إجراء مدهش ذلك الذي أعلنته الحكومة منذ أيام بتجميد الضريبة العقارية. لم تختر حكومة شرف التأجيل بل التجميد مما يعني أن أمده أطول وغير محدد. ووجه الدهشة فيه هو أن هذه الضريبة هي إجراء اقتصادي نادر من نوعه في حكومة نظيف من حيث إنه يضع العبء على الأغنياء لا الفقراء.
وفي زمن ثورة قامت من أجل العدالة الاجتماعية وضد عدم المساواة، كان غريبا أن تختار حكومة، اختار الميدان رئيسها، أن تقدم بهذه السرعة والجرأة على إجراء يسعد كل هؤلاء المستفيدين الذين اشتروا عشرات العقارات للمضاربة والتجارة وتغازل أولئك الذين يمتلكون ثروة عقارية بالمليارات في الساحل الشمالي، لا يسددون عنها للدولة (التي بنت ووصلت جميع الخدمات وتصونها لهم من أجل قضاء شهرين في العام في بعض من وحداتها) أي ضرائب.
في الوقت ذاته تتباطأ نفس الحكومة في تطبيق إجراءات سريعة فيما يتعلق بمطلب إجماعي (يحظى بمساندة حكم قضائي)، هو رفع الحد الأدنى للأجور في القطاعين العام والخاص، وتعلن عن احتمالات غير محسومة لضريبة تصاعدية لن تتجاوز 25% فقط في الشريحة الجديدة، مقارنة بمعدلات ترتفع تدريجيا لتصل على الأغنياء إلى 35% في كعبة الرأسمالية في الولايات المتحدة، و40% في فرنسا، و45% في استراليا، و50% في بريطانيا، و55% في بلجيكا، و60% في الدنمارك. وكل هذه الدول رأسمالية، وليس بها حجم عدم المساواة التي لدينا ولا نسب الفقراء التي لدينا، ولا درجة الاحتياج الهائل لمساندة الدولة للتعليم والصحة والخدمات التي لدينا.
الكعكة الصغيرة والكعكة الكبيرة
ففي كل مرة كانت تنطرح فيها قضية رفع الأجور أو تحسين التعليم أو الانفاق على الطرق كان السؤال المستنكر يأتينا مصحوبا بفزاعته: ومن أين نمول كل هذا؟ إيرادات الدولة أصلا قليلة، والعجز كبير وقد يزيد إلى حدود ال12% في العام المالي الجديد بحسب وزير المالية. وعادة ما يقترن هذا الحديث بالحديث عن الكعكة الاقتصادية التي يجب أن تكبر أولا لتسمح بهذا الانفاق وتضم أكلة جدد، لأنها أصلا صغيرة.
كان هذا الموقف، المتوافق تماما مع نظرية أن الأولوية للنمو عبر تشجيع أرباح الرأسماليين ونشاط الشركات الكبرى، حتى لو عنى ذلك تقليص الجمارك والضرائب، يستنتج دائما أن إعادة التوزيع لكعكة الاقتصاد بشكل أكثر عدلا يعني "توزيعا للفقر يوقف عجلة الإنتاج ومن ثم يرفع البطالة ..الخ".
آن أوان نسف هذه النظرية، ولأسباب عديدة منها أن عدم المساواة توقف نمو الكعكة من الأصل بما تسببه من فقر وجهل وغياب للكفاءات. لم تعد هذه قناعات اليسار أو الراديكاليين من الاقتصاديين أو ما إلى ذلك بل صارت تشكل في لحظتنا هذه أساسا لتفكير المنظمات الاقتصادية الكبرى في الرأسمالية العالمية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي: المساواة وزيادة الأجور طريق النمو المستدام والتنمية، ووسيلة لاتقاء شر الأزمات الاقتصادية.
لكن هناك سببا آخر ننفرد به تقريبا في مصر. هو أن سوء توزيع الأعباء والمكاسب الاقتصادية الفادح لصالح بعض الشركات والأغنياء يمكننا من إجراءات سريعة وحاسمة تدعم الموازنة، التي ورثنا عجزها الأزلي من زمن صقور السوق الحر، وتمكن أي حكومة ثورة بحق ترغب في تمثيل مصالح الأغلبية الفقيرة النهمة للوظائف والحياة الكريمة.
كعكة أسمنتية حديدية
يركز كثيرون بحق على ضرورة مراجعة بيع الغاز المصري لإسرائيل، من حيث أسعاره المتدنية أو ربما حتى من حيث المبدأ. بما أننا نوشك على الدخول في أزمة طاقة في السنوات القليلة المقبلة، طاقة نحتاجها في بناء نهضة بلدنا. هم محقون لأن رفع سعر الغاز للسعر العالمي عند 12 دولارا للمليون وحدة حرارية بدلا من 3 حاليا، يعني إضافة حوالي مليار ومائة مليون دولار، أو حوالي 7.5 مليار جنيه سنويا، للموازنة. كما يمكن إضافة 900 مليون دولار (5.3 مليار جنيه) أخرى لو فعلنا نفس الشيء مع الأردن.
لكن الأخطر والأخطر، والذي لا تتحدث عنه الحكومة ولا أحد، فهو الدعم الذي ندفعه أنا وأنت من جيوبنا، حتى لحظتنا هذه، لمصانع عز وأبوالعينين وشريف الجبلي، وغيرهم من رجال النظام القديم.
