لقد بدا العمل العام والسياسي تحديداً في العقود الأخيرة فعلاً عبثياً. الأسباب عديدة. أولها هو هذا الطوفان المتواصل من الأخبار من وإلى كل مكان بفعل ما يسمى ثورة المعلومات. وثانيها هو الشعور بالعجز عن استيعاب او التأثير بما يجري في ظل السرعة الهائلة لانتقال وتغير الخبر والمعلومة. وثالثها هو تراجع الايديولوجيات العالمية التي كانت سائدة من قبل والتي كانت تعزز من غائية الحياة عن طريق توفير أطر نظرية وقيمية مستقرة نسبياً تعين في استيعاب ما يستجد من تطورات. ورابعها هو ما ظهر في مكان تلك الأيديولوجيات واطلق عليه العولمة والتي ساهمت وكشفت عن انهيار البنى السابقة. ان ضبابية هذه الظاهرة الأخيرة ثم انكشافها عن حقيقة تفرد الولايات المتحدة الأمريكية بمصير العالم قد عزز الشعور بالعبث. وكيف لا؟! وأكثر ما يميز امريكا هو شح الشعور بالغاية النبيلة والإفراط بالمادية بل وفقدان الوسائل الذاتية للتغلب على هذه النزعة الجوهرية بالنظام الذي يسير امورها وهو الرأسمالية العالمية. أما خامسها وهو الطامة الكبرى فهو الهيمنة الثقافية. والمقصود هنا هو استيلاء الاجهزة المعرفية المنبثقة عن الغرب الإستعماري على جلِّ ما يمكن ان يستعمله الكاتب المعاصر من مفاهيم ومناهج للتحليل وما تحمله هذه صراحةً أو ضمناً من قيم وافتراضات عن الغاية من الحياة والعالم ونهايته إلى آخر ذلك. لكن، ورغم كل هذه الأسباب، بقي العمل العام والسياسي منه خصوصاً فعلاً ذا مغزىً سامٍ، وفي عالم كهذا هدفاً ملحاً. والسبب هو تضاؤل المعنى بل وربما اختفاؤه في معظم ما يتم تداوله. والمقصود بالمعنى هنا، هو ما ينجم عن استنطاق الأحداث والتطورات المتلاحقة وتأويلها في عملية خلق ما يستحق الحياة بما في ذلك شعور الإنسان بالجدوى او القيمة. ويصح هذا الكلام على كل المناطق التي طالها طوفان المعلومات والتواصل، بما في ذلك بالطبع البلدان العربية التي تأثرت بالعوامل الآنفة الذكر أيما تأثر.
وهذه المقالة نابعة أصلاً من ذلك الشعور بضرورة البحث عن معنى ما بطريق التأمل فيما حصل ويحصل في البلدان العربية بما في ذلك ارهاصات و مقدمات وتداعيات "الربيع العربي،" والأهم من هذا وذاك، استحقاقاته المستقبلية. وتسلسل المقالة يتبع ترتيب الأسباب اعلاه ثم يتطرق إلى ما هو ابعد عن طريق الإلمام بدلالاتها. وقبل الخوض بالأسباب وتداعياتها لا بد من القول بأن ما يقال عن ان الانتفاضات العربية الراهنة جاءت مفاجئة يجانب الصواب. فالمتتبع لأحوال المنطقة وآلام سكانها يعرف بيسر أن كثيراً من المنضويين في النضال الآن توقعوا دائما حدوث هذه الثورات مع انه لا بد من الاعتراف بأن حالاً معقداً كحالهم كان لا يميز بين التوقع والتمني. وهذا هو حال من يفكر ويعمل في آن معاً وهو دائماً أفضل ممن يكتفي بالفكر او العمل كل على حدة. وأغلب الذين تفاجئوا بالربيع العربي هم ممن اكتفوا بالتفكير أو المراقبة وحسب. اما من دمجوا التفكير بالعمل فلم يتوقعوا هذا الحراك الهائل فقط بل سبقوه بمحاولات كثيرة كانت من العوامل الحاسمة في النجاح الذي تحقق لحد الآن. وفي كل الأحوال هذه المقالة موجهة بالدرجة الأولى لهؤلاء المندمجين بمجتمعهم، فهم الطليعة المفكرة ورأس الحربة التي تواجه المستقبل بصدور مفتوحة لكل ما هو ممكن، من الضرب بالعصي، إلى السجن او حتى الرصاص الحي.
