في عام 2002 استعاد مهاتير محمد، صانع النهضة الماليزية، ذكريات معركة رفض بلاده مساعدة صندوق النقد الدولي المشروطة خلال الأزمة الآسيوية قبلها بأربع سنوات قائلا: "انتقدتنا الدول الغربية بسبب ذلك لكننا لم ننحن أبدا أمامهم في أي مجال لأننا مسئولون عن بلدنا وعن شعبنا. هم ليسوا مسئولين عن بلدنا. هم لا يعتبرون معاناة شعبنا مشكلتهم. غير أنها مسئوليتنا نحن. لقد انتخبونا وعلينا أن نرعى أمنهم ورفاههم".
رفضت ماليزيا مساعدات الصندوق ونصائحه. وقام اقتصادها بسرعة من كبوته. وفي مصر، وفي 2011، هاهو الصندوق يعود لاقتصاد مصر بعد غياب سنوات باتفاق قرض جديد تحت راية مساعدة الاقتصاد المصري في أعقاب ثورة كانت قلبا وقالبا ضد منتجات نصائحه وبرنامجه على مدى عقدين كاملين.
الدرس الماليزي
مع نهاية 1997، هجمت الأزمة الاقتصادية على نمور آسيا، التي كانت نموذجا للعالم في النمو الاقتصادي قبلها بأسابيع. تراجعت البورصات بشدة وتضخمت الديون الخارجية بسبب انهيار العملات المحلية، وانهارت شركات كبرى تحت وطأة عدم القدرة على السداد. وفي ماليزيا، فقد الرينجيت، العملة المحلية، نصف قيمتها. انكمش الاقتصاد عام 1998 لأول مرة منذ سنوات بنسبة 6.2% بعد ان انهار قطاع الإنشاءات متقلصا 23.5% وتراجعت الصناعة 9%. تفاقمت البطالة بشدة.
تقدم الصندوق عارضا مساعداته لكن في الوقت نفسه مدافعا عن أولوية حرية السوق في معالجة الأزمة على طريقة داوها بالتي كانت هي الداء. ويقول مهاتير محمد في حوار صحفي في فبراير 1999: "رغم أننا لم نطلب منه شيئا ظل الصندوق، يجيء ليخبرنا ما الذي ينبغي فعله. لايقاف المضاربين في العملة، علينا أن نرفع أسعار الفائدة. يجب أن تقلص الاقراض. علينا أن نجبر الشركات على أن تعلن إفلاسها بتقصير مدة السماح للقروض السيئة".
رفضت ماليزيا هذه التوصيات حتى بعد أن فشلت في تعبئة حركة مساعدات إقليمية بقيادة اليابان بقيمة 100 مليار دولار، وهو ماقيل إنه بسبب تدخل الولايات المتحدة. وعلى العكس من تايلاند وكوريا الجنوبية، أسست مجلسا قوميا للتحرك الاقتصادي، ضم رئيس الوزراء ونائبه مع النقابات والمجتمع المدني جنبا إلى جنب مع رجال البنوك والمستثمرين وممثلي الشركات. أدار هذا المجلس سياسة ماليزيا الاقتصادية. كان المجلس يجتمع خمسة أيام في الأسبوع ثلاثة ساعات في اليوم لمدة عامين، بحضور الدكتور مهاتير نفسه. تحررت خطة المواجهة من قيود التراك الرأسمالي السريع الذي ظل الصندوق يدافع عنه: ثبتت ماليزيا سعر عملتها في مواجهة الدولار.
فرضت قيودا على حركة رأس المال للخارج. تشكلت لجنة للمساعدة على إعادة هيكلة ديون الشركات لمساعدتها بدلا من تركها للافلاس. تم إعفاء البنوك من نسبة من الديون السيئة ساعدتها على ترتيب أوضاعها. اشترت البنوك الكبيرة البنوك الصغيرة. وفي عام 2000 عاد النمو الاقتصادي بكل عنفوانه بمعدل فوق 8%. صحيح ان رجوع الاستثمارات الأجنبية كان أبطأ من كوريا التي قبلت مساعدات الصندوق، لكنها في الأخيرة تركزت في صورة استحواذات على أصول اقتصادية موجودة بالفعل ولم تخلق نشاطا اقتصاديا جديدا.
تبنت هذه البلد الآسيوية نمطا في التنمية وتعاملا مع الأزمة يستجيب لمصالح سكانها لتتجاوز الأزمة ويعود اقتصادها لقوته بعد أزمة أشد عمقا ووطأة من الوعكة الاقتصادية التي تسببت فيها إزاحة الديكتاتورية المصرية. وذلك بدون الصندوق ومساعداته، وبقرار الحكومة المنتخبة ووفقا لاعتباراتها وخياراتها، وبمعكوس دين تحرير السوق على حساب كل شيء.
