من كتاب 'العالمية الأوروبية: خطاب السلطة' للمفكر وعالم الاجتماع إمانويل ولورستين

[\"???? ?????? ??????? ????????. ?????? \"?????????] [\"???? ?????? ??????? ????????. ?????? \"?????????]

من كتاب "العالمية الأوروبية: خطاب السلطة" للمفكر وعالم الاجتماع إمانويل ولورستين

By : Tayseer Abu Odeh تيسير أبو عودة

مقدمة: لا يغيب عن أي باحث في هذه المعمورة - لدى حديثه عن النظام الرأسمالي العالمي وعلائقه المركبة مع السلطة والإمبريالية وفكرة المركز والهامش- أن يلوذ بأفكار المفكر والمؤرخ وعالم الاجتماع الألمعي إمانويل ولورستين ليتسنى له فهم هذا المركب المعقد من العلاقات بين تراكم رأس المال العالمي وميزان السلطة العالمية في تجلياته التوسعية والاستعمارية في أمريكا وبريطانيا  وفرنسا وأوروبا الصناعية والصين والهند وآسيا المعاصرة وامتداد هذه العلاقة تاريخياً إلى ساحة العالم الثالث، والذي يرفض ولورستين تسميته بناء على هذه المركزية الغربية الإمبريالية، ويعتبره جزء عضوياً وتكاملياً للنظام العالمي الرأسمالي والجيوسياسي. ولقد شغل ولورستين مناصب كونية في غاية الأهمية منها: رئيس جمعية دراسات علم الاجتماع العالمية ISA)) والتي تضم 167 دولة من كل أنحاء العالم، وتعنى بكل التحديات الكونية المتعلقة بالنظام العالمي الرأسمالي وعلاقته بتطور البنية الاجتماعية في سياق الأوروبية المركزية وتعالقها العضوي مع دول الهامش. ومن أهم مؤلفاته التي لاقت صدى كونياً غير مسبوق: النظام العالمي المعاصر، الرأسمالية التاريخية، أفول القوة الأمريكية، الولايات الأمريكية والعالم الفوضوي والكتاب المترجم " العالمية الأوروبية: خطاب السلطة.

ولا يقل ولورستين، والذي قلما تجد له عملاً مترجماً للعربية لقصور في المشهد الثقافي وحركة الترجمة في الوطن العربي، لا يقل أهمية عن كبار علماء الأنثروبولوجيا وعلم الجغرافيا والنظام العالمي الرأسمالي أمثال آدام سميث وديفيد هارفي ونعوم تشومسكي وإدوارد سعيد، رغم التباين الكبير في منهجياتهم العلمية، إلا أن صاحبنا يمتلك منهجاً علمياً جامعاً ومانعاً يتكامل مع كل ما قدموه المذكورين من نظريات مفصلية، أعادت قراءة كثير من العلائق المركبة مع خطاب السلطة العالمي وتفاعله الكوني مع البنى الاجتماعية وتفاعلاتها مع تراكم رأس المال، وعلاقتها الدياليكتيكية مع القوى العاملة في دول الهامش أو شبه الهامش حسب تسمية  ولورستين. ومن الأسئلة المفصلية التي انبرى لها: كيف يمكن فهم الرأسمالية العالمية المعاصرة كنظام اجتماعي في الغرب بدء من القرن السادس عشر وحتى عصر ما بعد الحداثة؟ وما علاقة هذا النظام العالمي في إيجاد أنساق اجتماعية وثقافية مهيمنة تتعالق مع آيدولوجيات الليبرالية الجديدة والليبرالية الديمقراطية والاستشراق وعلاقته التاريخية والفكرية بالتناقضات المرعبة التي تحكم السوق الحرة وما اصطلح عليه ولورستين " العالمية الأوروبية " والتي هي موضوع هذا الكتاب.

