمراً ضرورياً ومهماً سواء لقيام الثورة أو ضمان نجاحها. ولعل إحدى الأدوات المهمة (إن لم تكن الأهم) فى تمتين هذه العلاقة هو تبني أجندة راديكالية تترجم الأهداف الثورية واقعاً وحقيقة. فقد فشل "الإخوان المسلمون" فى السلطة (من بين عوامل عديدة) بسبب أجندتهم السياسية والاجتماعية المحافظة بل والرافضة أحياناً للتغيير الهيكلي والجذري لمؤسسات الدولة. حتى عندما حاول الرئيس المعزول محمد مرسي تطهير القضاء لم يكن ذلك فى إطار خطة ثورية للتطهير بقدر ما كان جزءاً من الصراع بين الإخوان ومؤسسات الدولة أو هكذا رأته كثير من القوى الثورية. الأكثر من ذلك أن سياسات الإخوان طيلة عامهم فى السلطة لم تساهم فى تهميش واغتراب القوى السياسية فحسب، وإنما أيضا فى تفتيت الحاضنة الاجتماعية للثورة من عمال وفلاحين وطلبة إلى الدرجة التي جعلت هؤلاء يقعون فريسة لقوى الثورة المضادة التي وظفّتهم ولا تزال فى معركتها ضد ثورة يناير.

معظم الحركات الثورية فى أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وجنوب شرق آسيا تبنت أجندة تغيير راديكالية (وذلك بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع هذه الأجندة حيث انتقل البعض إلى الاشتراكية والبعض الآخر إلى الرأسمالية والبعض الثالث إلى النيوليبرالية) كانت كفيلة بمنح الشرعية للكتلة الثورية (أو النظام الجديد بعد الثورة) وتثبيت أقدامها فى مواجهة قوى الثورة المضادة. لوهلة، قد تبدو مقولة "أجندة راديكالية للتغيير" مجرد رطانة أو عبارة إنشائية فارغة المعنى والمضمون، لكنها فى الحقيقة تعكس مدى جدية وعمق إيمان القوى السياسية المنشغلة بالتغيير بالاتساق بين القول والفعل. بعبارة أخرى، لن تتمكن الكتلة الثورية (بفرض قيامها) على توسيع حاضنتها الاجتماعية وإسماع صوتها وجذب التأييد المطلوب لها دون تأطير لأجندتها ضمن النسق الثوري المفتوح وليس وفق شروط وقواعد اللعبة القديمة فهكذا لعب الإخوان ومن خلالها خسروا.

وليس صحيحاً ما يُقال عن أن ثمة كتلة اجتماعية كبيرة فى مصر مناوئة للتغيير، فالصحيح أن هذه الكتلة هى رافضة للتغيير البطيء وغير الجذري والذي يبدو أكثر كلفة بالنسبة لها من بقاء الوضع القديم. بعبارة أخرى، إن الكتلة الرافضة لسياسات الدولة ونظامها الجديد/القديم لا تزال موجودة ولكنها ستظل مترددة ورافضة للانحياز للكتلة الثورية ما لم تر من الأخيرة تماسكاً فى البناء وجدية فى الطرح وإنجازاً فى الفعل. الأكثر من ذلك فإن آلة القمع والعنف الدولتي تعد إحدى أدوات الردكلة والتثوير (radicalization and revolutionaization) لدى الفئات المحافظة وهو ما يبدو بوضوح الآن فى مصر. فقطاعات الطلبة وبعض المحسوبين على القوى التقليدية بدأت فى تبني رؤى وأساليب راديكالية سواء فى التصدي لبطش النظام أو فى رؤيتها لما يجب أن يحدث بعد إسقاطه. والحقيقة التي تبدو واضحة الآن أنه كلما ازداد القمع، ازداد مستوى الوعى والتثوير وربما التطرف لدى القوى الرافضة للوضع القائم.

