استيقظت على ظلال كبيرة وصغيرة. كانت الكبيرة تلكمني على وجهي وتتحدّث إلي. والصغيرة تتنفّس في وجهي وتسقيني لُزوجَتها. وعندما استطعت فتح عيناي، تحرّك الظل الكبير إلى الوراء، ورأيته يضع سكّيناً في طرف حزامه وهو يخبر شخصاً وراء الباب بأنني صحوت. بينما يتابع الكلب لعق فمي وأنفي.
صرخت كثيراً به وبالامرأة التي أطلّت من وراء الباب لتراني. سألتهم عمّا يريدان فعله بي ولم يجيباني. كانا مصدوميْن من أنني حيّ، ولم يكونا يعرفان ماذا يريدان أن يصنعا بي.
ارتبكا أمامي، ودارا حولي وهما صامتان. والكلب لا يزال يلعقني ويتنفّس بوجهي، وخفت من أن أصرخ كي لا أغضبه. وعندما غادروا جميعاً، عادت الامرأة بكوب ماء وقطعة خبز يابسة، وبدأت بسقايتي وإطعامي بينما كان الكلب يشاركني.
وعندما انتهت، بدأت تخبرني عن قصّتهما وهي تداعب الكلب: "أترى هذه الكلبة؟ هذا هو عملنا. نحن لا نقتل الناس أو نلتهم الجثث. أعلم أنك رأيت سكيناً في يد سلمان، كان فقط خائفاً من أن تصحو فجأة وتعضّه أو تؤذيه. أشعر بالأسف لأن سلمان اضطّر لإطلاق النار عليك. لكن ماذا كنتَ ستفعل لو وُضِعتَ بمكانه؟ لو وجدتّ شخصاً يحتل كوّة القناصين في المستشفى؟ لكننا لن نؤذيك. لا تقلق، لسنا محسوبيْن على أيّ طرف. نحن فقط أشخاص عاديين نحاول أن نعيش في وسط هذا كله. فقد كنّا أشخاص عاديين قبل ما حصل، وأعتقد بأنّنا حافظنا على هذا الأمر حتى الآن. كنتُ موظّفة بنك عادية أتقاضى راتباً لا بأس به ونحاول أنا وزوجي العيش بأدنى مستوى من الرضا. وعندما انهارت البنوك وجدنا أنفسنا بدون ملجأ بعد أن احتلّت إحدى الجبهات المقاتلة منزلنا لنتشرّد كالبقية. حتى آنذاك لم نكن نأكل الجثث. كنا نبحث عن أيّة بواقٍ في الحاويات ومكبّات الزبالة.
في ذلك الوقت كانت قلّة من الناس تأكل وتشرب بشكل عاديّ. كان زوجي يحاول أن يقدّم خدماته في مجال مهنته. كان مسؤولاً عن قسم الصيانة في مصنع مكيّفات كبير. وكان هدفنا البحث عن المنازل التي لا تزال تستعمل التكيّيف لصيانتها والحصول على الطعام والثيّاب بالمقابل. كنّا نخرج كل يوم إلى دابوق والحمّر وأم أذينة لنطرق أبواب المنازل عارضين خدماتنا. وكان الحظ يصادفنا أحياناً مرة في الأسبوع. أعتقد أن أصحاب المنازل كانوا محقّين في التوجّس من مناظرنا. خاصة سلمان. رغم أنه وزوجي شقيقان، إلا أنهما لا يشبهان بعضهما في شيء. زوجي كان أنيقاً ومهذّباً حتى في أصعب الظروف. كان عندما يرتدي البنطال والقميص المخصصان للعمل يبدو كأنه خرج للتوّ من مكتبه في المصنع. عند انتهاء يومنا كنا نلجأ إلى أيّة زاوية لأحاول إعداد وجبة من الذي حصلنا عليه أو وجدناه طيلة النهار، بينما كان زوجي ينهمك في تنظيف ملابسه. أما سلمان فكان جائعاً طيلة الوقت. فظّاً وسريع الغضب ومن دون أيّة مهارة. ولم يكن ينفع في شيء سوى الأعمال البسيطة التي كان زوجي يكلّفه بها: المساعدة في تفكيك المكيّفات، حمل العدّة، ترتيب المفكّات حسب القياسات، تعرية سلك وتغليفه. بينما كان زوجي يقوم بالعمل كله: مخاطبة أصحاب المنازل وعرض الخدمات، وتجاذب المحادثات التي تُشعِر الأهالي بالاطمئنان أثناء العمل على تنظيف المكيّفات من الغبار والأتربة، ومعالجة تماس كهربائيّ، وتمديد خط جديد للكهرباء، وصيانة الماتورات. مقابل ذلك، كان الأهالي يقدّمون لنا الماء والطعام. وأحياناً كنا نحصل على قطع ملابس بحالة جيّدة بالفعل.
في إحدى المرّات، نادتني سيّدة منزل كبير وفاره إلى غرفة نومها وفتحت لي خزانة ثيابها وأخبرتني بأن أختار ما يعجبني: "نقّي اللي بدّك اياه حبيبتي. إنتي شكلك محترمة وتبهدلتي غصبن عنّك". كدت أن أبكي عندما رأيتُ ملابس داخليّة نظيفة. ستيانات سوداء وحمراء بورود صغار على أطرافها. جي سترينغات أرجوانيّة وبنفسجيّة. قمصان نوم بيضاء ومورّدة. كنت فعلاً على وشك البكاء، فلم أكن أرتدي إلا خرقاً تحوّلت فيما بعد إلى مجرّد شرائط لا لزوم لها. وعندما سقط زوجي من نافذة في الطابق الثاني وهو يحاول تفكيك مكيّف خارجيّ، لم أعد بحاجة إلى الملابس الذي أخذتها من السيّدة اللطيفة. كان كل شيء يبلى ويتحوّل إلى شرائط باهتة. قضيت أياماً عند القبر الذي حفرناه وألقيناه فيه بحديقة الطيور بالشميساني، ولم يكن سلمان حتى موجوداً. كان يخرج طيلة النهار للبحث عن طعام ليعود بسكّين، أو صحف قديمة، أو دمى أطفال محروقة. حتى عاد يوماً بكلب. قال أنه وجده بالقرب من دوّار الرابية جالساً على سور لمنزل مهجور. وعندما حاول الاقتراب منه سمح له الكلب بمداعبته وأخذه معه. وبعد يومين، عاد سلمان من دون الكلب حاملاً كيساً مليئاً بالطعام والماء. وقرّرنا يومها أننا سنقوم بالبحث عن الكلاب المفقودة وإعادتها إلى أصحابها. كان سلمان قد عثر على إعلانات تدعو لمن عثر على الكلب بإرجاعه مقابل مكافأة مجزية. وهكذا عاد بالطعام. وهكذا عثرنا على عشرات الكلاب الضالّة وأعدناها إلى أصحابها. لم يكن عملاً مرهقاً أو صعباً. كانت الكثير من الكلاب تهرب خوفاً من الضجيج الذي يثيره القتال.
وكان الكثير من الأهالي يهربون من مناطقهم القريبة من الاقتتال، فتضيع الكلاب في الطريق. ولأنه لم ينتبه أحد إلى هذا العمل، كنا الوحيدين. وأصبحت لدينا سمعة جيّدة، وتداول الذين من كانوا يمتلكون كلاباً اسمينا وصرنا مشهوريْن. لكن كانت هناك مشكلة الوصول إلينا. فقد كنّا بحاجة إلى مركز لعملنا. وكان يجب أن يكون هذا المركز قريباً من نقاط التماس حتى نقدر على التقاط الكلاب التي تهرب من على الجسر الذي كان وسيلة المرور الوحيدة. لذلك، وجدنا في البداية منزلاً في الدوار الخامس. لكن عندما بدأت تزداد أعداد الكلاب التي لا يبحث عنها أحد بسبب موت أصحابها أو لامبالاتهم، كنا مضطرين لإطعامهم وسقايتهم لمدة أطول. وكان ذلك يستنزف إمكانياتنا. وشيئاً فشيئاً أصبحت الكلاب تزاحمنا في الطعام والماء الذي نحصل عليه. لذلك، فكّرنا في حل يضمن لنا التقاط الكلاب التي يبحث عنها أصحابها. لكن كيف تعرف ذلك؟ في البداية كنا نبحث عن كلاب نظيفة وبصحّة جيّدة. فكّرنا أنها فقدت للتوّ، وبأن أصحابها الأقرب لطلب مساعدتنا. لكن ذلك لم يكن مجزياً أيضاً. فمع الوقت، قلّت أعداد الكلاب المفقودة. وبدأنا نعثر على أشلاء منها في الشوارع. كلاب صغيرة وكبيرة بأبطان مبقورة وأطراف مبتورة كانت تستعمل في الطهي. بعدها، اكتشفنا أننا نزاحم الآخرين في طعامهم، وخطرت لسلمان فكرة أخرى: لماذا لا نقوم بخطف الكلاب من أصحابها؟ وفعلاً، كانت فكرة لامعة. الفكرة الجيّدة الوحيدة التي خرج بها سلمان طيلة معرفتي به. ولم يكن الأمر صعباً: كنّا نرصد المنازل الكبيرة والفارهة، إضافة إلى المهاجرين من هذه المنازل، ونستغلّ الليل لنتسلّل إلى الحدائق ونخطفها. ولأن الكثير من الكلاب كانت تنبح باتجاهنا عندما ترانا أو تشتمّنا، قررنا بأن نصطحب كلبة لإغراء الآخرين.