ويبدو أن كتاب "العالمية الاوروبية" يعد كتاباً مفصلياً وتأسيسياً لفهم خطاب السلطة الإمبريالي والرأسمالي من خلال شبكة العلاقات الإجتماعية المعقدة التي تفرزها التطورات والتحديات العالمية في تفاعلاتها المتذبذبة بين مركز أوروبي طاعن في مركزيته وامتداده إلى الوراء حتى نظام الإقطاع في القرن السادس عشر إن لم يكن قبل ذلك، وبين هامش وشبه هامش تم اختزاله في الخطاب الغربي في إطار العالم الثالث أو الدول النامية، حيث صار في مرحلة ما بعد الإستعمار سوقاً رائجة لبضاعة الغرب الإستعماري ومصدراً أساسياً للأيدي العاملة والمواد الأولية والتي يمتلك الغربي اليد الطولى في إعادة تصنيعها وإجبار دول الهامش على شرائها بأسعار تنافسية بل وتلقف كل النظريات الغربية بكامل قداستها لتكون أنموذجاً أحادياً لفهم كل هذه الفوضى العالمية وخطاب السلطة. وما نراه في خضم أفول هذه المركزية الغربية والاروبية من الربيع العربي يجعلنا نعيد النظر في مقولة المفكر العالمي وأسـتاذ جامعة كولومبيا حميد دباشي: " الغرب لم يعد المركز بعد الربيع العربي". وما يطرحه كتاب وولورستاين من تفكيك وتحليل للعالمية الاوروبية يجعلنا نعيد النظر في كل ما يطرح من نظريات نهاية التاريخ لفوكوياما أو حتى نظرية المتبجح هنتغتون التي ملأت الدنيا وشغلت الناس في صراع الحضارات الذي لم يكن إلا جزء من مشروع الإمبريالية الكبرى والمركزية الأوروبية لإذكاء النظام الرأسمالي والليبرالي الديمقراطية في سيطرته على مراكز القوى. والسؤال الأكثر تحدياً في هذا السياق هو: ما هو النظام العالمي البديل عن الرأسمالية العالمية بعد خمسة عقود؟ وهل هنالك إرهاصات جلية لنهاية النظام الرأسمالي المعاصر في ظل كل ما يحدث من أفول للمركزية الأمريكية وبروز حركات التحرر العربي وكل التقلبات الإجتماعية والجيوسياسية التي تعصف بالعالم من شرقه إلى غربه.

سياسات العالمية المعاصرة

تعج العناوين الرئيسة في الصحف العالمية بالتعابير الدارجة كالمعتاد: القاعدة والعراق وكوسوفو ورواندا ومعسكرات الجولاك الروسية والعولمة والإرهاب. إن هذه المفردات تذكي صوراً مطردة لدى القراء والتي تم تشكيلها لدينا من خلال قادتنا السياسيين ومحللي المشهد الكوني، وما يتجلى للكثيرين هو أن العالم اليوم هو صراع  جوهري بين قوى الخير والشر. كلنا بلا شك نتوق أن نحسب على معسكر الخير، وفي الوقت نفسه كثيراً ما نجادل  حكمة بعض السياسات لمحاربة الشر، وفي كثير من الأحايين لا يكون لدينا أدنى شك في تحديد دوافع الشر وبواعثه.

إن خطاب قادة العالم الأوروبي على وجه الخصوص - و هم ليسوا الوحيدون طبعاً- جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة وبريطانيا وتيار الإعلام المتغول ومفكريهم المؤسسين، هو خطاب مدجج بالنزوع  نحو العالمية كمبرر جوهري لسياساتهم. يحدث هذا غالباً عندما يتحدثون عن سياساتهم المرهونة بالآخرين- أي الدول غير الأوروبية، وسكان العالم الأكثر فقراً والأقل تنمية- وعادة ما تبدو هذه النبرة واقعية ومتغطرسة ومتبجحة في آن، لكن هذه السياسات غالباً ما يتم تقديمها كحقائق وقيم عالمية جلية.

هنالك ثلاثة متغيرات لمثل هذه النزعة العالمية. يكمن المتغير الأول في جدلية مفادها أن السياسات  المتبعة يتم التوسل بها من قبل قادة الإتحاد الأوروبي العالمي دفاعاً عن " حقوق الإنسان" ولإذكاء ما يسمى " بالديمقراطية". أما المتغير الثاني فيتجلى في موال صراع الحضارات، والذي من خلاله يفترض دوماً أن " الحضارة الغربية" متفوقة على الحضارات " الأخرى" لأنها- أي الأولى- الوحيدة التي أصبحت تستند على القيم والحقائق العالمية. وفيما يخص المتغير الثالث، فيكمن في ترسيخ الحقائق العلمية للسوق ولمفهوم مفاده "عدم وجود بديل" أمام الحكومات إلا الإذعان والرضوخ لإقتصاديات الليبرالية الجديدة.

لو قرأنا في السنوات المنصرمة أي خطاب لجورج بوش الإبن أو توني بلير ( وفعلياً خطابات نظرائهم السابقين)، أو أي من أتباعهم، سنجد تكراراً مطرداً لهذه المتغيرات الثلاثة. إنها  ليست مواضيع جديدة على أي حال، فهذه المتغيرات طاعنة في القدم، والتي بدورها ظلت تشكل الخطاب الجوهري للسلطة عبر تاريخ النظام العالمي الحديث منذ القرن السادس عشر على أقل تقدير. لا بد من وجود تاريخ لهذا الخطاب،  وهنالك تاريخ للمعارضة لمثل هذا الخطاب، وفي النهاية، ظل الجدل يدور حول ماهية ما  نعنيه بالعالمية. لا بد لي هنا من توضيح أن عالمية المستبد كانت عالمية جزئية ومشوهة وهي ما أصطلح عليها " بالعالمية الأوروبية" لأنه تم تأصيلها قدماً من قبل قادة الاتحاد الأوروبي ومفكريهم في خضم لهاثهم خلف تحقيق مصالح الطبقات السائدة للنظام العالمي الجديد. وعلى أي حال، لا بد لي هنا من مناقشة الأساليب التي قد يتسنى لنا من خلالها تحقيق عالمية أصيلة بما أصطلح عليه "بالعالمية الكونية".