تعجيز الدولة والوصول إلى السلطة

يري جودوين أنه لا يمكن الحديث عن ثورة بدون أمرين: تعجيز الدولة incapacitation of the state والاستيلاء على السلطة seizing power. أي أن الثورات لا تنجح إلا إذا انهارت الدولة (المقصود هنا انهيار النظام السياسي وعلاقات القوة داخل الدولة وليس سقوط المؤسسات بالمعنى الحرفي أو الفني كما يروّج البعض) ونجحت الكتلة الثورية فى الوصول إلى السلطة. أهمية هذين الشرطين لا تكمن فى كونهما يؤشران على نجاح الثورة خلال مرحلتها الأولى وإنما لأنهما يؤسسان لوضع جديد مختلف تماماً عما كان سائداً من قبل. 

وغني عن البيان أن أحد عوامل انتكاسة ثورة 25 يناير أن كلا الشرطين لما يتحققا إلى يومنا هذا. على العكس فقد مهد فشل القوى الثورية في فرض نفسها وأجندتها خلال الشهور الأولى للثورة، ومن بعدها فشل الإخوان فى إعادة الدولة وعلاقات القوة داخلها لصالح قوى الثورة، فى بث الروح فى جسد الثورة المضادة وإعادة تشغيل ماكينتها الدولتية المنتجة للقمع والعنف والاستبداد.

هذا الشرط الأخير المتعلق بالدولة يمثل إحدى النقاط الملتهبة فى الصراع بين قوى الاستبداد والديمقراطية فى مصر. ذلك أنه يلمس وتراً حساساً لدى فئات كثيرة تتبنى سردية الدولة state narrative فيما يتعلق بالقوة والهيبة والمكانة... إلخ، وهو ما قد يجعل هذه الفئات تتردد كثيراً فى الالتحاق ودعم أي كتلة ثورية (خاصة فى ظل سيطرة أطروحات أبلة فاهيتا وحروب الجيل الرابع وغيرها من الخزعبلات على المجال العام). من هنا فإن الكتلة الثورية بحاجة إلى إنتاج خطاب ذكي يتعلق بتفكيك وإعادة ترتيب علاقات القوة داخل بنية الدولة ومؤسساتها لصالح الطبقات والفئات المظلومة والمقموعة والتأكيد على أن الهدف ليس إسقاط الدولة بل على العكس بناءها على أسس من العدالة والكفاءة والتمثيل المجتمعي المتوازن. ومن المدهش أن مقولة "تفكيك الدولة" بدأت تلقى رواجاً ملحوظاً بين قطاعات وفئات متنوعة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار سواء إسلاميين أو يساريين أو اشتراكيين، وهو ما يعني بداية تحول، ولو محدود، فى المخيّلة الجماعية عن الدولة وعلاقتها بالنظام السياسي.

لذا فإن أطروحة سقوط النظام التي يتبناها الشريف وعادلي، على أهميتها، فإنها تكشف فقط الجانب الظاهر أو المعروف من الصراع (أو بالأحرى الجزء المتوقع منه وهو سقوط النظام إن عاجلاً أو آجلاً)، بيد أن الجزء المكمّل له هو شروط وكيفية وهوية الطرف الثاني من الصراع المفترض أن يقود السقوط ويحل محل النظام القائم. من هنا فإن قناعتي، وهنا أختلف مع الصديقين أشرف وعمرو، أن التسليم بالسقوط الطوعي للنظام لمجرد أنه يحمل بذور فنائه وتناقضاته الداخلية، يجب ألا يجعلنا نغفل الجانب الآخر من المعادلة، ذلك أن الأنظمة التسلطية لا تسقط طوعاً. 

