هو الشعور ذاته ينتابني عندما أكون أمام طلب أو رغبة في الكتابة عن أسماء خلدت نفسها بنفسها بأعمالها، وهذا ما حدث مع بدر شاكر السياب أيضاً وأنا أحاول جاهدة أن أكتب شهادتي عنه. بعدما كتب الكثيرون وكُتب الكثير عنه ما الذي سأكتبه لم يُكتب وما الذي سأضيفهُ! ورغم ذلك أجد أن ذاكرتي تلحّ علي لأبدأ في نقطة بدأ منها معظم جيلي.
لقد فتح جيلي عينيه على قصائد السياب في كتب المناهج المدرسية وكانت أول أبجدياتنا بعد الشعر الجاهلي وعصور ما بعد الإسلام ليكونَ اسمه إلى جانب أسماء من جيلهِ وعصره. كانت لأنشودة المطر الأولوية في كتبنا، على اختلاف المراحل الدراسية، إذ لم أعد أذكر بالضبط في أية مرحلة بدأنا دراسة الشعر الحر. لكن ما استوقفني وقتها هو قصيدته "المومس العمياء" ابتداء من العنوان الذي وجدتهُ جرأة، بحسب تفكيري البرئ آنذاك، من واضعي المنهاج في وزارة التربية والتفسير الخجول لمدرسة الأدب العربي لكلمة مومس. كما أن هذه القصيدة تحديداً، رغم أنها كانت مقطوعات مختارة وليست كاملة، فتحت أمامي آفاقاً أخرى في تناول القوالب اللغوية الجاهزة في ذهني النظيف تماماً من لوثة التأويل الضرورية.
بعد فترة من قراءاتي له أدركتُ أن من يقرأ السياب عليه أن يملك نفساً طويلاً في اللهاث خلف الصور العديدة والأحداث المشهدية المتزاحمة في نص واحد. القصيدة على طولها، واعتبرها البعض قصيدة ملحمية، إلا أنها تعتمد تكثيف مشهد واسع في جمل شعرية مقتضبة جعل تاريخ وحاضر العراق أمامي ملخصاً في لوحة استخدم فيه الفنان ألف لون ولون ومئات فُرش الرسم، لتختلط علينا كشف الضربات القاسية والحانية على اللوحة.
عاشت هذه القصيدة معي وقتاً طويلاً متأملة المشهد ككل حتى تغيرت قناعات كثيرة كنتُ اؤمن بها وصرتُ أنظر للواقع على نحو مغاير تماماً. فهذه المومس العمياء لم تكن وحيدة في قصتها. عماؤها إنما كان عماء المجتمع عن الخراب تحت جلد المدينة الجميلة. لا ينتبه لخراب تحت الجلد إلا من مسهُ شيئاً منهُ أو كله. بعد مرحلة عمرية أخرى أدركتُ أن قصيدة المومس لم تكن الأولى في تعرية قبح العالم وطمعهِ وظلمهِ بل سبقتها قصائد عديدة ومنها قصيدة الأرض اليباب العظيمة للشاعر البريطاني تي.إس. إليوت. في وقتها وعندما عرفتُ السياب أكثر عرفتُ مدى حبه للقراءة والإطلاع والتبحر في الأدب الغربي قدر المستطاع وكان ملهمي في القراءة والبحث أكثر. كمن يبحثُ له عن مكان حقيقي خُلق من أجلهِ بين هؤلاء وقد فعل. عندما تمرد على شكل القصيدة التقليدي دون أن يمس روح الشعر، بل العكس، أجد أن مساحته المحدودة من التحرر التي فسحتها له القصيدة الحرة فجرت فيه رغبة في العبور إلى ضفة ربما كان سيعبرها لو اسعفته السنين بمد عمره.
من قصيدة المومس العمياء وانشودة المطر وتجاربه اللاحقة تتجلى أمامي رغبة الشاعر في التحليق إلى ما هو أبعد من الشعر الحر، وكأنه في مواضع معينة كان يختار البحور والقوافي وهو يبكي. هذا ما كنتُ أحسهُ عندما تكون الأبيات مثقلة بالشكل أحياناً. هذه القصيدة تحديداً كانت بالنسبة لي مصباح ديوجين لفترة ما حتى أبصرت المومس العمياء في قصائدهِ الأخرى.
لا سمة واضحة في قصيدة السياب سوى انحيازه لشعرية ذاته بضمون العام وللعوام. في لحظات أعيد قراءة قصائده لأن فيها الكثير من التنبوءات التي نعيشها الآن. ولا أتخيل لحظة أن الصور والمشهديات الموجودة عن العراق آنذاك هي ذاتها التي نعيشها. فهل كان العراق قاتماً طوال العصور ونحن لا نرى ذلك والمومس/القصيدة هي الوحيدة التي أبصرت الحقيقة؟