ابرز ما يميز الظروف التي سبقت الانتفاضات الراهنه ومهدت لها هو تغير طرأ على دور الدولة أدى في بعض الأحيان إلى تراجعه خصوصاً في مجال الإعلام والتعليم. فمنذ رحيل الاستعمار ابتليت المجتمعات العربية بدول شمولية ولكن من نوع خاص؛ كيانات ورثت بنى سياسية من الإستعمار وقلدته: احتكرت المعرفة والمعلومات كما القدرة على انتاجهما وتوزيعهما في آن. فنظام التعليم بجناحية الخاص والعام خاضعٌ لسلطلة الدولة المركزية تقرر ما يجب تدريسه وما يجب منعه وحذفه من مناهج الدراسة. وكذلك في الأعلام حيث استولت الدولة واحتكرت القدرة والحق في إعلام مواطنيها بما يجب أن يلموا به وما ينبغي لهم ان يجهلوه أو حتى يتجاهلوه. ولإدامة ذلك الاحتكار لاحقت الدولة واستبعدت ونفت وقتلت كثيراً ممن خالفها باستثناء من اختاروا الصمت ولو على مضض. وعندما لم تمتلك إلى أحد هذه الوسائل سبيلاً، حاولت شراء الذمم والعقول، ونجحت في ذلك أيما نجاح، خصوصاً في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية والتي في ظلها احتكرت الدولة السلطة السياسية والأمن وجعلتهما شرطان ضروريان للنجاح الاجتماعي والاقتصادي للأفراد كما للجماعات. هكذا تمكنت الدولة من تحقيق سمة من سمات الدولة الحديثة وهي تركيب ثقافي- معرفي متجانس يتبع الدولة. لكنها فعلت ذلك ليس عن طريق الإفهام والإقناع وإنما التخويف الضمني والصريح وهذا ليس من الحداثة بشيء.
ولكن ما الذي تغير خلال العقود القليلة الماضية فأفضى الى تغير في موقف الشعوب؟ يقولون أنها ثورة المعلومات المنقولة بالانترنت والتلفونات المحمولة والفضائيات والسينما. وهذا الرأي يصيب بعض الحقيقة. فكل هذه الوسائل اصبحت متوفرة لعموم الناس وخصوصا ً متوسطي الدخل. كما أن هؤلاء ما فتأوا يعيدون نشر ما يتلقون وبثه بين ذوي الدخول المتدنية بطرق ميسرة. لقد عمل التدوير على تطوير الوسط العام ليصبح مكوناً من اوساطٍ عامة أصغر ومتعددة، متداخلة ومتصلة وعلى نحو يستحيل توقعه وتتبعه، وهنا كانت اول كبوات الدولة البوليسية! فلم تعد هذه الاوساط تقع تحت سيطرتها. بل ان الدولة صارت عرضة للاختراق باستخدام الوسائط الجديدة! لقد كـُـتـِـبَ الكثير عن هذا الموضوع وليست هناك حاجة للاسهاب فيه. غير ان معظم هذه الكتابات يحتفي بتأثير الانترنت وغيرها من الوسائل الجديدة. ولا شك ان هناك اسباباً جيدة لهذا الترحيب. لكني اعتقد ان هناك اسباباً للحديث عن جانب مظلم لوسائل الإعلام الجديدة واهمها الإنترنت والفضائيات. فوسائل الإعلام هي في الحقيقة وسائط نشطة لنقل المعلومات وليست كما يحب العاملون فيها والمعتاشون منها خاملة ومحايدة. بمعنى آخر، انها تؤثر في المادة المنقولة الى حد كبير. وتأثير الوسائط الجديدة نابع من صفاتها وطريقة عملها وعلاقتها بالمتلقين للمادة المنقولة.
أولى هذه الصفات تتعلق بـِــ "لالبثية" المادة المنقولة بحيث أن ما نراه منها "لا يلبث" فيزول من حيث اهميته لأن هناك ما هو أحدث منه فننتقل فوراً الى ذلك الأحدث للإلمام به قبل ان يسبقنا غيرنا وتفوتنا الفرصة. كل هذه المفردات هي صفات أصيلة بل وجوهرية للنظام الذي نشأت داخله الانترنت وترعرت لخدمته، وهو نظام السوق. انظر مرة اخرى الى كلمات "الجديد،" "الحديث،" و"السباق" و"الفرصة." انها لغة السوق وليس غيرها.