[انقر/ ي هنا لمقالة أشرف الشريف وهنا لمقالة عمرو عادلي]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • حالة الإسلاميين في مصر بعد عامين على الثورة

      حالة الإسلاميين في مصر بعد عامين على الثورة
      بالأرقام يمكن معرفة الحالة التي وصل إليها الإسلاميون في مصر بعد عامين على قيام الثورة. فقد وصل عدد الأحزاب التي تنطلق من خلفية إسلامية إلى حوالى عشرين حزباً سواء مسجلين أو غير مسجلين رسمياً. ناهيك عن
    • Reflections on Egypt's “Odd Politics”

      Reflections on Egypt's “Odd Politics”
      When I left Egypt two weeks before the revolution that ousted former President Hosni Mubarak last year, Egyptians were not allowed to discuss three issues publicly: politics, religion, and sex. Howev
    • الثورة المصرية فى مرآة التاريخ

      الثورة المصرية فى مرآة التاريخ
      عندما يُؤرَخ للثورة المصرية التي تحلّ ذكراها الأولى فإن أقرب ما قد توصف به هو أنها كانت "ثورة الأطراف المهمّشة" Peripheries’ Revolution . فمن أطلق شرارة الثورة ودفع ثمنها، ولا يزال، هي تلك

تنظيم المخلّ بالنظام؟ الباعة المتجولون والدولة التنمويّة

 عندما أصدر الرئيس مرسي في العشرين من تشرين الثاني (من العام الماضي) مرسومه المثير للجدل والذي يقع خارج صلاحياته الدستورية، والذي قام لاحقاً بإلغائه جزئياً جرّاء ضغط شعبي هائل، وعد باستعمال صلاحياته التشريعية الإستثنائية الممنوحة له فقط في حدود مقلصة للغاية. وعندما قام فعلياً بممارسة هذه الصلاحيات، قام بذلك سريعاً من أجل سنّ قانون رقم 105/2012 وذلك في خضم ما بات يوصف –دون مغالاة- باللحظات الأكثر حسماً في تاريخ مصر الحديث. حتى المحلل السياسي الأكثر تمرّساً يمكن أن يغفر له إذا ما افترض من باب السذاجة أن هذا القانون يتعلق بالاستفتاء الوشيك على مسودّة الدستور التي أدت الى استقطاب حاد البلاد، أو أنه يتعلق بدور الجيش في الاقتصاد. إلا أن ما يثير الاهتمام هو أن قانون 105/2012 كان قد صُمم من أجل زيادة الإجراءات العقابية ضد الباعة المتجولين، فقد رُفعت العقوبة على الإخلال المنصوص في القانون رقم 33/1957، والتي كانت، حتى ذلك الوقت، تنظم عمل ما يقدر بخمسة ملايين بائع متجول في مصر؛ من شهر واحد إلى ثلاثة أشهر سجن والى خمسة آلاف جنيه غرامة بدلاً من ألف جنيه. لكن، هل كانت هذه على ما يبدو واحدة من إخفاقات مرسي اللانهائية في الأسابيع الأخيرة التي تعكس عدم تواصله بتاتاً مع الحقائق السياسية؟ أم أن هناك المزيد مما يمكن قراءته في مثل هذا القرار من حيث طبيعة علاقات الدولة والمجتمع، الاقتصاد والحيز العام في المرحلة الثورية الحالية؟

