رغم أن تدفق اللاجئين السوريين إلى تركيا بدأ منذ نحو ثلاث سنوات ونصف، إلا إن وجودهم لم يصبح قضية عامة إلا بعد الهجمات التي تعرضوا لها في عينتاب ومرعش وأضنة واسطنبول. لقد هوجموا في الشوارع وفي منازلهم، وأحرقت أو حطمت سياراتهم، وصارت وسيلة السوريين لتجنب الاعتداءات في عينتاب وغيرها هي وضع العلم التركي على منازلهم ومحلاتهم، أي حجب أنفسهم وطمس هويتهم.
مع ذلك، ليس هناك إلا القليل من المعلومات حول وضعهم القانوني وعددهم وشروط عيشهم وعملهم. مؤخرا أعلنت الأمم المتحدة أن العددد الإجملي لللاجئين السوريين في العالم يزيد على 3 مليون (نحو 12% من السكان)، أكثرهم في البلدان المجاورة لسورية، لبنان والأردن والعراق وتركيا.
معظم السوريين في تركيا قدموا من الأجزاء الشمالية من البلد، حلب والرقة وإدلب وحماه، جاؤوا أصلا هربا من اضطهاد النظام لهم ومن قصف مناطقهم، ومؤخرا هربا من داعش.هناك في تركيا 843 ألفا من السوريين المسجلين، نصفهم من الإناث، وأكثر من 55% منهم أطفال تحت عمر 17 سنة. يعيش نحو 230 ألفا منهم في مخيمات لجوء أقيمت في 10 مدن حدودية. والعدد الإجمالي المقدر للاجئين السوريين ومن سورية في تركيا يتجاوز على الأرجح مليون شخص.
السوريون المقيمون في المخيمات يجري تسجيلهم من قبل آفاد، الوكالة التركية لإدارة الكوارث والطوارئ. ويجري تسجيل السوريين الحاصلين على جوازات سفر عند إدارة البوليس الخاصة بالأجانب، ويحصلون على إقامة في المدن التركية كلها عدا محافظتي هاتاي وشرناك. وكذلك يسجل عند آفاد السوريون الساكنون في المدن (وليس في المخيمات) من غير الحاصلين على جواز سفر. ولا تقدم مفوضية اللاجئين العليا التابعة للأمم المتحدة غير نصح فني للسلطات التركية، ولكنها تراقب وتسجل حالات العودة الطوعية إلى سورية.
تركيا من البلدان الموقعة على معاهدة جنيف الخاصة بوضع اللاجئين لعام 1951، وبروتوكولها لعام 1967. المعاهدة هي الوثيقة الدولية الرئيسية التي تُعرّف من يكون اللاجئ، وما حقوقه أو حقوقها، وما واجبات الدولة المستقبلة لللاجئين.
تتميز سياسة اللجوء التركية بخضوعها لتقييدات جغرافية لمعاهدة جنيف. كانت تركيا أصلا قد قبلت بالمعاهدة مشروطة بقيدين، زمني وجغرافي: تمنح مكانة اللاجئ فقط للأشخاص الذي صاروا لاجئين نتيجة أوضاع حدثت في أوربا حصرا، وقبل 1951 حصرا. ومع تبني بروتوكول 1967، رفع القيد الزمني، وبقي القيد الجغرافي (فقط من أوربا) كما هو. علما أن مدغشقر والكونغو هما البلدان الوحيدان في العالم، غير تركيا، اللذان يشرطان اللجوء بقيود جغرافية.
ولا يكون البلد أوربيا إلا إذا كان عضوا في مجلس أوربا، ورغم أن روسيا عضو في المجلس الذي يضم 47 بلدا إلا أن الشيشان لا يقبلون كلاجئين في تركيا لأسباب سياسية.وهكذا فإن الأفراد القادمين من أوربا يمثلون الصنف الأول من طالبي اللجوء في تركيا. وعددهم… 35 شخصا تقريبا.
ويوصف المنضوون تحت الصنف الثاني بأنهم لاجئون بشروط، وهم اللاأوربيون، أو الأفراد القادمون من خارج أوربا. حين يصل هؤلاء إلى تركيا، يجري تسجيلهم عند وزارة الداخلية التركية وعند المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة، وهم ينتظرون في تركيا إلى حين يجري توطينهم في بلد ثالث. متوسط زمن الانتظار يمكن أن يترواح بين 2 و9 سنوات. ويعرف هذا الوضع في تركيا بأنه “حرية محددة أو مراقبة”، وهو يعني أنه حين يجري تسجيلهم يعطون إقامة 6 أشهر قابلة للتجديد، وهوية خاصة بالأجانب. وبهذا يحق لهم عناية طبية مجانية وتعليم مجاني. وبعد 6 شهور من حصولهم على الهوية، يمكن لهم التقدم بطلب للعمل، لكن قلما يحصلون على فرصة عمل. غير أن كلا منهم مقيد الإقامة في واحدة من 63 مدينة محددة، لا تباح لهم مغادرتها. وليس من المدن التي يوزع عليها هذا الصنف من اللاجئين أي من المدن التركية الكبرى: اسطنبول، إزمير، أنقرة إلخ. وعليهم مرة أو مرتين في الأسبوع، أو حتى ثلاثة أن يثبتوا، وجودهم في المدينة أمام البوليس. وحتى آذار 2014 كان هناك في تركيا نحو 100 ألف من جماعة “الحرية المحددة”، 41% منهم من العراق، و21% من أفغانستان، و19% من إيران.
والصنف الثالث يطلق عليه اسم الحماية الثانوية. وهو يطبق على الأفراد الذين لا يندرجون ضمن الصنفين السابقين، لكن يمكن أن يواجهوا بالموت أو التعذيب والعنف إن عادوا إلى أوطانهم. ولهؤلاء فرصة في العلاج المجاني والعمل، وعددهم غير معلوم. والمكانة المترتبة على الاندراج ضمن هذه الأصناف الثلاثة تمنح للأفراد حصرا.
منذ بداية صول السوريين إلى تركيا في 2011، اعترفت الحكومة التركية بهم كتدفق جمعي للاجئين (وليس كمجرد لاجئين أفراد)، ووضعت نظاما خاصا لهم. فللسوريين في تركيا وضع خاص، لا يندرج ضن الأصناف الثلاثة السابقة الذكر. ويبدو الآن أن العراقيين القادمين إلى تركيا يندرجون ضمن هذا الصنف الجديد الذي يسمى وضع الحماية المؤقتة.على أن القواعد القانونية الضابطة لوضع الحماية المؤقتة لا تزال مفقودة.
في البداية كان يعتبر السوريون “ضيوفا”، وهو ما لا يتفق مع أي قانون وطني أو دولي. في أكتوبر 2011، كانت اللغة التي تتكلم على “ضيوف” شائعة في الخطاب الرسمي، وأعلنت وزارة الداخلية أن السوريين مستفيدون من وضع الحماية المؤقتة. وفي آذار 2012 أصدر توجيه إداري سري، لم يجر تعميمه على السوريين أو على مجموعات حقوق الإنسان أو المحامين أو أي طرف آخر، وما علمناه عن مضمون هذا التوجيه حصلنا عليه إما من مفوضية اللاجئين العليا التابعة للأمم المتحدة، أو من الممارسة على الأرض. ويبدو أن هذا الأمر الإداري ينطوي على 3 توجيهات: 1- سياسة الحدود المفتوحة؛ 2- منع الإبعاد القسري للسوريين؛ 3- السلطات التركية تغطي الاحتياجات الإنسانية للسوريين المقيمين في المخيمات.
لكننا نعلم من الوضع على الأرض أن البندين الأولين لا يطبّقان دوما. فالسوريون الذين لا جوازات سفر لديهم، وهم الأكثرية، يدخلون تركيا بطريقة غير قانونية، وهذا يناقض مبدأ الحدود المفتوحة. ورغم أن الحكومة تنكر ذلك، إلا أننا نعلم من شهود وشهادات شخصية أن هنا حالات من الإبعاد القسري.
وفي نيسان 2014 تأسست “المديرية العامة لإدارة الهجرة” وأصدرت “قانون الأجانب والحماية الدولية”. هذه المديرية هي أول سلطة مدنية تنظم قضايا اللجوء في تركية. قبل هذه المديرية كان البوليس هو الجهة التي تتولى هذه القضايا. المادة 91 من القانون الجديد هي التي تتكلم عن الحماية المؤقتة: قد يمكن تقديم الحماية المؤقتة لأجانب اضطروا لمغادرة بلدهم ولا يستطيعون العودة إليه، ووصلوا إلى الحود التركية أو عبروها في تدفق جمعي بحثا عن حماية مؤقتة أو فورية.
على أن القسم الثاني من المادة 91 نفسها قرر أن الإجراءات التي ينبغي القيام بها بخصوص استقبال اللاجئين وإقامتهم وحقوقهم وواجباتهم والتعاون مع المنظمات الوطنية والدولية في شأنهم، وواجبات السلطات المحلية والمركزية، ستتحدد بأمر يصدر عن مجلس الوزراء، وحتى الآن لم يصدر شيء عن المجلس. ولذلك فإن أساسيات قضايا مثل فرص التعليم، فرص الاستشفاء، فرص الدخول في سوق العمل، أمد هذه الحماية المؤقتة، ليست معلومة رسميا.
هذا الوضع القانوني المضطرب يفتح الباب لقرارات اعتباطية من قبل السلطات المحلية. هناك إجراءات مختلفة فيما يتصل بالتسجيل، فضلا عما أشير إليه سابقا من تعليم وصحة وعمل. ولذلك من الشائع جدا أن نسمع قصصا عن سوريين يستطيعون الدخول إلى المشافي في بعض المدن ولا يستطيعون في مدن أخرى، أو طلاب يسجلون في جامعات ويمنعون من التسجيل في جامعات غيرها، أو حتى يسجل بعضهم في الجامعة الفلانية، ويتعذر على بعض آخرين التسجيل في هذه الجامعة نفسها.
نتحول الآن إلى التضمينات الاجتماعية لهذا الوضع القانوني الغامض. رغم التخلي عن لغة “الضيوف”، لم يجر إبدالها بوضع رسمي يقرر بوضوح حقوق السوريين والتزامات الحكومة التركية تجاههم، ولذلك لا يزال السوريون على المستوى الاجتماعي يعتبرون… “ضيوفا”. وهذا يعني أنه، على المستوى الاجتماعي، لا يعتبر السوريون جماعة تبحث عن ملجأ، ويجب أن يكفل القانون التركي حقوقها كجماعة لاجئين. بدلا من ذلك، لا يزال السوريون يعتبرون حالة خيرية، يعتمد وجودها في تركيا حصرا على مدى الكرم والضيافة التركي. في عينتاب مثلا، كانت الجمل الثلاثة التي سمعتُها بصورة متواترة بخصوص السوريين هي: 1- يا غريب كون أديب (على الضيف أن يكون ضيفا مهذبا فحسب)؛ 2 الضيف لا يطيل البقاء إلى هذا الحد؛ 3- الضيف لا يدخل إلى غرفة نوم المضيف.
تتضمن الجملة الأولى أن على السوريين أن يتصرفوا وفقا القواعد التي يحددها السكان المحليون، وتفيد الجملة الثانية أن لا حق للسوريين في البقاء في تركيا، وتقرر الجملة الثالثة أن وجودهم ينبغي أن يكون محدودا في أماكن بعينها، المخيمات تحديدا، وأنه ينبغي بالتالي أن يعيشوا في عزلة، بعيدا عن الفضاءات العامة: حدائق، ساحات، ملاعب إلخ.
وهكذا انقلبت لغة الضيوف والضيافة التي استخدمتها الحكومة التركية في البداية بغرض التأسيس لقبول اجتماعي للاجئين السوريين، ولكن دون ضوابط قانونية تُعرِّف مكانة اللاجئئن وحقوقهم، انقلبت على رأسها، وتحولت إلى خطاب معاد للسوريين على المستوى الاجتماعي. وطالما أن هذا الاضطراب القانوني مستمر، فإن الخطاب المعادي للسوريين سيصبح أقوى أكثر وأكثر.
