بعد أن يموت شاعر يبقى حياً في القصائد التي يبدعها، وفي الأصداء التي يولّدها، وفي الحساسيات التي يُغْْنيها، وفي القراءات المتعددة التي يُتيحها نصه الإبداعي. غير أن سعيد عقل لم يُقرأ بعد قراءة نقدية عميقة ومعظم ما كُتب عنه يندرج في إطار نظرة توفيقية تسامحية لا تمتلك رؤية حول ما هو فني أو غير فني على المستوى الشعري، أي أنها قراءة صحفية وهي الآن مرتبطة بموته أكثر مما هي مرتبطة بأي شيء آخر، وقد يكون السبب في هذا تدهور الجامعات لدينا والتي لا تكترث بتدريس الشعراء الكبار أوبدراستهم، وبغياب الفكر النقدي أيضاً. وهذه النظرة التسامحية تشمل مواقفه السياسية المثيرة للجدل والتي عكست نظرة لا تليق بشاعر كبير مثله، بل كانت كفيلة بأن تلغي أهميته كشاعر، ذلك أنه لم يعتذر عن هذه المواقف، ولم يعترف بخطأه، وظل فاشياً متعجرفاً ورافضاً أن ينظر إلى قضايا أمته من منظور إنساني واقعاً في مصيدة عصبيات ضيقة متبنياً دعوات مجرمي الحرب ولورداتها على حساب أصحاب القضايا العادلة.
لا أعتقد أن الشعر يغفر لسعيد عقل الذي وُلد على الفور في القصيدة، وفي الجدل حول طبيعة اللغة الشعرية، أما الأفق الشعري الذي افتتحه فيتكشف لنا أن حضوره اتسم بغياب طويل، أو بوقفة على الحياد، في وقت كانت المعارك فيه تحتدم في وحولَ مجلات كـ “شعر” و”مواقف” و”الآداب” وغيرها، فيما سعيد عقل كان قد حسم المعركة لصالحه، مؤكداً أن هو الذي يضع القوانين الشعرية، وهو الذي يعرف ما هو الشعر، ومن هو الشاعر وغير الشاعر، وهو الذي يحدد فنية النثر والشعر. كان في غيابه نوع من التأكيد على الأنا المتعالية على التاريخ، الأنا التي يحق لها أن تتباهى بنفسها نظراً لفرادتها الإبداعية، ولكن أليس في هذا نفسه ما يحد من التجريب وارتياد العوالم المجهولة ويفقر الشعر؟
ثمة شعراء تأسرهم اللغة، وتدفعهم إلى صناعة واقع محايد ومنفصل يظل، رغم سطوعه، وعداً لا يتحقق. هنا ترتدي القصيدة فستان الرقص الأثيري كما لو أنها في قاعة رقص أرستقراطية، وقد تأتي الأغنية المنقذة بالصوت المنقذ، وقد يولد تلاميذ جدد يتعاملون بذكاء مع الإرث ويقودونه في اتجاه آخر، لكن الشاعر يُظْلَم هنا، يظل أسير قراءة أفقية سمعية طربية غير فنية تمر عليه الأجيال دون تأمل عميق في البعد الفني لشعره. في هذا السياق كان سعيد عقل غائباً، غير مقروء إلا من بعض المختصين الذين يدرسون حركة الشعر، لكنه كان أكثر حضوراً في جمالية الأغنية حيث توحدت قوة الشعر الإبداعية مع العبقرية الأدائية الصوتية وولّدتا العناق الساحر بين الشعر والموسيقا، بين الكلمة والصوت، ولو كان هذا الغناء نفسه منفصلاً أحياناً عن واقع الجسد وواقع الحب والأفكار وتقلبات الحياة.
هل يرى قراء الشعر الجدد في شعر سعيد عقل ما يبحثون عنه؟ وهل واكبت قصيدته تطور الحساسية والذائقة والمغامرة اللغوية الاستقصائية لبواطن النفس الإنسانية؟ وهل خرجت تجربته من القوالب الجمالية الموروثة والسائدة؟ وهل يمكن للجمالية الفنية أن تتولد من جمالية لغوية زخرفية؟ وهل للجمالية فتنة إذا كانت محايدة؟
كانت تجربة سعيد عقل أسيرة حيزها اللغوي الجمالي، في النقوش على كؤوس وآنية اللغة، وفي الزخارف على جدرانها، وفي رفوفها على نحاسيات وفضيات وذهبيات، كما لو أن القصيدة ليست مصنوعة من الكلمات بقدر ما هي مصنوعة من الأشياء الثمينة، أو تشبه حديقة خيالية فيها جميع أنواع الأزهار النادرة في تفتح بديع.
في شعر سعيد عقل تتألق الكلمات في فضاء معنى فكري رمزي محدد لا يقود إلى ما وراء الستارة، إلى ما تحت السطح. ولكن هل هناك شيء ما تحت السطح أو خلف الستارة؟ هل هناك سوى الظلام والعدم والمهاوي؟ وهل ما يقوم به الشاعر هو حمايتنا عبر إسدال ستارة تفصل بيننا وبين التطوح في ما يثير الخوف واللامعنى؟ هل يريد سعيد عقل أن يقول إن قصائدي هي تكثيف لجماليات ما هو مرئي، تصعيد للغة جمالية مقطّرة تضيف جمالاً إلى الجمال المرئي؟ ولكن ألا يشعرنا هذا بأن الشعر هو من الأشياء التي يمكن اقتناؤها، الأشياء التي نزيّن بها محيطنا؟ أم أن مهمة الشعر هي أن يحمينا من العماء، أن يبقينا في الصالة المكيّفة لما هو مألوف؟
في الأسئلة حول طبيعة الشعر، الشعر الذي يلبي طموحاتنا التذوقية ويساعدنا في نبش أعماقنا، يغيب سعيد عقل، يضعنا أمام الستارة التي تفصلنا عن المجهول، وهو صاحب اللغة الشعرية التي لو أتيح لها أن تتغلغل في هذا المجهول لتسلقت بالشعر العربي نحو قمم جديدة، نحو ما يتجاوز التركيز العقلي الفاليري (نسبة إلى بول فاليري) إلى الشطح التخييلي، إلى جَبْل اللغة بوحل الواقع والتاريخ صعوداً نحو الشهد الشعري لنحل المخيلة، وهذه خسارة لم يعوضها شعراء آخرون دخلوا في هذا المجال لكنهم لم يمتلكوا اللغة كما امتلكها سعيد عقل، الفنان والساحر اللغوي.
قال الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين في زاويته عن سعيد عقل (“قرن من الزمان دهر من الشعر”، السفير ٢٩-١١-٢٠١٤) إن “أبياته أقرب إلى عنوان ديوانه “نحت في الضوء””، ولكن سعيد لا يقول لنا من أين يشرق هذا الضوء، وما الذي يضيئه، بقدر ما يقول إنه ثريا كريستال فائقة الجمال تتدلى في صالة مترفة لأحد القصور.