إن ثورة 25 يناير، والثمانية عشر يوماً الصاخبة في ميدان التحرير والمسيرات والاحتجاجات العملاقة والاعتصامات التي تلتها والتي اجتاحت البلاد منذ ذلك الوقت، قد أدت الى أكثر من مجرد إسقاط حسني مبارك. فهي تطرح تحديات لهؤلاء الذين خلفوه. الثقافة السياسية الجديدة التي نشأت في صحوة هذه الثورة، كانت قد أبرزت في المقام الأول، الحسّ الفردي والجماعي للمطالبة بالحرية. وعليه فقد قامت بتغيير ممارسات وإدراكات حول الحيز العام. فقد قام النظام التقليدي للحفاظ على الأمن في الحيز المديني المصري، معززاً بكل من قانون الطوارئ المشهور وحضور بوليسي مكثف في الشارع والجدران العالية المنتشرة حول المجمعات السكنية المسوّرة ومراكز التسوق، بإرهاب المواطنين لوقت طويل وحدّ من قدرتهم على استملاك الحيز العام. سواء كانوا نشطاء يدفعون للتعبئة ضد النظام أو كانوا عشاقاّ يبحثون عن لحظات حميمية سريعة، أو فقراء يأملون بلحظات من الراحة من شقائهم اليومي الطاحنّ؛ فقد مُنع المصريون جسدياً من الوصول إلى الحيز العام. الإحساس بالقوة الكامنة الذي تم الحصول عليه أثناء الخروج الى الشوارع على مدى العاميّن الماضيين لم يتمكن من إلغاء حكم السيطرة بالكامل ولكنه بالتأكيد أدى الى ما بات يسميه الكثيرون "إعادة الاستيلاء" على الحيز العام. لا يمكن بعد اليوم تقييدالملايين التي اختبرت الحرية عبر الخروج الى الشوارع للتظاهر، للتناقش وتبادل الأفكار مع رفاقهم من المواطنين الذين لم تتح لهم فرصة التلاقي علناً من قبل، من قبل النظام القمعي ذاته، على الأقل ليس بشكل تام.

إلا أن إكتشاف فرص وموارد جديدة عادة ما يؤدي إلى معارك على الملكية والاستحقاق. لذلك فالمقدرة على إستعادة الحيز العام سرعان ما خلقت نقاشات حادة حول أحقية الوصول لهذا الحيز، من يتوجب إقصاؤه وما هي قواعد التواصل التي يجب اعتمادها بين المواطنين من ذات الدولة. الفئات السياسية المتحاربة قدمت مثالاً لهذه المعركة الجديدة في حملاتها للمطالبة بنسب مواقع تجمّع معينة لها، وعلى رأسها ميدان التحرير الذي بات موقعاً أيقونياً. وكان رسم كاريكاتوري تم تناقله بشكل واسع على الفايسبوك بعد الصدامات بين القوى المعارضة والمؤيدة لمرسوم مرسي الرئاسي حول استعمال ميدان التحرير كبؤرة الزلزال لحملاتهم الشعبية لتعبئة الجماهير، قد عكس هذا النزاع بشكل كبير. ويقترح الرسم الكاريكاتوري مجموعة من القواعد "لجدول ميدان التحرير"، حيث يتم حجز أيام السبت والإثنين والأربعاء لمؤيدي السلفيين والأخوان المسلمين، بينما تُحجز أيام الأحد والثلاثاء والخميس للثوار. وأخيراً فإن يوم الجمعة قد تم تحديده للصيانة والتنظيف وتبادل أسرى "الحرب". إلا أنه، ومنذ 25 يناير 2011، تعدّت المعارك حول ملكية واستحقاق الحيز العام إلى ما هو أكبر من الصراعات الدائرة بين القوى السياسية المتحاربة. الإمكانيات الجديدة لاستحقاق الحيز العام أحيت مخاوف مجتمعية متأصلة وخطوط تماس بين مجموعات اجتماعية وسياسية مختلفة. واحدة من الأمثلة الأكثر صلة بهذا التماس كان السؤال حول حضور المرأة في الحيز العام والمضايقات المتكررة التي عانت منها خلال وما بعد الثورة. الحالات الأخرى التي أثارت قلقاً متواصلاً تتعلق بمكان مجموعات مهمشة أخرى مثل "أولاد الشوارع" والباعة المتجولين.