هذه المكانة القانونية الغامضة للسوريين وندرة فرص الحصول على المعلومات بسبب التوجيهات الإدارية السرية، أدى إلى انتشار النميمية بين الجماعات المحلية التركية، وكذلك بين السوريين. من الشائع مثلا بين السكان المحليين القول إن السوريين يحصلون على المواطنة في تركيا بغرض أن يشاركوا في الانتخابات لمصلحة الحزب الحاكم، وأن كل أسرة سورية تحصل على راتب شهري من الحكومة، وأنهم يحصلون على مساكن مجانية، ويُعالجون مجانا حتى في المشافي الخاصة. ومن الطرف السوري، صار شائعا القول إن على السوريين ألا يسجلوا أسماءهم في تركيا لأنهم يخشون إن كانوا مسجلين في تركيا أن تجري إعادتهم قسرا من أوربا التي يفكر كثيرون منهم بالانتقال إليها تهريبا، وذلك بحكم الاتفاقات الموقعة بين الحكومة التركية والحكومات الأوربية. يتداول السوريون أيضا أن المظاهرات المعادية للسوريين في تركيا تنظمها الأحزاب المعارضة، وهذا غير صحيح تماما.
رغم تأسيس المنظمة المدنية الأولى المعنية بتنظيم أوضاع اللجوء في تركيا، كان رد فعل السلطات التركية على الهجمات التي استهدفت اللاجئين السوريين متمركزا حول الأمن واستعادة الأمن لا حول حقوق اللاجئين. ومن أول ما فعلته السلطات كان إزالة اليافطات العربية من على محلات السوريين، ونقل بعض السوريين بالقوة إلى المخيمات وفي سيارات البوليس، كما لو أنهم موقوفون، ودون أي توضيح بخصوص الجهة التي كانوا يؤخذون إليها. ورغم أن الحاجات الإنسانية الأساسية متوفرة في المخيمات إلا أن العديد من السوريين يفضلون عدم الذهاب إليها لأنهم يعيشون فيها في شروط من العزلة ويتعذر عليهم الحصول على عمل فيها.
وبامناسبة ليس صحيحا أن العلويين والكرد لا يقبلون في المخيمات. لكنهم لا يفضلون العيش فيها خشية من توترات بينهم وبين غالبية اللاجئين الآخرين (عرب مسلمون سنيون). والحكومة التركية لا تبني لهم مخيمات خاصة كي تتجنب صورة أنها تشجع على الفصل الإثني والطائفي بين السوريين. إلا أن الحكومة أقامت مخيما مستقلا للتركمان في أُسمانيا في محافظة هاتاي. ورصدت كذلك حالات من التمييز ضد الكرد في توزيع المساعدات في أورفة.
وقالت رئيسة بلدية عينتاب فاطمة شاهين: “الأولوية العليا هي رفاه السكان المحليين” (وليس أحوال السوريين وحقوقهم). أي أنه بدلا من النظر إلى هذه الاعتداءات كجرائم كراهية، ينظر إليها فقط من المنظور الأمني، وهذا رغم أن في الدستور التركي تعريف لخطابات الكراهية ولجرائم الكراهية. وهكذا فإن رد فعل السلطات التركي يعادل ضوءا أخضر من أجل مزيد من الهجمات على اللاجئين السوريين، فبدلا من توضيح حقوق اللاجئين، عملت الحلول المقترحة على جعل السوريين أنفسهم أقل وضوحا، وغير مرئيين.
هناك ثلاث أنواع من التسويغات للهجمات ضد السوريين:
أولها الإسكان: ارتفاع الإيجارات وصعوبة العثور على مساكن للسكان المحليين بسبب وجود السوريين.
ثانيها بطالة متصاعدة وأجور تتدنى للسكان المحليين.
وثالثها صعوبة متزايدة لوصول السكان المحليين إلى الخدمات الصحية.
لوم اللاجئين على هذ المشكلات الثلاثة لا يتجاهل فقط المستغلين الفعليين من أصاب مساكن ورأسماليين، وإنما يتجاهل أيضا المشكلات السابقة لوصول السوريين إلى تركيا على هذه المستويات ذاتها. وفما يتعلق بالقطاع الصحي التقيت في عينتاب برئيس غرفة الأطباء، واستنادا إليه فإن المعتدي الحقيقي على قطاع الصحة التركي ليس اللاجئين من سورية، بل “الإصلاحات” الصحية التي تجري في البلد منذ نحو عشر سنوات. هذه الإصلاحات، يقول الرجل، حولت القطاع الصحي إلى مشروع تجاري، إلى درجة أنه حتى المشافي العامة تدار بذهنية المشاريع الربحية. وفي المحصلة كان هناك تدهور مسبق في الرعاية الصحية الذي توفره هذه المشافي للمواطنين الأتراك.