وثاني هذه الصفات هي ما اقترح البعض تسميته بــِ "الافتراضية" او "الخائلية" وكلاهما ترجمة لكلمة أعجمية لا حاجة لاستدعاءها الآن. فالمهم أني أُفَــضِّل كلمة "الخائلية" لأنها تحيل الى الخيال وهذا اقرب إلى قصدي؛ فنحن قادرون على العمل بالانترنت لأننا كائنات ذات خيال. ومعظم العلاقات التي نبنيها عن طريق الانترنت والمعلومات التي تصلنا مبنية على عالم ساقتنا الأقدار الى تخيله ومن ثم تصديق انه موجود بالفعل. الى هنا وليس هناك مشكلة. القضية تبدأ من حقيقة اننا احياناً بل كثيراً لا نمتلك الوقت للتحقق من ان ما نراه وما نسمعه واقعياً.
وثالث صفة هي ما يجعل من مهمة التحقق والفصل ما بين الواقع والخيال مسألة في غاية الصعوبة. ان الايقاع السريع للحياة والذي عززته شبكة الانترنت قد جعل من امكانية الوقوف عند كل خبر مسألة شبه مستحيلة. لقد وصل بنا الأمر ان الأخبار اصبحت تحمل شيئاً في طياتها ربما يكون تقنياً يقترح وربما يقرر التسلسل الذي نتبعه لقراءتها والانتقال ما بينها بحيث تتصل الأخبار ببعضها البعض مثل سلسلة الحلقات غير المكتملة والمتداخلة في آن بحيث يفضي احدها إلى الآخر. ليس هناك مؤامرة كما قد يتبادر للبعض. ولكن هكذا جرت الأمور.
ورابع هذه الصفات هي اغلوطة الفرد الحر. فكل هذا يجري في سياقات تتميز بالفردانية. فكل منا يمتلك جهاز حاسوب له وحده كفرد ويتصل بأناس هم أصدقاء يعرفهم جيداً ويشبهونه في ما يعتقدون ويحبون ويكرهون. إلا ان ذلك الخيال يتبخر أمام سؤال واحد بسيط:كيف يقفز عدد اصدقاء الواحد منا ممن يدعمهم ويدعمونه من عشرة او عشرين شخصاً إلى اربعين الف أو مليون و في ظرف عدة ساعات! وهذا ما يحدث في الفيسبوك وغيره من قنوات التواصل الاجتماعي والتي ساهمت في احداث الثورات المتلاحقة؟ من أين يأتي هؤلاء الناس؟ وهل هم حقيقة بشر من لحم ودم، ام شئ آخر؟ أشك في أن أحداً منا له القدرة على مواجهة مثل هذه الأسئلة. وعدم القدرة يفتح الباب واسعاً للشبكة العنكبوتيه كي تبني خيوطها في اتجاهات خارجة عن سيطرة أي واحد منا. بل وان تكون مسألة بناء الخيوط الجديدة والاتجاهات التي تأخذها خارجة حتى عن سيطرة البشر الذين صنعوا الكمبيوتر وبرمجياته الموجهة ذاتياً ان في امكانية بعض البرامج الآن ان تعمل في اتجاهات غاية في التعقيد والمراوغة يصعب حل او توقع نتائجها حتى على أولئك الذين صمموها. انه شكل جديد ومتجدد من الفلم الخالد لشارلي شابلين "ازمنة حديثة."
في المحصلة، اين دور الدولة وعلماؤها واعلاميوها من كل هذا؟ هل ما زالوا يحتلون مكان الصدارة كما تعودوا؟ بالطبع لا. بل واكثر من ذلك. انهم بحكم جيلهم لا يمتلكون المعرفة التقنية اللازمة. وأن الذي يمتلك تلك المهارات هم الجيل الصاعد الذي نشأ في الفترة إياها والتي تميزت باغتراب منقطع النظير تمثل بغموض الهدف ان لم يكن غيابه التام. فتعلق هذا الجيل بقشة التكنولوجيا علها تنجيه من غرق محتوم. ولم يدر ذلك الجيل ان تلك القشة كانت على ظهر حوت ضخم يغوص في بحر متلاطم. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي طبيعة المهام التي تلقيها طبيعة التواصل وادواته الراهنة على جميع الاطراف بمن فيهم أولئك الذين ثاروا ويريدون التغيير؟
الدولة طبعاً والمعارضة التقليدية ما زالوا يمتلكون اساليب الحكم القديمة كما انه مستمرون في امتلاكهم للاصول المادية الداعمة لحكمهم ومتمسكون بكل هذا أيما تمسك. السؤال هو، هل يمتلك الجيل الجديد بدائل وقدرات جاهزة؟ المشاهدات لغاية الآن تشير الى العكس. فأكثر ما يميز من قاموا بالثورات هو غياب الخبرة أو محدوديتها في احسن الاحوال والفقر في الموارد المادية والفكرية والسياسية واللوجستية، مما قاد الى تخبط كبير ادى الى وضع مصير الامور بيد المؤسسة العسكرية وهي ابعد ما يكون هدف الثورة بالديموقراطية.