\"\"

[الصورة من صفحة "منتديات الشاب كول" على الفيسبوك]

 

منذ الأيام الأولى للثورة، توافد الباعة المتجولون إلى ميدان التحرير حيث خلقوا إقتصاداً محلياً مزدهراً زود ملايين المحتجّين الذين ارتادوا ميدان التحرير لاحقاً بوجبات خفيفة ومشروبات بأسعار معقولة. سواء كانوا عائلات أو مجموعات من الأصدقاء الذين جاؤوا للانضمام للاحتجاج أو للتمتع بالإحساس بالحرية والتفاؤل الناضح من الميدان أو كانوا من المقاتلين المستميتين الذين جعلوا من ميدان التحرير بيتاً لهم، فإن كل هؤلاء اعتمدوا على الباعة المتجولين بدلاً من القهاوي والمطاعم المكلفة في وسط البلد في القاهرة. مع الوقت، إنضم اليهم المزيد من الباعة الذين يبيعون مختلف البضائع وسرعان ما تناثروا جميعهم على أرصفة وشوارع كامل منطقة وسط البلد.

فور سقوط مبارك، شرع الجيش والحكومات المتعاقبة في حملة لإخلاء ميدان التحرير، ليس فقط من المحتجين وإنما أيضاً من الباعة. كان الهدف من هذه المحاولات حفظ النظام العام في الشوارع والأهم من ذلك استعادة صورة الدولة القوية "ووقار" المجتمع المصري، الذي يعتبره هذا المنطق مهدداً نتيجة إحتلال الحيز العام. ونادرة هي الحالات التي لا تؤدي بها الإزالة القسرية إلى تصادم عنيف، يعتبر فيه الباعة و"البلطجية" (غالباً ما تم خلط/استعمال الاثنين بالتبادل) بكونهم الملامين على العنف. جهود سلطات الدولة لإخلاء الباعة من التحرير والشوارع المحيطة شكّلت جزءاً واحداً فقط من حملة شاملة طويلة الأمد تمتد لكافة أطراف البلاد لقمع الظاهرة، والتي يعزو إليها الناس مواطن الشر بما في ذلك الفوضى في الشوارع وأزمة المرور والإخلال بالقانون وعلاوة على كل هذا "تشويه" المظهر الحضاري المصري. يدعم أصحاب المحال التجارية والطبقة الوسطى من سكان المدينة مثل هذه الجهود. فبالنسبة لأصحاب المحال التجارية، من الواضح أن الباعة يشكلون مصدر تهديد لهم لأنهم يبيعون بضاعة بأسعار معقولةعند عتبات محالهم. بينما يرى سكان الحارات التي تقطنها الطبقة الوسطى في المدينة الباعة المتجولين كتهديد لأنهم يعيقون انسياب حركة السير ويسّدون الأرصفة مما يجعل تنقل المارة بسهولة أمراً مستحيلاً. وهناك أيضاً بُعد آخر "أخلاقي" متعلق بشعورهم بالقلق الذي يثيره الفقر وعدم النظام المتجسد بالباعة المتجولين. ومن نافل القول، أنه لا يمكنه عزو السبب الحقيقي للزحمة المرورية الخانقة في القاهرة وفوضى الشوارع وإلقاء اللوم في ذلك على الباعة المتجولين. وإنما نجد تلك الأسباب في غياب نظام ناجع ومعقول للمواصلات العامة، وفي شبكات الشوارع الرديئة، وفي أخطاء كبيرة في التخطيط المديني ونظام رأسمالية المحاسيب. على أية حال، فسكان المناطق المرفهة في مصر عازمون على القضاء على حضور الباعة المتجولين "غير الحضاري" والمهدد أخلاقياً، موظفين لذلك كل التبريرات. عليه، فهم يدعون الشرطة بشكل متكرر حيث يرونها حليفهم الطبيعي في حماسهم ضد الإخلال بالقانون وانعدام النظام، وذلك لقمع الباعة المتجولين ومنعهم من العمل في أحيائهم.