إن الصراع بين العالمية الأوروبية والعالمية الكونية هو الصراع الآيدولوجي الجوهري للعالم المعاصر، وستكون مخرجاته الدافع الرئيسي لتشكيل مستقبل النظام العالمي الذي نطل عليه في الخمسين سنة القادمة. لهذا لا يمكن تجنب الإنحياز لطرف ما، ولا يمكن التقهقر لصالح موقف جزئي إقليمي بعينه، والذي من خلاله لا نألوا جهداً في تبرير  جدوى  كل فكرة جزئية  يتم تبنيها بالتساوي على هذه البسيطة. وفيما يخص الإقليمية فهي لا تعدو عن كونها تقهقر خفي لقوى العالمية الاوروبية وللمهيمن في وقتنا الراهن، وأصحاب هذه القوى يسعون لتوطيد نظامهم غير الديمقراطي وغير المتكافئ. ولو خير لنا إيجاد بديل للنظام العالمي الموجود، فإنه يتعين علينا اجتراح وسيلة لإعلان ومأسسة عالمية كونية – عالمية ممكنة التطبيق والتي لا تتحقق بين عشية وضحاها.

إن مفاهبم حقوق الإنسان والديمقراطية وتفوق الحضارة الغربية هي مفاهيم يتم تسويقها لنا كأفكار مثبتة من تلقائها لأنها تكتسي بالقيم والحقائق العالمية، وبسبب حتمية الخضوع " للسوق". إنها أفكار مركبة تتطلب سبر الأغوار عن كثب ويجب تصفية ما يعلق بها من متغيرات لا تسمن ولا تغني من جوع، لنتمكن نحن من تقييمها بصورة  جادة وتسخيرها لنفع الجميع وليس لنخبة بعينها. وإن فهم الماهية التي تم من خلالها تأصيل هذه الأفكار بصورة جذرية ومعرفة من قام بهذا وغاية هذا التأصيل لجزء أساسي من هذه المهمة التقييمية، و هي المهمة  التي سخر هذا الكتاب من أجلها.

لمن الحق في التدخل؟ القيم العالمية في مجابهة البربرية 

لقد أصبح تاريخ النظام العالمي الجديد بمجمله تاريخاً لتغول الحكومات الأوروبية وشعوبهاعلى بقية  هذا العالم. لقد ظل هذا جزء جوهرياً لبناء الإقتصاد العالمي الرأسمالي، ولقد تضمن هذا التوسع الذي استشرى في معظم أصقاع هذه البسيطة، اجتياحاً عسكرياً واستغلالاً اقتصادياً وجوراً عظيماً. فهؤلاء الذين يقودون هذا التوسع ويجنون ثماره غالباً ما يقدمون هذا التوسع لأنفسهم وللعالم بصورة مبررة تستند على أساس المصلحة والخير الذي قد يجلبه مثل هذا التوسع لشعوب العالم. والأطروحة المعتادة  تكمن في أن هذا التوسع قد نشر ما يسمى على مستويات متعددة بالحضارة والنمو الاقتصادي والتقدم أو التنمية. لقد تم تأصيل كل هذه المفردات وإذكاؤها كتعابير لقيم عالمية تجذرت فيما أصطلح عليه غالباً بالقانون الطبيعي، واللغة المستخدمة لوصف هذه الصيرورة غالباً ما تكون دينية، أو يتم اشتقاقها من منظور كوني وفلسفي علماني.

ومما لاشك فيه أن الحقيقة الإجتماعية لما يحدث صارت  أقل حضوراً من الصورة التي يتم عرضها علينا من قبل تبريرات المفكرين المتعددة. ويتم التعبير عن البون الشاسع بين هذه الحقيقة والتبرير ويتمثل هذا البون بصورة متقنة من خلال وسائل متنوعة، ومن خلال أولئك الذين يدفعون أبهظ الأثمان من حيواتهم الشخصية والجمعية. والجدير بالذكر أن كثيراً من المثقفين الذين تعود أصولهم للطبقات المهيمنة قد لاحظوا هذا البون الشاسع المذكور. ونتيجة لذلك تضمن تاريخ النظام العالمي المعاصر جدلاً مطرداً فيما يخص أخلاقيات هذا النظام نفسه. ومن أكثر هذه المماحكات أهمية وأولها تلك التي كانت تثار في مرحلة مبكرة وضمن سياق الغزو الإسباني للأمريكيتين في القرن السادس عشر.