وبخصوص مشكلات السكن، فقد كانت موجودة سلفا في عينتاب قبل وفود السوريين بسبب مشروع التحول الحضري الذي كان يجري في العديد من المدن التركية. ووفقا لهذه المشاريع فإن المناطق التي يسكنها أصحاب الدخول المتدنية يجري إخلاؤها من هؤلاء السكان وتحويلها إلى مناطق تسكنها الشرائح العليا من الطبقة الوسطى، ولا يطيق سكانها الأصليون العيش فيها. مثلا منطقة شاهين بيه في عينتاب حيث يتركز السوريون، هي من المناطق التي تتعرض لمشروع التحول الحضري، وسكانها هم سلفا بصدد خسارة منطقتهم. علما أن مشاريع التحول الحضري لها تنفذها البلديات، وهي قادرة قانونيا على قطع الكهرباء والماء والغاز عن مساكن السكان الأفقر كي يضطروا لإخلائها. وبعد ذلكتهدم هذه المساكن وتبنى مكانها مساكن غالية تباع بأسعار باهظة للقادرين على شرائها.
أما بشأن مشكلات العمل، فإن عينتاب من أكثر المدن المصنعة في تركيا، بينما معدل الانتساب لنقابات العمال فيها لا يتجاوز4% فقط. ما يعني أن العمال كانوا أصلا في وضع هش، مفتقرين إلى أقنية للدفاع عن حقوقهم في مواجهة استغلال أرباب العمل.
ما أحاول قوله هو أن نقص قنوات احتجاج السكان المحليين على استغلالهم وعلى المطالبة بحقوقهم هو ما يفضي إلى جعل السوريين أكباش فداء لمشكلات سابقة على قدومهم إلى تركيا، وما يجعلهم عرضة للممارسات العنصرية اليومية.
يحاول البعض شرح الهجمات على السوريين بأنها مبنية على الولاءات السياسية أو على الهويات الإثنية والطائفية. وتعتقد بعض المجموعات السياسة أن الحزب القومي الفاشي يحرك هذه الهجمات. ويرى الموالون للحكومة أن الدافع وراء الهجمات هو إضعاف الحكومة. ويرى سنيون أن علويين هم محركو هذه الاعتداءات. ويرى قوميون أتراك أن الكرد هم وراء الاعتداءات. وترى مجموعات معارضة للحكومة أن الحكومة نفسها وراء الهجمات لأنها في ورطة لا تعرف كيف تخرج منها. وهكذا وهكذا. وبينما يمكن لبعض هذه التقديرات أن تكون صحيحة جزئيا، فإن محاولة تفسير الاعتداءات على اللاجئين السوريين استنادا إلى هذه الاعتبارت وحدها إنما يتجاهل الديناميات البنيوية والطبقية للصراع الاجتماعي في تركية.
وعلاوة على ذلك، فإنه كان واضحا من مقابلاتي مع سكان محليين أن خطاباتهم كانت تتقلب بين خطاب إسلامي وخطاب قومي، أو خطاب معاد للأجانب. وكان من السهل على الشخص نفسه أحيانا أن يتحول من الكلام على أن السوريين هم إخوتنا المسلمون إلى خطاب قومي معاد للأجانب يقول إنهم غرباء في بلدنا، نحن الأتراك. المشترك بين الخطابين الذي يسهل على المتكلم التحول من أحدهما إلى الآخر هو أنه لا مجال في أي منهما لمفهوم الحقوق، حقوق اللاجئين.
ولقد جاء أقوى رد فعل على الهجمات على السوريين من العمال في إزمير واسطنبول. فقد نظموا احتجاجات ضد كل من منفذي الهجمات كما ضد مستغليهم. وكان شعارهم الرئيس: اللاجئون السوريون ليسوا أعداءنا، أعداؤنا هم الرأسماليون الذين يستغلوننا ويستغلونهم!