جاء قانون مرسي المذهل كخطوة يائسة في معركة طويلة الأمد للتخلص من الباعة المتجولين. فعلى سبيل المثال، في مارس/آذار 2011 قامت قوات من الجيش والحرس المدني بإخلاء باعة متجولين بالقوة من ميدان رمسيس وإعتقال الكثيرين منهم، فيما قُدِم بعض منهم للمحاكمة لاحقاً حيث حوكموا في المحاكم العسكرية. مؤخراً، وتحديداً في أوكتوبر/تشرين الأول 2012، لقي بائع فاكهة شاب يبلغ من العمر 22 عاماً حتفه في صدامات عنيفة خلال هجوم شنته قوات تابعة للشرطة في محاولة منها لتطهير دوار الجيزة من كل الباعة. الأمر الذي أدى الى احتجاج نظمه زملاؤه الباعة أمام مكتب المدعي العام مطالبين بالاقتصاص من المسؤول.

هذه المعركة المستمرة ليست بالجديدة أو الفريدة والخاصة بمصر وحدها. ولكنها شكلت جزءاً متكاملاً من بناء وعمل الدولة التنموية منذ الخمسينيات والستينيات في أغلب الدول النامية. روجت الدولة التنموية عند الأمم المستقلة حديثاً، والنظام الإقتصادي الذي دعمها في النصف الثاني من القرن العشرين لمشروع تحديث يعتمد على العقلانية والنجاعة والتكنولوجيا ووسائل الإدارة الغربية، بالإضافة إلى النظام. بناء على هذا، فقد اعتبروا الإقتصاد غير الرسمي والباعة المتجولين في صلبها كنقيض لمشروع الدولة ووجودها. الباعة المتجولون جسدوا كل ما هو مخالف للحداثة: عدم النجاعة، الفوضى، والطفيلية وعدم الانضباط. صورة المدن غربية الطراز الحداثية وحسنة التخطيط كانت مهددة بفعل ربطها بالفقر والإخلال بالقانون والفوضى التي يخلقها باعة تقليديو الملبس والعمل. الباعة تجولوا في الشوارع، ولم يكن لهم أماكن تجارة ثابتة ولم يتبعوا أي قانون، كما يقضي بذلك المجتمع المتحضر والحداثي.

وضع زاغموند باومن إصبعه على جوهر الحداثة بوصفه إياها بـ "النظام كهوس". لقد عمل النظام، قبل أي شيء، كمحرك جوهري في إعادة إنتاج نظام إقتصادي سائد. في نظام رأسمالي حداثي، فيما تعمل الشركات الكبرى وفقاً لأسس سلم الإقتصاد، فإن الشركة وحتى رجال الأعمال الصغار ولكن المنظمين- يُعترف بهم كشركاء وعملاء للحداثة لكونهم يتلائمون ضمن نموذج عماده تمركز الانتاج والتوزيع. أما الباعة المتجولون، فهم لا يدفعون الضرائب ولا يحفظون السّجلات كما ويستحيل إدراجهم في المؤشرات الاقتصادية العامة مثل مؤشر الناتج المحلي الإجمالي؛ عليه فهم مضّرون للتخطيط القومي الإقتصادي. والأكثر أهمية من ذلك، فإن الشركات والمؤسسات التجارية الكبرى تكرس الدوّر التنظيمي للدولة لإدارة علاقات الإنتاج، حيث تزود الدولة بكونها"رأسمالي جماعي مثالي" الشروط السياسية المسبقة لعملية تراكم صحية عبر السيطرة على علاقات رأس المال لصالح منافع رأسمالية.