ففي عام 1492، قام كريستوفر كولومبوس بعد رحلة ماروثونية طويلة جداً وطاعنة في المشقة عبر المحيط الأطلسي والطريق المؤدي إلى الصين ، حيث حطت سفنه على شواطئ البحر الكاريبي. لم يعثر على الصين، لكنه عثر على أرض لم تكن في الحسبان وهي ما نسميه بالأمريكيتين في عصرنا الحالي. لقد قام بعض الإسبان بملاحقته في رحلته، وخلال عقود معدودات قام الغزاة الإسبان بتدمير البنية السياسية لأكبر امبراطوريتين في أمريكا: وهما الأزتيك والأنكا. ثم على الفور قام فريق متنوع الأطياف من أتباع هؤلاء الغزاة الإسبان بإدعاء ملكية الأراضي وتسخير اليد العاملة من سكان هذه الأراضي بالقوة والعنف من أجل الاستفادة من هذه الأراضي المنتزعة. وخلال نصف قرن من الزمن تم إبادة جزء كبير من هؤلاء السكان الأصليين والذين دمروا عن بكرة أبيهم إما عن طريق المرض أوسلاح الرجل الأبيض. وما زال الجدل قائماً فيما يخص  عدد هؤلاء المجتثين من أراضيهم في القرن السادس عشر وما تلا عام 1945، لكن غالبية الباحثين متفقون على أن الخسارة كانت فادحة ومساحة الأرض التي اغتصبت كانت كبيرة جداً.

ترجمة: تيسير أبو عودة 

تنظيم المخلّ بالنظام؟ الباعة المتجولون والدولة التنمويّة

 عندما أصدر الرئيس مرسي في العشرين من تشرين الثاني (من العام الماضي) مرسومه المثير للجدل والذي يقع خارج صلاحياته الدستورية، والذي قام لاحقاً بإلغائه جزئياً جرّاء ضغط شعبي هائل، وعد باستعمال صلاحياته التشريعية الإستثنائية الممنوحة له فقط في حدود مقلصة للغاية. وعندما قام فعلياً بممارسة هذه الصلاحيات، قام بذلك سريعاً من أجل سنّ قانون رقم 105/2012 وذلك في خضم ما بات يوصف –دون مغالاة- باللحظات الأكثر حسماً في تاريخ مصر الحديث. حتى المحلل السياسي الأكثر تمرّساً يمكن أن يغفر له إذا ما افترض من باب السذاجة أن هذا القانون يتعلق بالاستفتاء الوشيك على مسودّة الدستور التي أدت الى استقطاب حاد البلاد، أو أنه يتعلق بدور الجيش في الاقتصاد. إلا أن ما يثير الاهتمام هو أن قانون 105/2012 كان قد صُمم من أجل زيادة الإجراءات العقابية ضد الباعة المتجولين، فقد رُفعت العقوبة على الإخلال المنصوص في القانون رقم 33/1957، والتي كانت، حتى ذلك الوقت، تنظم عمل ما يقدر بخمسة ملايين بائع متجول في مصر؛ من شهر واحد إلى ثلاثة أشهر سجن والى خمسة آلاف جنيه غرامة بدلاً من ألف جنيه. لكن، هل كانت هذه على ما يبدو واحدة من إخفاقات مرسي اللانهائية في الأسابيع الأخيرة التي تعكس عدم تواصله بتاتاً مع الحقائق السياسية؟ أم أن هناك المزيد مما يمكن قراءته في مثل هذا القرار من حيث طبيعة علاقات الدولة والمجتمع، الاقتصاد والحيز العام في المرحلة الثورية الحالية؟