وكان يفترض أن يصدر نقد هذه الاعتداءات من الحركات النسوية التركية، ردا على قول المعادين للاجئين السوريين بأن الرجال السوريين يتحرشون بالنساء التركيات. عدا أن هذا تعميم غير صحيح، فإنه يجري هنا تحويل أجساد النساء إلى أداة لتدعيم الخطاب البطريركي المعادي للأجانب. كان على النسويات أن يعلنّ أن هذا ليس باسمنا. بالمناسبة، لا يعترض هؤلاء الصارخون ضد تحرش الرجال السوريين بالنساء التركيات على “شراء” رجال أتراك لفتيات سوريات فقيرات كزوجات ثانيات، ولا تتطرق إلى الأمر النسويات التركيات أيضا.
الفسطينيون: لاجئون مضاعفون
مؤخرا، ويفعل عدم سماح لبنان والأردن للفلسطينيين الدخول إلى البلدين يتزايد عدد الفلسطينيين السوريين القادمين إلى تركيا، ويقدر اليوم بنحو 9 آلاف فلسطيني. ورغم أن التوجيه الإداري التركي يقرر أن الأشخاص الذين بلا دولة سيعاملون مثل مواطني سورية، وهو ما ما يشمل الفلسطينين والكرد السوريين المحرومين من الجنسية، إلا أنه لم يجر التطبيق الكامل لهذا التوجيه من الناحية العملية. فحتى حين يكون الفلسطينيون حاصلين على جواز سفر من السلطات السورية لا يسمح لهم بالدخول إلى تركيا إلا بفيزا. وعلى كل حال لا تعطي السفارات التركية في لبنان والأردن ومصر فيزا للفلسطينييين منذ أكثر من عام. وهو ما يعني أنه لا خيار للفلسطينيين إلا أن يدخلوا إلى تركيا بصورة غير شرعية. وهو ما يعني أيضا أن الفلسطينيين الذين لديهم جوازات سفر لا يمكنهم الحصول على إقامة لمدة سنة في تركيا مثلما يحصل عليها السوريون الذي لديهم جوازات. علاوة على ذلك، لا يقبل الفلسطينيون في مخيمات اللجوء التي أقيمت للسوريين. لكن يمكنهم الحصول على بطاقة من آفاد تتيح لهم الحصول على الرعاية الصحية.
وهذا الوضع يطال تصور الهوية الفلسطينية. في سورية كن الفلسطيني يقول إنه من صفد مثلا أو من القدس، اليوم صار يعرف نفسه بأنه من مخيم اليرموك من صفد. وهذا يعقد فهوم حق العودة الفلسطيني مثلما يعقد مفهوم الهوية الفلسطينية.
ختاما
رغم الصفة الملحة للجانب الإنساني من قضية اللجوء السوري، هناك جوانب سياسة أيضا لرد اللاجئين السوريين إلى مجرد ضحايا سلبيين لحرب في بلدهم.
في المقام الأول، ينتظر من اللاجئين أن يكونوا مجرد لاجئين، أشخاصا بؤساء لا يحاولون عيش حياة متنوعة (كيف للاجئة السورية مثلا أن تضع ماكياج على وجهها؟ كيف يتمشى لاجئون سورية في الحدائق ويحاولون الاستمتاع بحياتهم؟)، وليس لهم بالتالي أن يعيدوا بناء حياتهم، بل فقط أن يعيشوا كضحايا تعساء.
وفي المقام الثاني، هذا الفهم للاجئين السوريين مجرد ضحايا، يسلبهم هوياتهم السياسية، وبدلا من النظر إليهم كشعب يكافح من أجل الحرية ويعاقب على كفاحه، ينظر إليهم بالأحرى كمساكين ينتظرون العون من غيرهم. وبالنتيجة، ما يدخل في تصورنا الاجتماعي في تركيا هو صورة المتسول السوري، وليس أناسا ينتجون ثقافيا وسياسيا وفنيا واقتصاديا.
من الضروري لذلك بناء شبكات تضامن بين السوريين والسكان المحليين من أجل تغيير هذا التصور، وبغرض تحقيق فهم أعمق للمجتمع السوري الذي نعيش معه اليوم.
[نشر المقال لأول مرة على موقع مجلة "هامش"]