الظروف التي مهدت الى الثورة وجعلتها ممكنة رمتها في غياهب المجهول: انه فضاء رحب ولكن من الإمكانيات المتخيَّلة وليس أكثر. صحيح ان رموزاً للنظام القديم قد أزيلت، لكن النظام بذاته ما زال قائماً، ليس لانه قوي ولكن بسبب غياب من هو جاهز لاستبداله. ان الفضاءات الواسعة التي وجد اعضاء الجيل الجديد انفسهم فيها بعد ان ألقتهم اليها امواج التكنولوجيا الجديدة مليئة بالامكانيات المتجددة، ولكنها ضحلة من الناحية الروحية، مفرطة في النزعة المادية الاستهلاكية، وعاجزة في الوقت ذاته من اعادة خلق مجتمع جديد متلاحم كما أكدت وتؤكد على ذلك ابحاث عديدة ما من مجال هنا لذكرها لان الشواهد عليها كثيرة في امريكا وغيرها من البلدان الصناعية ومن لف لفها.
ان المهمة الأصعب والأهم والتي في نظري تستلزم اكبر الجهد الآن هي في الترجل عن حصان الانترنت والعمل على بناء نوع جديد من السياسة الملائمة للعصر الراهن، والقائمة على ايجاد قواعد مؤسسية جديدة تعمل على الالتحام بالجماهير المغيبة عن العمل السياسي على مدى دهور. وتتجنب تكرار ما تفعله الحكومات الراهنة ومعارضتها العفنه بفعل خمولها الطويل. ما هي الفائدة من اقامة احزاب جديدة وما هذه إلا حيلة للدولة كي تميع المعارضة وتتهكم على عجزها عن الاتفاق؟ وما هي الفائدة من القيام بثورات تكلف الكثير من الدماء ثم العودة الى العيش تحت حكومات عسكرية مرة اخرى؟
باختصار، لا بد من الذي ليس منه بد. ان غياب او التغييب المتعمد للايديولوجيا في اواخر القرن الماضي لا يعفي الجيل الجديد من تعلم الايديولوجيا او بالاقل اتقان النقد الايديولوجي والذي سيقود في نهاية المطاف الى خلق فرص جديدة لظهور معانٍ جديدة تخلق اسباباً لمواصلة الحياة بتفاؤل مبني على معاني متجددة وغير قابلة للاستهلاك. اخيراً وليس آخراً لا بد لنا من الاعتراف ان اكبر تحدٍ في هذا المجال هو ما يعيشه العالم من انقسام حاد بين من يملكون ومن لا يملكون، بما في ذلك الوسائل المادية والاعلامية اللازمة لها والتي استحوذت عليها مراكز عالمية امبريالية ادت الى وضع يتسم بالهيمنة شبه التامة. ان اخطر التحديات يرتبط في ضرورة كسر الهيمنة الثقافية القائمة على احتكار ليس المعلومات فقط وانما المعرفة بحد ذاتها والمسؤولة عن توليد الأخبار. وهذه المهمة تتطلب مواصلة العمل والنضال من اجل تحقيق قدر جديد وديناميكي لمعنى الاستقلال الثقافي الذي قد يمكن الجيل الجديد من خلق حيز متميز جديد يدمج العالم المعاصر بالعالم المحلي ويعيد ربط كلاهما بجذور وتطلعات من تم تغيـيـبهم في السجون المغلقة او الفضاء المفتوح على حد سواء. ان تحقيق مثل هذه المهمة يتطلب في المقام الأول الإقلال من النضال من وراء شاشات الكمبيوتر والتحول الى عمل يومي يتبنى المقابلة الشخصية وجهاً لوجه مع الناس الأحياء وقبل كل ذلك يتطلب التخلص من التفكير بالتمني على عادة المعارضة القديمة وبداية التفكير النقدي وتبني الديموقراطية طوق نجاة للجميع. إن المهمة صعبة مرتان. مرة لأن ربيع العرب قد جاء في زمن اختلطت بل اضطربت فيه المواسم بفعل أزمات عالمية بيئية وأخلاقية وسياسية واقتصادية في آن. ومرة لأن العرب لم يطيعوا امير شعراءهم عندما انشد قبل مائة عام: وما نيل المطالب بالتمني ..... ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا!