يناقش شربل نحاس في هذه المقابلة المؤلفة من أربعة أجزاء:
١- غياب الحكم في لبنان: من الاستقلال حتى اليوم
٢- مفهوم الدولة المعطلة ومعانيها الضمنية
٣- لبنان اليوم: الانتخابات، الموازنة الوطنية، الإعلام وصناعة القرار
٤- استجابة المواطن ولجنة تنسيق النقابة في لبنان
السيرة الذاتية
تخرّج شربل نحاس من كلية الفنون التطبيقية والكلية الوطنية للجسور والطرق بشهادة في الهندسة، وحصل على الدكتوراه في الأنثربولوجيا الاجتماعية، والدراسات المعمقة في علم الاقتصاد والتخطيط. حين عاد إلى لبنان، شارك في إنشاء كلية للهندسة المدنية في الجامعة اللبنانية، حيث درّس لمدة ١٢ عاماً. ثم عمل في القطاع المصرفي في (سوسيتيه جنرال) من ١٩٨٦ إلى ١٩٩٨. ثم سُرّح بعد أن شارك في الانتخابات البلدية، لكنه كان قد تعلم مسبقاً المصدر الحقيقي للسلطة: من يملك النقود.
ركز الكثير من عمله على وضع الاقتصاد الكلي والديون الخارجية التي لا يمكن أن تظل في مستواها الحالي. أسهم أيضاً في صياغة السياسة والإدارة العامة في سوريا والأردن والمملكة العربية السعودية والعراق، وهو ربما معروف جيداً كوزير للاتصالات (٢٠٠٩) وكوزير للعمل (٢٠١١)، حيث حاول أن يغير سياسات اقتصادية رئيسية حول الرعاية الصحية والضرائب. استقال في شباط\\فبراير ٢٠١٢ بعد أن رفض التوقيع على مرسوم زيادة الأجور على أساس أنه انتهاك للقانون ويعتبر سرقة لحقوق العمال التقاعدية.
قاتل باستمرار من أجل “دولة أفضل وليس دولة أقل” وهكذا حارب خصخصة خدمات الدولة بما فيه الاتصالات. واصل الصراع لبناء الدولة. انظر المزيد على الرابط التالي.
مقابلة مع وزير العمل اللبناني سابقاً شربل نحاس
حاورته: رانية المصري
صاغها باللغة العربية الفصحى أسامة إسبر
رانية: مساء الخير. هل يمكن أن تخبرنا الآن كيف يمكن أن تُصنف الوضع حالياً في لبنان؟
شربل: هل تقصدين ما هي السمة التي يستطيع المرء أن ينطلق منها كي يفهم أشكالاً مختلفة من الظواهر؟
.رانية: إذا كان المرء قادماً من كوكب غريب ولا يعرف عنا شيئاً وتريد أن تفهمه المشاكل التي لدينا في لبنان
شربل: بتقديري إن المدخل لفهم ما يجري في لبنان هو كيفية تعامل الناس في المجتمع مع دولة ورثناها خطأ من الاستعمار الفرنسي، وبقيت موجودة على علاتها إلى أواسط الثمانينيات كما بوسع المرء أن يقول. ومنذ ذلك الحين سقطت، وقد بُذلت مساع لتركيب صيغ ليست لها أية علاقة بشيء يُدعى دولة، ونستطيع أن نسمي هذه الصيغ شبه دولة مرهونة بتوازنات خارجية. ما إن اختلت هذه التوازنات الخارجية، انكشف المرج وهذا يعني أن هذا مجتمع يحاول أن يتابع هذه القصة لأنه دُجن عليها دون طرح مهمة أو هم إقامة دولة
رانية: هل سقطت من الداخل أم من الخارج
شربل: كلا، هي سقطت نهائياً وبدأت جنازتها في أواسط الثمانينيات، واستعيض عنها بجهد بدأ تلمساً ثم نُظِّم بشيء ثان ليس دولة بل شبه دولة، والذي كان هو محكوماً بتوازنات خارجية. وحين اختلت هذه التوازنات الخارجية فإن هذا الشيء الذي سميناه شبه الدولة، والذي كان كالستار، أزيل فجأة فبان الوضع والذي هو مجتمع تعود على مدى ثلاثين عاماً أن يعيش بدون دولة، وهو اليوم في وضع لا يواجه فيه هم إقامة دولة