فقد كان أصحاب المنازل يميلون لاقتناء الذكور. وهكذا انضم عضو ثالث إلى المجموعة. وهذه هي سيمون- مشيرة إليها، الكلبة التي تستطيع إغراء أكبر كلب مزمجر ومثير للخوف. كان العمل يتحسّن مع الوقت. وكانت الفكرة فعلاً مجزية وعمليّة: كنا نخطف في الليل، وفي النهار التالي كنا نستقبل مبعوثين من الأهالي للبحث عنها. وبعد يومين، نقوم بإرجاعها مقابل كميّات أكبر من الطعام والماء والثياب كنّا قد اشترطناها عليهم. كنا نعيش بشكل جيّد: نأكل ونشرب ونرتدي ملابس ثقيلة تقينا من البرد. لكننا لم نكن نريد أن نقتل الكلاب التي بقيت لدينا أو نرميها في الشارع. لا أكذب عليك، لم يكن الأمر مجرّد شفقة أو تعاطفاً معها. كانت هناك بالطبع لحظات تكلّمنا فيها معها، وحتى لقبناها بأسماء جديدة، وبدأنا بالتعوّد عليها والتفريق بين شخصياتها ونوعيّة الطعام الذي تفضّله. لكننا كنا نفكّر أيضاً في الاستفادة منها. حتى وصلنا في أحد الأيام مبعوثٌ من أكبر الجهات المتقاتلة للبحث في إمكانية توفير الكلاب لهم لاستعمالها في التقصّي والبحث. وعندما وافقنا، ورّدنا لهم ثلاثة كلاب في البداية، حتى جاؤوا وطلبوا ثلاثة آخرين. وعندما تمّ الاتفاق على توريد ثلاثة كلاب في الأسبوع، بدأنا مرة أخرى بالتقاط الكلاب الضالة في الشوارع. في الواقع، كنا أحياناً نخطف كلاباً لنورّدها إلى المقاتلين بعد أن كان المقابل مجزياً بشكل أكبر من أصحاب الكلاب. إذ كنا نحصل منهم على كفايتنا من الطعام والماء والثياب. إضافة إلى توفير الحماية. حتى بدؤوا بمقايضتنا بالسلاح.