تقول إحدى الدراسات البحثية المتخصصة غير المنشورة إن مصانع الأسمدة المصرية، التي تعتمد تماما على الغاز في الإنتاج، إن تشتري الغاز حاليا بدولارين ونصف، تزيد إلى 3 في الأسمنت والحديد، و3.8 دولارات في البتروكيماويات. بينما تشتري مصانع قطاعات أخرى منها السيراميك الغاز ب 2.1 دولار فقط.
قد يقول قائل هنا إن هذه الصناعات تحتاج لهذا الدعم الحكومي في مواجهة المنافسة الخارجية لحماية الصناعة المحلية وإلا لانهارت، وهو بعض منطق الدعم الحكومي اقتصاديا. لكن الدراسة تقول لنا إن هامش الربح (EBITDA) المتوسط في كل هذه القطاعات يفوق مثيله في العالم. وبمراحل. فهو في الأسمدة 65% مقارنة بمتوسط عالمي 30%، وهو في الأسمنت 50% عندنا مقارنة ب25%، وهو في الحديد 21% مقارنة ب 13%، وفي البتروكيماويات 51 مقارنة % مقارنة 15%، وفي باقي القطاعات ومنها السيراميك 43% مقابل 20%.
مامعنى هذا؟ معناه أموال تضخ بشكل مباشر من جيبي وجيبك في جيب المسيطرين على هذه الصناعات وبعضهم ليس مصريا أصلا، وفي قطاعات بعضها ملوث للبيئة و أغلبها كثيف رأس المال ولا يشغل سوى عمالة قليلة للغاية، بينما تبيع هي منتجاتها بالأسعار العالمية. معنى هذا أيضا أن المنافسة ضعيفة في هذه الأسواق وأن هناك ممارسات لها طابع احتكاري.
ماذا لو رفعنا سعر غاز الشعب الذي تحوله هذه الشركات إلى أرباح؟ هل تنهار؟ لا على الاطلاق. تقول لنا نفس الدراسة إن رفع السعر إلى ستة دولار بالنسبة للحديد والأسمنت والقطاعات المتنوعة التي من بينها السيراميك يقلل هوامش ربحيتها إلى 33% و16% و19%، وكلها فوق المتوسط العالمي. أما رفع سعر الغاز لمصانع الأسمدة والبتروكيماويات إلى 8 دولارات للمليون وحدة حرارية فهو يقلل مؤشر الربحية في الأولى إلى 34% مقارنة ب 30% عالميا وتبقى في الثانية 39% مقابل 15% عالميا. يعني هذا أن كل هذه الشركات ستظل تنتج بربحية تنافسية ممتازة أعلى من المعدلات العالمية، وهو الأمر الذي يعني أنه في ظل رقابة جيدة على السوق يمكن ضمان عدم تمريرها الزيادات للمستهلكين دون المساس باستقرار الشركات.
أما ما نوفره نحن فيصل إلى 1.6 مليار دولار سنويا. نعم: 9.5 مليار جنيه سنويا أي حوالي 47.5 مليار جنيه في خمس سنوات وفي إجراء عادل وسريع وبسيط يتعلق بشركاتنا المحلية، التي عليها أن تشارك قليلا في نهضة الوطن وحل متاعبه (إلا إذا كان دفع العجلة إياها وتحمل متاعب الاقتصاد حكرا فقط على الفقراء في زمن أزمات الربح وأيضا في زمن الثورة). تصوروا ماذا يحدث لو تم إنفاق هذا المبلغ على التعليم في الخمس سنوات المقبلة. ألا يمكننا من ثورة في قدرات أبنائنا وبناتنا، وتحول هائل في مستقبل وطننا؟
مصالح وتفضيلات سياسية
تقسيم الأعباء والفرص إذا ممكن. تقسيم الكعكة ممكن والغاز ليس المجال الوحيد الذي يمكن فيه تصحيح الأوضاع المقلوبة. ومن حق كل فقراء هذا الوطن الذين دفعوا ثمن عقود الاستبداد من صحتهم وصحة أطفالهم، من تعليمهم، ومن الخدمات التي يتلقونها، ومن موارد البلد التي تم إهدارها، أن يستردوا قليلا من نصيبهم المنهوب لصالح القلة. هم أولى بال 3 مليارات جنيه، الحصيلة المتوقعة للضريبة العقارية، والتي سترشد الاستثمار الجنوني للمضاربة في الاسكان الفاخر في الوقت الذي لا يجد فيه مئات الآلاف سنويا السكن الملائم. هم أولى بغازهم أو على الأقل بثمنه يعين بعضا من ال700 ألف شخص الذين انضموا لصفوف العاطلين في الشهور الماضية أو حتى سائقي التاكسي الذي يعانون من بطء النشاط الاقتصادي، ويساهم في الاستجاة للمطالب العادلة للاحتجاجات الاجتماعية. لكن هذا قرار سياسي قبل أن يكون اقتصاديا. وعلى حكومة شرف أن تختار بين تبني مصالح الأغلبية المستحقة للعدالة الاجتماعية بعد أن دفعت ثمنا باهظا في مواقع العمل ثم ضحت بحياتها لاسقاط الديكتاتورية، وبين أن تستمر على عهد السابقين في تغليب مراكمة أرباح القلة على ماعداه. وهو اختيار يحسن له أن يتنبه للتوازن الجديد على الأرض: الفقراء اقتحموا ساحة السياسة بثورة، ويبنون نقاباتهم المستقلة في المصانع والحقول والسواحل. الفقراء صار لهم أنياب.
* عن الشروق