إن ثورة 25 يناير، والثمانية عشر يوماً الصاخبة في ميدان التحرير والمسيرات والاحتجاجات العملاقة والاعتصامات التي تلتها والتي اجتاحت البلاد منذ ذلك الوقت، قد أدت الى أكثر من مجرد إسقاط حسني مبارك. فهي تطرح تحديات لهؤلاء الذين خلفوه. الثقافة السياسية الجديدة التي نشأت في صحوة هذه الثورة، كانت قد أبرزت في المقام الأول، الحسّ الفردي والجماعي للمطالبة بالحرية. وعليه فقد قامت بتغيير ممارسات وإدراكات حول الحيز العام. فقد قام النظام التقليدي للحفاظ على الأمن في الحيز المديني المصري، معززاً بكل من قانون الطوارئ المشهور وحضور بوليسي مكثف في الشارع والجدران العالية المنتشرة حول المجمعات السكنية المسوّرة ومراكز التسوق، بإرهاب المواطنين لوقت طويل وحدّ من قدرتهم على استملاك الحيز العام. سواء كانوا نشطاء يدفعون للتعبئة ضد النظام أو كانوا عشاقاّ يبحثون عن لحظات حميمية سريعة، أو فقراء يأملون بلحظات من الراحة من شقائهم اليومي الطاحنّ؛ فقد مُنع المصريون جسدياً من الوصول إلى الحيز العام. الإحساس بالقوة الكامنة الذي تم الحصول عليه أثناء الخروج الى الشوارع على مدى العاميّن الماضيين لم يتمكن من إلغاء حكم السيطرة بالكامل ولكنه بالتأكيد أدى الى ما بات يسميه الكثيرون "إعادة الاستيلاء" على الحيز العام. لا يمكن بعد اليوم تقييدالملايين التي اختبرت الحرية عبر الخروج الى الشوارع للتظاهر، للتناقش وتبادل الأفكار مع رفاقهم من المواطنين الذين لم تتح لهم فرصة التلاقي علناً من قبل، من قبل النظام القمعي ذاته، على الأقل ليس بشكل تام.

إلا أن إكتشاف فرص وموارد جديدة عادة ما يؤدي إلى معارك على الملكية والاستحقاق. لذلك فالمقدرة على إستعادة الحيز العام سرعان ما خلقت نقاشات حادة حول أحقية الوصول لهذا الحيز، من يتوجب إقصاؤه وما هي قواعد التواصل التي يجب اعتمادها بين المواطنين من ذات الدولة. الفئات السياسية المتحاربة قدمت مثالاً لهذه المعركة الجديدة في حملاتها للمطالبة بنسب مواقع تجمّع معينة لها، وعلى رأسها ميدان التحرير الذي بات موقعاً أيقونياً. وكان رسم كاريكاتوري تم تناقله بشكل واسع على الفايسبوك بعد الصدامات بين القوى المعارضة والمؤيدة لمرسوم مرسي الرئاسي حول استعمال ميدان التحرير كبؤرة الزلزال لحملاتهم الشعبية لتعبئة الجماهير، قد عكس هذا النزاع بشكل كبير. ويقترح الرسم الكاريكاتوري مجموعة من القواعد "لجدول ميدان التحرير"، حيث يتم حجز أيام السبت والإثنين والأربعاء لمؤيدي السلفيين والأخوان المسلمين، بينما تُحجز أيام الأحد والثلاثاء والخميس للثوار. وأخيراً فإن يوم الجمعة قد تم تحديده للصيانة والتنظيف وتبادل أسرى "الحرب". إلا أنه، ومنذ 25 يناير 2011، تعدّت المعارك حول ملكية واستحقاق الحيز العام إلى ما هو أكبر من الصراعات الدائرة بين القوى السياسية المتحاربة. الإمكانيات الجديدة لاستحقاق الحيز العام أحيت مخاوف مجتمعية متأصلة وخطوط تماس بين مجموعات اجتماعية وسياسية مختلفة. واحدة من الأمثلة الأكثر صلة بهذا التماس كان السؤال حول حضور المرأة في الحيز العام والمضايقات المتكررة التي عانت منها خلال وما بعد الثورة. الحالات الأخرى التي أثارت قلقاً متواصلاً تتعلق بمكان مجموعات مهمشة أخرى مثل "أولاد الشوارع" والباعة المتجولين.

\"\"

[الصورة من صفحة "منتديات الشاب كول" على الفيسبوك]

 

منذ الأيام الأولى للثورة، توافد الباعة المتجولون إلى ميدان التحرير حيث خلقوا إقتصاداً محلياً مزدهراً زود ملايين المحتجّين الذين ارتادوا ميدان التحرير لاحقاً بوجبات خفيفة ومشروبات بأسعار معقولة. سواء كانوا عائلات أو مجموعات من الأصدقاء الذين جاؤوا للانضمام للاحتجاج أو للتمتع بالإحساس بالحرية والتفاؤل الناضح من الميدان أو كانوا من المقاتلين المستميتين الذين جعلوا من ميدان التحرير بيتاً لهم، فإن كل هؤلاء اعتمدوا على الباعة المتجولين بدلاً من القهاوي والمطاعم المكلفة في وسط البلد في القاهرة. مع الوقت، إنضم اليهم المزيد من الباعة الذين يبيعون مختلف البضائع وسرعان ما تناثروا جميعهم على أرصفة وشوارع كامل منطقة وسط البلد.