في البداية، كانت المقايضة محصورةً في سكاكين وقنابل ومسدّسات عيار 6 ملم. لكننا في النهاية حصلنا على صفقات كبيرة: رشاشات ومضادات دبّابات ومتفجّرات TNT وألغام. ولأننا لم نكن نعرف ماذا نصنع بهذه الأسلحة، قرّرنا المتاجرة بها. هنا عرفنا بأنّنا بتنا داخل لعبة خطيرة. تورّطنا باختيارنا ومن دون سبب جيّد. كنّا قد بدأنا بالتحوّل إلى إقطاعيّيْن نحاول اكتساب المزيد من الامتيازات. لا أعرف بماذا يفكّر سلمان بالتحديد، على الأغلب هو يريد أن ينجو فقط، لكنّ جزء من تورّطي هو رغبة في الانتقام من كل هؤلاء. من أصحاب المنازل الفارهة، والجبهات المتقاتلة، والكلاب، والمتشرّدين، وجميع المقبورين في حديقة الطيور، وجميع المحتَجَزين في منازلهم. أنا أنتقم لزوجي ولنفسي. أنتقم من المدينة وأشارك في تهديمها. أعلم أنّني أجرّ نفسي إلى نهاية بشعة، لكنّني أريد أن أنشر مستوى أكبر من الضجيج. أن أرى جثّةً متفحّمة بدون رأس وأقول لنفسي بأنني السبب. أن أرى كلباً يلتهم كلباً آخر وأشعر بالاطمئنان. لا أتوقّع أن تفهّم، ولا أقول لك ذلك كي تتفهّمني. إنك ميّت على الأغلب هنا أو في مكان آخر ليس بعيد. ذراعك تتورّم ولا نستطيع المغامرة بالاستعانة بأحد لمداواتك. إضافة إلى أننا لا نثق بك. لكنّنا لن نؤذيك، وسنوفّر لك الطعام والشراب بالقدر الكافي. لن نغدق عليك لأننا في مرحلة حرجة، ونحتاج لكل كسرة خبز وقطرة ماء. إذ سينكشف أمرنا عاجلاً أو لاحقاً. فبعد أن بدأنا بالمتاجرة بالأسلحة مع الجبهات المقاتلة الأخرى، بدأت الجبهة المزوّدة بالشكّ فينا. فقد لاحظوا التطوّر المضطرد في الدمار الذي أحدثته الجبهات الأخرى بمعسكراتهم.
ولمّا كانوا يشترطون علينا أن نبيع الأسلحة للأفراد فقط، فقد كنّا نلعب لعبة قذرة. كانت الأطراف الأخرى تعلم مصادر الأسلحة. كان ذلك بديهيّاً. وكانت الجبهة المورّدة ترسل إلينا كوادر برتب أعلى مع الوقت لاستطلاع نوايانا. لم يكن أخلاقيّاً بالنسبة لاتفاقنا التساؤل عن الطرق التي يتصرّف فيها الطرفان بالكلاب والأسلحة. كنّا نعرف أنهم يدرّبون الكلاب على تقصّي الأثر وحراسة المعسكرات، وكانوا يعرفون أنّنا نتاجر بالأسلحة. لكننا لم نكن نتساءل عن ضحايا هذه العمليّات. لا أعلم، ربّما شاركت الكلاب في عمليّات الملاحقة والقتل. ربّما اعتاشت على الجثّث الملقاة في الشوراع. هذا لا يعنيني شخصيّاً. مثلما لا يعنيهم طبيعة الأفراد التي اشترت منا الأسلحة. ولأنهم لم يستطيعوا تأميننا بالطعام والماء والثياب طيلة الوقت، كانت الأسلحة هي ثمن المقايضة الوحيد في أغلب الأحيان. كنا نقايض الأسلحة بالطعام، بالمياه، بالمساومة على اقتطاع أراضٍ لضمّها إلى مركزنا، بأسلحة أخرى، بتأمين الحماية. لكننا لا نقتل. لا نغمس أيدينا بالدماء. نحن نوكّل آخرين بذلك فقط".
-17-
غادرت الامرأة التي لم أعرف اسمها مع سيمون. وعادت إلي في أوقات متقطّعة لتطعمني وتسقيني. أحياناً كانت توقظني في الفجر وتعتذر مني وتقول بأنها ذاهبة مع سلمان في مهمّة إلى الطرف الآخر من الجسر ولن يعودا حتى المساء.
في أوقات غيابهما، كنتُ أسمع الكلاب المحتجزة في الغرفة الأخرى وهي تتحرّك وتنبح طيلة الوقت في الفراغ الذي يحيط بنا جميعاً. قالت لي الامرأة أن المركز في الدوّار الخامس، لكنها قالت أيضاً أن المركز توسّع ليضمّ أراضٍ أخرى لا بدّ من أنني في إحداها.
كنت أحلم أحياناً بأنّني نائم في سريري بمنزلي باللويبدة. الشمس تقترب من قدميّ شيئاً فشيئاً حتى تغمرني بحرارتها وأنا تحت الغطاء. وعندما أكون قادراً على رؤية الشمس وهي تصعد في المرآة المقابلة للسرير، تبدأ أصوات نباح ومواء من الصالون بالاقتراب من الغرفة. في البداية، تبدو الأصوات كأنها تستجدي طعاماً أو ماءً، أو حتى صحبةً. لكن مع اقترابها تبدأ الأصوات تزمجر بغضب، حتى تتكّوم في صوت واحد كبير وأسود يهجم علي من الباب. عندها أستيقظ وأنا منقوع بالعرق فأتذّكر أين أنا الآن وأسمع أصوات الكلاب في الغرفة الأخرى تزمجر بغضب.