الصندوق تغير ولكن..
جاءت الأزمة العالمية في 2008 لتشكل الضربة القاضية لتلك المؤسسات الدولية التي حكمت الاقتصاد العالمي على مدى عقود، أي الصندوق والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية، تاركةً إياها تتخبط في حالة من الارتباك وغياب المصداقية. بدأت هذه المؤسسات عملية مراجعة تستهدف استرجاع جزء ولو صغير من دورها القديم. وهكذا رأينا الصندوق، الذي طالما بشر بتحرير التدفقات الرأسمالية والاستثمارات عبر الحدود، كما كان ينصح ماليزيا في 1998، يوصي الاقتصادات الناشئة بفرض قيود عليها لحماية نفسها من تقلبات السوق العالمي. وبدأ الصندوق يتحدث لغة المساواة الاجتماعية كشرط للنمو. بل بدأت أجندته تتكلم على إعادة هيكلة نظامه الداخلي لإعطاء وزن أكبر للاقتصادات الجديدة في العالم النامي.
ومع إعلان اتفاق القرض لمصر ب 3 مليارات جنيه، أصر الطرفان، الصندوق ووزارة المالية أنه لا توجد شروط من الصندوق لتنفيذ القرض. غير أن ورقة للصندوق حول الأوضاع الاقتصادية في مصر وتونس، تم تقديمها لقمة مجموعة الثمانية في دوفيل بفرنسا، تكرر لنا نفس الخطوط العامة المعهودة: النمو الاقتصادي أولا وقبل العدالة الاجتماعية. الاستقرار المالي، أي محاصرة عجز الموازنة كهدف للسياسة الاقتصادية وأن يكون هذا شرطا ومحددا للانفاق العام، الذي ينبغي توجيهه للبنية الأساسية. وقبل كل هذا يحدثنا الصندوق عن اقتصاد حر يقوده القطاع الخاص. أليست هذه شروطا؟ أليست هذه هي نفس السياسات التي ثار المصريون عليها بسبب انحيازها السافر ضد أغلبيتهم من الفقراء؟ أليس من حقنا أن نقرر ديمقراطيا نظامنا الاقتصادي؟ وهل من حق أحد أن يستبق قرارنا بتحديد مسارنا دون حتى العودة إلينا؟
لا وصاية على الشعب
اتسم إعلان الموافقة على قرض صندوق النقد الدولي، ومن قبله الاعلان عن حزمة مساعدات دولية بقيمة 20 مليار دولار (قد ترتفع إلى 40 مليارا بحسب التصريحات غير الرسمية) بغياب هائل للمعلومات وللشفافية. فكما لا نعلم حتى الآن تفاصيل مساعدات مجموعة الثمانية ولا كيف تتوزع بين منح وقروض واستثمارات، لا نعلم تفاصيل اتفاق حكومة شرف مع الصندوق. وبينما أعلن أن الفائدة على القرض ستكون 1.5% اكتشفنا أنها متغيرة تبدأ من 1.5% أي أنها قد ترتفع مع عودة أسعار الفائدة العالمية، المنخفضة حاليا، للارتفاع. بل إن معدل الفائدة على الاقراض لمصر، والمرتفع حاليا لما بين 6 و7%، بسبب عنصر المخاطر، من المنتظر أن يتراجع ليتراجع عنصر المنحة في القرض، وهو الفارق بين فائدة القرض وسعر السوق.
ليس هذا فقط. فلم تخبرنا الحكومة لماذا نحتاج القرض لهذا الحد. فقد كان تفعيل الضريبة العقارية، التي بادرت الحكومة بتجميدها وحده كفيلا بإمداد الموازنة العامة (بعائد متوقع يصل ل 4 مليار جنيه سنويا أي 20 مليار في 5 سنوات هي مدة القرض الذي لا تتجاوز قيمته 18 مليار جنيه). وإذا كان الاتفاق له بعد إيجابي يتمثل في اقناع مجتمع الأعمال الدولي بأن اقتصادنا جيد وأن الصندوق مستعد لاقراضنا لثقته في ذلك، فقد حصلنا على هذا المكسب بالفعل.
لم تشرك الحكومة، التي لا تتمتع بصفة أنها منتخبة ديمقراطيا كحكومة ماليزيا وهي ترفض قروض الصندوق، أحدا في قرارها الذي يلزمنا ويلزم الحكومة التي سينتخبها الشعب في الشهور المقبلة، على مدى خمس سنوات مقبلة. لم تحذ حكومة شرف حذو مهاتير محمد الذي أشرك الجميع، وهو عراب التنمية والنمو في بلاده، في تقرير مسار اقتصادها وهو يواجه الأزمة. قرض الصندوق ضد الديمقراطية. ولهذا ينبغي إيقافه إلى أن يقول الشعب قوله.
عن ”الشروق“ المصرية