فور سقوط مبارك، شرع الجيش والحكومات المتعاقبة في حملة لإخلاء ميدان التحرير، ليس فقط من المحتجين وإنما أيضاً من الباعة. كان الهدف من هذه المحاولات حفظ النظام العام في الشوارع والأهم من ذلك استعادة صورة الدولة القوية "ووقار" المجتمع المصري، الذي يعتبره هذا المنطق مهدداً نتيجة إحتلال الحيز العام. ونادرة هي الحالات التي لا تؤدي بها الإزالة القسرية إلى تصادم عنيف، يعتبر فيه الباعة و"البلطجية" (غالباً ما تم خلط/استعمال الاثنين بالتبادل) بكونهم الملامين على العنف. جهود سلطات الدولة لإخلاء الباعة من التحرير والشوارع المحيطة شكّلت جزءاً واحداً فقط من حملة شاملة طويلة الأمد تمتد لكافة أطراف البلاد لقمع الظاهرة، والتي يعزو إليها الناس مواطن الشر بما في ذلك الفوضى في الشوارع وأزمة المرور والإخلال بالقانون وعلاوة على كل هذا "تشويه" المظهر الحضاري المصري. يدعم أصحاب المحال التجارية والطبقة الوسطى من سكان المدينة مثل هذه الجهود. فبالنسبة لأصحاب المحال التجارية، من الواضح أن الباعة يشكلون مصدر تهديد لهم لأنهم يبيعون بضاعة بأسعار معقولةعند عتبات محالهم. بينما يرى سكان الحارات التي تقطنها الطبقة الوسطى في المدينة الباعة المتجولين كتهديد لأنهم يعيقون انسياب حركة السير ويسّدون الأرصفة مما يجعل تنقل المارة بسهولة أمراً مستحيلاً. وهناك أيضاً بُعد آخر "أخلاقي" متعلق بشعورهم بالقلق الذي يثيره الفقر وعدم النظام المتجسد بالباعة المتجولين. ومن نافل القول، أنه لا يمكنه عزو السبب الحقيقي للزحمة المرورية الخانقة في القاهرة وفوضى الشوارع وإلقاء اللوم في ذلك على الباعة المتجولين. وإنما نجد تلك الأسباب في غياب نظام ناجع ومعقول للمواصلات العامة، وفي شبكات الشوارع الرديئة، وفي أخطاء كبيرة في التخطيط المديني ونظام رأسمالية المحاسيب. على أية حال، فسكان المناطق المرفهة في مصر عازمون على القضاء على حضور الباعة المتجولين "غير الحضاري" والمهدد أخلاقياً، موظفين لذلك كل التبريرات. عليه، فهم يدعون الشرطة بشكل متكرر حيث يرونها حليفهم الطبيعي في حماسهم ضد الإخلال بالقانون وانعدام النظام، وذلك لقمع الباعة المتجولين ومنعهم من العمل في أحيائهم.

جاء قانون مرسي المذهل كخطوة يائسة في معركة طويلة الأمد للتخلص من الباعة المتجولين. فعلى سبيل المثال، في مارس/آذار 2011 قامت قوات من الجيش والحرس المدني بإخلاء باعة متجولين بالقوة من ميدان رمسيس وإعتقال الكثيرين منهم، فيما قُدِم بعض منهم للمحاكمة لاحقاً حيث حوكموا في المحاكم العسكرية. مؤخراً، وتحديداً في أوكتوبر/تشرين الأول 2012، لقي بائع فاكهة شاب يبلغ من العمر 22 عاماً حتفه في صدامات عنيفة خلال هجوم شنته قوات تابعة للشرطة في محاولة منها لتطهير دوار الجيزة من كل الباعة. الأمر الذي أدى الى احتجاج نظمه زملاؤه الباعة أمام مكتب المدعي العام مطالبين بالاقتصاص من المسؤول.

هذه المعركة المستمرة ليست بالجديدة أو الفريدة والخاصة بمصر وحدها. ولكنها شكلت جزءاً متكاملاً من بناء وعمل الدولة التنموية منذ الخمسينيات والستينيات في أغلب الدول النامية. روجت الدولة التنموية عند الأمم المستقلة حديثاً، والنظام الإقتصادي الذي دعمها في النصف الثاني من القرن العشرين لمشروع تحديث يعتمد على العقلانية والنجاعة والتكنولوجيا ووسائل الإدارة الغربية، بالإضافة إلى النظام. بناء على هذا، فقد اعتبروا الإقتصاد غير الرسمي والباعة المتجولين في صلبها كنقيض لمشروع الدولة ووجودها. الباعة المتجولون جسدوا كل ما هو مخالف للحداثة: عدم النجاعة، الفوضى، والطفيلية وعدم الانضباط. صورة المدن غربية الطراز الحداثية وحسنة التخطيط كانت مهددة بفعل ربطها بالفقر والإخلال بالقانون والفوضى التي يخلقها باعة تقليديو الملبس والعمل. الباعة تجولوا في الشوارع، ولم يكن لهم أماكن تجارة ثابتة ولم يتبعوا أي قانون، كما يقضي بذلك المجتمع المتحضر والحداثي.