على أية حال وبالرغم من جهود الدول المستقلة حديثاً لدمج الإقتصاد غير الرسمي في منظومة مرتبة والقضاء على البيع في الشوارع، إلا أن كلاهما، أي الإقتصاد غير الرسمي والباعة- قد تابعا الإزدهار بمعزل عن الدولة في البلدان النامية. إن الفشل في التنظيم المركزي، والقطاع الخاص غير المتطور وحقائق إقتصادية أخرى في هذه الدول عنت أن القطاعات الأكثر تقليدية مجبرة على تقديم الحلول والرد على احتياجات الملايين المقصيين من مشاريع الحداثة؛ الاحتياجيات التي فشلت الدولة التنموية ذاتها بتلبيتها. هذا صحيح الآن في القرن الواحد والعشرين كما كان صحيحاً في العقود الأولى للاستقلال. لكن القطاع غير الرسمي يستمر بتوفير الوظائف لهؤلاء الذين يدخلون سوق العمل في كل عام والذين تنعدم أمامهم فرص العثور على عمل في القطاع الرسمي.

تغير معنى التنمية إلى حد كبير على مر العقود، وتغيرت ومعه أيضاً تعريفاتها وتوجهاتها التي تم توظيفها من قبل الحكومات الوطنية. التحولات في معنى التنمية كانت قد واكبت دائماً الإحتياجات المتزايدة للنظام الإقتصادي العالمي. بناء على ذلك، فإن الكثير من الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي اضطرت الى تغيير افتراضاتها المبكرة عن التطور والسياسات المتبعة لتحقيق التمنية، وذلك بناء على تطور الإقتصاد العالمي. إلا أن التناقض الآن يكمن في أن الاحتياجات الأخيرة للنظام الرأسمالي العالمي أدت الى مأسسة عمليات من اللارسمية. فالتغييرات في هيئة منظومات التصنيع وفي قطاعات أخرى قد ولّدت منطقاً إنتاجياً جديداً. على سبيل المثال، يعتمد "خط الإنتاج العالمي"، على الإستعانة بشبكات من المصادر الخارجية، بالإضافة الى التعاقد الهرمي ومرونة سوق العمل. هذا النظام على أي حال، ينتج بشكل ثابت المزيد من الإستغلال في العمل، رواتب متدنية، شروط عمل غير آمنة والمزيد من عدم التوازن الوظيفي.

إن النقد المترتب عن هذا التطور وتأثيره على حياة الملايين من الفقراء على المستوى العالمي، حدا بالمؤسسات المالية الكبرى لابتكار سياسات تعزز فعلياً المزيد من أشكال "اللارسمية" من أجل تحسين نصيب هؤلاء العاملين ضمنها وذلك بمساعدة تدخل الدولة. السياسات النيوليبرالية المعززة من قبل "إجماع واشنطن" والمؤيدة بكل طاعة من قبل الجنوب العالمي، بما في ذلك مصر، تقوم، الآن –للمفارقة- بتعزيز مبادرات متواضعة عبر قروض صغيرة وغيرها من برامج التدريب والإقتراض باعتبارها حجر الزاوية المساند للاقتصاد. نتيجة لذلك فإن السياسات المنبثقة عن المؤسسات الإقتصادية إتجاه الإقتصاد غير الرسمي، تهدف إلى "تنظيم" القطاع ولكن ذلك بهدف تعزيزه وليس القضاء عليه.

في سياق مصر طالما اكتسب "التنظيم" دائماً معنى مختلفاً وذلك حسب من يتحدث عنه. ففي الوقت الذي يعتبر تشكيل نقابة للعمال بمثابة سلاح عظيم ضد الاستغلال، إلا أن الطريقة التي يفهم بها المسؤولون المصريون "التنظيم" تختلف بشكل كبير عن تلك التي يفهمها العمال. فبالنسبة لدولة مثل مصر، فإن تنظيم العمل لم يتعلق أبداً بلجم قوة التفاوض الجماعية للعمال، وإنما بتنظيمهم في هيئات قابلة للضبط. في حالة الباعة المتجولين، عنى ذلك تنظيم ظاهرة فوضوية ولكن أيضاً حتمية. وفقاً لهذا المنظور يتم التسامح مع الباعة المتجولين طالما يحتلون مكاناً محدداً، وعليه فيمكن موضعته، إقصاؤه والسيطرة عليه. مؤخراً، قامت كل من نقابة المهن التجارية سوية مع وزارة المالية والإتحاد العام لنقابات عمال مصر المعروف بفساده، بمسح لكافة الباعة المتجولين على صعيد وطني في محاولة منها لتنظيمهم. في الأسابيع الأخيرة، طالب إتحاد الغرف التجارية المصرية الحكومة بتخصيص سوق أسبوعية محددة في مناطق معينة وذلك من أجل "دمجهم في كيان الدولة الرسمي".