كانت ذراعي تزداد سوءاً. خفّ الألم الآن. ومع اختفاء الألم كان إحساسي بها يختفي تدريجيّاً. كنت أراها وهي تتورّم حتّى بعد أن حرّرتها الامرأة من القيد. كانت منقطعة عن الدم والسوائل، وكانت قد بدأت بالتحوّل إلى اللون الأسود. لكنني كنت الآن أيضاً قادراً على النهوض والنظر من النافذة.
أطلّت النافذة على حديقة لمنزل كبير ومهجور سدّت جدرانه العالية المشهد من ورائه. لذا، كانت محاولة معرفة مكاني عبثيّة. ولأنّني لم أكن أسمع أيّة أصوات، فقد علمت على الأقل أنّني محتجز في مكان بعيد عن نقاط التماس. لذا، رجّحت بأنني لست في الدوار الخامس على أقل تقدير.
في بعض الأحيان، كنتُ أسمع خطوات تمشي باتجاه النافذة التي كانت تعلو طابقين. خطوات بطيئة وخافتة توحي بأن صاحبها يتسلّل حول المكان. ولأنني كنتُ أجهل ترتيبات حماية المكان، فقد جلستُ أيّاماً وأنا أنتظر أن يأتي أحد ليقتلني. وعندما كان سلمان والامرأة يرجعان، كنت أخبرهما عن تلك التحرّكات، فيجيباني بأنها على الأغلب أفراد رصد واستطلاع من القوّات المختلفة. إذ فقدا الثقة بهما، وقالا لي بأنهما يتوقّعان اقتحام أماكن نفوذهما وربما تصفيتهما قريباً. لذلك، كان عليهما التنقّل بين المراكز التي امتلكوها طيلة الوقت، متناوبان على النوم والمراقبة.
كانا يأتيان إلى المكان الذي احتجزاني فيه كل يومين مرة واحدة. ويقضيان فترة تتراوح بين أربع وخمس ساعات أو أكثر قليلاً. كنتُ ألاحظ أنهما يأتيان في وقت متأخر من الليل، ويغادران عند الفجر. أو في منتصف النهار، ويغادران عندما تزداد برودة الجو. لذلك، خمّنت بأن مناطق نفوذهما إما متّسعة أو تحتوي على مراكز كثيرة. فإذا كانا يمكثان في المركز الواحد لمدة أربع ساعات، ويحتاجان إلى ساعة للتنقّل بينها، فهذا يعني أن نفوذهما يتّسع لخمسة أو ستّة مراكز أخرى على الأقل.
كنتُ أتوسّل إليهما أن يطلقاني. كنتُ واثقاً من أنّني فقدتُّ ذراعي. وكنتُ أريد أن أغادر لأموت في مكان آخر. أحياناً، كانت سيمون تأتي لتلعق ذراعي، وكنتُ أبكي لأنني لا أستطيع الإحساس بها. كانت لا تزال تأتي لتلعق وجهي وتتنفّس في أنفي. وشعرتُ للمرة الأولى أن ذقني طالت من مداعبة سيمون لها. ومع الوقت، بدأت أفقد وعيي لأستيقظ مرة أخرى على الظلال الكبيرة والصغيرة. كنتُ أشعر بأنّني مخدّر. وكفّت الامرأة عن إطعامي. وبقيت أشرب من لعاب سيمون. حتى استيقظت مرة على ظلال كثيرة وصراخ وضجيج.
عندما انتهى الضجيج شعرت بذراعي السليمة تنفكّ من الحبل، وظل كبير يتنفّس في وجهي ويلكمني على رأسي. شعرتُ بأنّني أُحمَل بخفّة وأتنفّس هواءً جديداً. وعندما أعمى الضوء الخارجيّ الخيالات، انحسر العالم من حولي كما لو كنتُ أزيح عن جسدي أكوام قطن ناعم.
من رواية "الإنحناء على جثة عمان"