وضع زاغموند باومن إصبعه على جوهر الحداثة بوصفه إياها بـ "النظام كهوس". لقد عمل النظام، قبل أي شيء، كمحرك جوهري في إعادة إنتاج نظام إقتصادي سائد. في نظام رأسمالي حداثي، فيما تعمل الشركات الكبرى وفقاً لأسس سلم الإقتصاد، فإن الشركة وحتى رجال الأعمال الصغار ولكن المنظمين- يُعترف بهم كشركاء وعملاء للحداثة لكونهم يتلائمون ضمن نموذج عماده تمركز الانتاج والتوزيع. أما الباعة المتجولون، فهم لا يدفعون الضرائب ولا يحفظون السّجلات كما ويستحيل إدراجهم في المؤشرات الاقتصادية العامة مثل مؤشر الناتج المحلي الإجمالي؛ عليه فهم مضّرون للتخطيط القومي الإقتصادي. والأكثر أهمية من ذلك، فإن الشركات والمؤسسات التجارية الكبرى تكرس الدوّر التنظيمي للدولة لإدارة علاقات الإنتاج، حيث تزود الدولة بكونها"رأسمالي جماعي مثالي" الشروط السياسية المسبقة لعملية تراكم صحية عبر السيطرة على علاقات رأس المال لصالح منافع رأسمالية.

على أية حال وبالرغم من جهود الدول المستقلة حديثاً لدمج الإقتصاد غير الرسمي في منظومة مرتبة والقضاء على البيع في الشوارع، إلا أن كلاهما، أي الإقتصاد غير الرسمي والباعة- قد تابعا الإزدهار بمعزل عن الدولة في البلدان النامية. إن الفشل في التنظيم المركزي، والقطاع الخاص غير المتطور وحقائق إقتصادية أخرى في هذه الدول عنت أن القطاعات الأكثر تقليدية مجبرة على تقديم الحلول والرد على احتياجات الملايين المقصيين من مشاريع الحداثة؛ الاحتياجيات التي فشلت الدولة التنموية ذاتها بتلبيتها. هذا صحيح الآن في القرن الواحد والعشرين كما كان صحيحاً في العقود الأولى للاستقلال. لكن القطاع غير الرسمي يستمر بتوفير الوظائف لهؤلاء الذين يدخلون سوق العمل في كل عام والذين تنعدم أمامهم فرص العثور على عمل في القطاع الرسمي.

تغير معنى التنمية إلى حد كبير على مر العقود، وتغيرت ومعه أيضاً تعريفاتها وتوجهاتها التي تم توظيفها من قبل الحكومات الوطنية. التحولات في معنى التنمية كانت قد واكبت دائماً الإحتياجات المتزايدة للنظام الإقتصادي العالمي. بناء على ذلك، فإن الكثير من الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي اضطرت الى تغيير افتراضاتها المبكرة عن التطور والسياسات المتبعة لتحقيق التمنية، وذلك بناء على تطور الإقتصاد العالمي. إلا أن التناقض الآن يكمن في أن الاحتياجات الأخيرة للنظام الرأسمالي العالمي أدت الى مأسسة عمليات من اللارسمية. فالتغييرات في هيئة منظومات التصنيع وفي قطاعات أخرى قد ولّدت منطقاً إنتاجياً جديداً. على سبيل المثال، يعتمد "خط الإنتاج العالمي"، على الإستعانة بشبكات من المصادر الخارجية، بالإضافة الى التعاقد الهرمي ومرونة سوق العمل. هذا النظام على أي حال، ينتج بشكل ثابت المزيد من الإستغلال في العمل، رواتب متدنية، شروط عمل غير آمنة والمزيد من عدم التوازن الوظيفي.

إن النقد المترتب عن هذا التطور وتأثيره على حياة الملايين من الفقراء على المستوى العالمي، حدا بالمؤسسات المالية الكبرى لابتكار سياسات تعزز فعلياً المزيد من أشكال "اللارسمية" من أجل تحسين نصيب هؤلاء العاملين ضمنها وذلك بمساعدة تدخل الدولة. السياسات النيوليبرالية المعززة من قبل "إجماع واشنطن" والمؤيدة بكل طاعة من قبل الجنوب العالمي، بما في ذلك مصر، تقوم، الآن –للمفارقة- بتعزيز مبادرات متواضعة عبر قروض صغيرة وغيرها من برامج التدريب والإقتراض باعتبارها حجر الزاوية المساند للاقتصاد. نتيجة لذلك فإن السياسات المنبثقة عن المؤسسات الإقتصادية إتجاه الإقتصاد غير الرسمي، تهدف إلى "تنظيم" القطاع ولكن ذلك بهدف تعزيزه وليس القضاء عليه.