حاولت الحكومات المتعاقبة، بما في ذلك تلك التي كانت في فترة حكم مبارك، إبعاد الباعة المتجولين عن مركز القاهرة إلى مدن تابعة لها تقع على أطرافها مثل عبور، وستة أوكتوبر، والشيخ زايد وسلام. مع شبكة المواصلات العامة الضعيفة التي تربط هذه التجمعات السكانية الهانشية (مثال هائل على فشل التخطيط المديني)، فإن النقل يشكل حكم إعدام يحاول كل الباعة تجنبه.

من جهة أخرى، فإن الباعة المتجولين تواقون لتشكيل نقابة عمالية، وعلى الأقل تنظيم صفوفهم جماعياً ضد مضايقات الدولة، وفساد الشرطة والحماية من الاحتيال. وكان أحد باعة القاهرة المتجولين قد أخذ على عاتقه مبادرة للضغط لتشكيل إتحاد عمال مستقل، وتمكن من جمع أربعة آلاف توقيع من باعة من مختلف المحافظات. إلا أن إقامة إتحاد مستقل واجهت الكثير من التعقيدات من قبل وزارة العمل، ويأتي هذا كجزء من استراتيجية حكومات ما بعد مبارك لتوقيف تطور المئات من الاتحادات المستقلة، والتي ازدهرت في فترة ما بعد سقوط مبارك. أسوة بغالبية الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي، المسؤولون المصريون اضطروا للعمل وفقاً لإملاءات المؤسسات المالية العالمية والتي صممت سياستها بشكل يدعم مصالح نظام رأسمالي عالمي. ومع ذلك، فإن بيروقراطيات هذه الدول هي أقل مرونة من الرأسمال العالمي فمسؤولو الدولة يلاقون صعوبة في تعلم خدع جديدة والتخلي عن العادات القديمة. لذلك ما تزال الدولة المصرية ملتزمة باللقضاء على الباعة المتجولين الذين يمثلون تهديداً لحفظها للنظام، ذلك في الوقت الذي تصرح سياساتها الرسمية بدمجهم كشركاء في التطور. ومن نافل القول، أن أياً من توجهات الدولة بالنسبة للتعامل مع "مشكلة" الباعة المتجولين لن تكون ناجعة، ففي تجريم قطاع ما غاية في الأهمية لسوق العمل وللسياسيات الاقتصادية الحكومية الرسمية، بدون طرح بدائل، لن تكون هناك نجاعة ولا حكمة. وفي النفس الدرجة، فإن إحتواء وتنظيم الباعة المتجولين عبر ابعادهم عن قلب المدن وإعادة موضعتهم في الهوامش المدينية بأمل تحويلهم إلى غير مرئيين، يعمل بعكس الأسباب التي تقف وراء نجاح القطاع غير الرسمي، وتلك مرونته، لارسميته وقدرته الجسدية على التنقل. حاولت الدولة التحديثية التي تعتمد التنموية منهجاً، في مصر وفي أماكن أخرى، حاولت جاهدة ملائمة الواقع الإجتماعي في إطار متخيًّل؛ إطار أتقصى مواطنيه وهمشهم بشكل ممنهج. لم ينجح هذا في الماضي، ولن ينجح الآن أيضاً.

[نشر المقال على "جدلية" باللغة الإنكليزية وترجمته حنين نعامنة إلى العربية]