في سياق مصر طالما اكتسب "التنظيم" دائماً معنى مختلفاً وذلك حسب من يتحدث عنه. ففي الوقت الذي يعتبر تشكيل نقابة للعمال بمثابة سلاح عظيم ضد الاستغلال، إلا أن الطريقة التي يفهم بها المسؤولون المصريون "التنظيم" تختلف بشكل كبير عن تلك التي يفهمها العمال. فبالنسبة لدولة مثل مصر، فإن تنظيم العمل لم يتعلق أبداً بلجم قوة التفاوض الجماعية للعمال، وإنما بتنظيمهم في هيئات قابلة للضبط. في حالة الباعة المتجولين، عنى ذلك تنظيم ظاهرة فوضوية ولكن أيضاً حتمية. وفقاً لهذا المنظور يتم التسامح مع الباعة المتجولين طالما يحتلون مكاناً محدداً، وعليه فيمكن موضعته، إقصاؤه والسيطرة عليه. مؤخراً، قامت كل من نقابة المهن التجارية سوية مع وزارة المالية والإتحاد العام لنقابات عمال مصر المعروف بفساده، بمسح لكافة الباعة المتجولين على صعيد وطني في محاولة منها لتنظيمهم. في الأسابيع الأخيرة، طالب إتحاد الغرف التجارية المصرية الحكومة بتخصيص سوق أسبوعية محددة في مناطق معينة وذلك من أجل "دمجهم في كيان الدولة الرسمي".

حاولت الحكومات المتعاقبة، بما في ذلك تلك التي كانت في فترة حكم مبارك، إبعاد الباعة المتجولين عن مركز القاهرة إلى مدن تابعة لها تقع على أطرافها مثل عبور، وستة أوكتوبر، والشيخ زايد وسلام. مع شبكة المواصلات العامة الضعيفة التي تربط هذه التجمعات السكانية الهانشية (مثال هائل على فشل التخطيط المديني)، فإن النقل يشكل حكم إعدام يحاول كل الباعة تجنبه.

من جهة أخرى، فإن الباعة المتجولين تواقون لتشكيل نقابة عمالية، وعلى الأقل تنظيم صفوفهم جماعياً ضد مضايقات الدولة، وفساد الشرطة والحماية من الاحتيال. وكان أحد باعة القاهرة المتجولين قد أخذ على عاتقه مبادرة للضغط لتشكيل إتحاد عمال مستقل، وتمكن من جمع أربعة آلاف توقيع من باعة من مختلف المحافظات. إلا أن إقامة إتحاد مستقل واجهت الكثير من التعقيدات من قبل وزارة العمل، ويأتي هذا كجزء من استراتيجية حكومات ما بعد مبارك لتوقيف تطور المئات من الاتحادات المستقلة، والتي ازدهرت في فترة ما بعد سقوط مبارك. أسوة بغالبية الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي، المسؤولون المصريون اضطروا للعمل وفقاً لإملاءات المؤسسات المالية العالمية والتي صممت سياستها بشكل يدعم مصالح نظام رأسمالي عالمي. ومع ذلك، فإن بيروقراطيات هذه الدول هي أقل مرونة من الرأسمال العالمي فمسؤولو الدولة يلاقون صعوبة في تعلم خدع جديدة والتخلي عن العادات القديمة. لذلك ما تزال الدولة المصرية ملتزمة باللقضاء على الباعة المتجولين الذين يمثلون تهديداً لحفظها للنظام، ذلك في الوقت الذي تصرح سياساتها الرسمية بدمجهم كشركاء في التطور. ومن نافل القول، أن أياً من توجهات الدولة بالنسبة للتعامل مع "مشكلة" الباعة المتجولين لن تكون ناجعة، ففي تجريم قطاع ما غاية في الأهمية لسوق العمل وللسياسيات الاقتصادية الحكومية الرسمية، بدون طرح بدائل، لن تكون هناك نجاعة ولا حكمة. وفي النفس الدرجة، فإن إحتواء وتنظيم الباعة المتجولين عبر ابعادهم عن قلب المدن وإعادة موضعتهم في الهوامش المدينية بأمل تحويلهم إلى غير مرئيين، يعمل بعكس الأسباب التي تقف وراء نجاح القطاع غير الرسمي، وتلك مرونته، لارسميته وقدرته الجسدية على التنقل. حاولت الدولة التحديثية التي تعتمد التنموية منهجاً، في مصر وفي أماكن أخرى، حاولت جاهدة ملائمة الواقع الإجتماعي في إطار متخيًّل؛ إطار أتقصى مواطنيه وهمشهم بشكل ممنهج. لم ينجح هذا في الماضي، ولن ينجح الآن أيضاً.

[نشر المقال على "جدلية" باللغة الإنكليزية وترجمته حنين نعامنة إلى العربية]