رانية: هل نستطيع القول إنه كانت هناك إرادة سياسية واضحة لإسقاط الدولة؟ أو لعدم بناء الدولة؟
شربل: نعم كان هناك. إذا عدنا إلى قبل يستطيع المرء أن يتابع عبر مراحل منذ ما يُسمى الاستقلال العمل المستمر لتفكيك البنيان الذي فُرض من الخارج، والذي هو الدولة، وثمة مثال على ذلك معبّر: بعد فترة قصيرة جداً من الاستقلال قاموا في مجلس النواب بتعديل القانون الذي يحدد الإقامة. جاء الفرنسيون إلى هنا ولم يعيروا الموضوع أهميه. اعتبروا أن المرء يكون مقيماً حيث هو مقيم، وإذا ما انتقل من مكان إقامته إلى مكان آخر هو مجبور أن يبلغ أنه انتقل إلى مكان آخر وإلا يُعاقب، وبالتالي الانتخابات كلها والنفوس تُنقل بهذا الشكل. اسمها إقامة. عظيم، نحن لدينا في فترة بضعة أشهر بعد الاستقلال، عدّلوا هذا الأمر، ولم يعد الشخص مجبوراً بل يحق له أن ينقل نفوسه إذا أراد، ويجب أن يثبت كي يقدر على الحصول على نقل النفوس كمنحة لأن الدولة اعتبرت أن الأمر منته وكل شخص يبقى حيث هو، ماذا يعني هذا؟ يعني فصل الجسم السياسي عن الجسم المجتمعي الواقعي. فمثلاً أنت اليوم، سواء في البلديات أو في الانتخابات، أو في أي شكل تمثيلي، إن واقع الناس، وأين يعيشون، ما الأشياء التي تربطهم، وما المسائل التي تهمهم في واد، وأين يصوتون ولمن يتحمسون في واد آخر. ما يزالون يذهبون كي يصوتوا في المكان الذي كان يذهب إليهم والد جدهم في ١٩٣٢. تصوري لحظة لو أن الجسم المجتمعي الواقعي، والجسم الواقعي السياسي الافتراضي لم يكونا مفصولين ماذا كان هذا يغير هذا في سياق كل ما يسمى انتخابات؟
رانية: يعني يجب أن ننقل نفوسنا إلى محل سكننا؟
شربل: ليس هذا ضرورياً. أي شخص يأتي ينشئ نظام إقامة. فمثلاً لما أتى الفرنسيون إلى هنا كانت كلمة إقامة في أذهانهم تعني إقامة لكننا نحن تحايلنا على هذا الأمر، كي نعيد الصيغة القبلية العشائرية والعائلية كي تطغى وتمحو فعلياً مبدأ الإقامة. نحن لا نعرف الآن، فقد قررنا ألا نحصي الناس المقيمين، بالتالي لا نعرف من يقيم، ولا أين يقيم، ومن يصوت لا يصوت للبلدية ولا للنيابية حيث هو مقيم ويدفع الضرائب ويستفيد أو يتضرر من الوضع، وبالتالي فصلنا بهذا القرار الذي مر بشبه إجماع ـ لأن هذا حدث بعد الاستقلال ـ بين المجتمع الواقعي والمجتمع التمثيلي السياسي. وهذا إسفين كبير قمنا بدقه، وهذا ليس أمراً هيناً، ومر خلال بضعة أشهر، في ١٩٤٥. وبالتالي قررنا ألا نفعل كما كنا نفعل كل خمس سنوات ونقوم بالإحصاء لنعرف من المقيمين. والآن لا نعرف من يسكن هنا من اللبنانيين أو من الفلسطينيين ولا نعرف أي شيء عن السوريين، وبالتالي حين نريد أن نقول كم نسبة البطالة، وكم عدد المصابين بمرض عند من يمتلكون مواصفات تتعلق بالسن، لا نعرف شيئاً. كان هناك عمل متواصل على تفكيك القبضة الأساسية الأولية والبديهية للدولة على واقع الناس، وقد بدأنا بذلك في اليوم الأول من الاستقلال. وبدأنا بتفكيكها
.رانية: وازداد هذا في الثمانينيات
شربل: كلا. ليس هنا. قررنا كلبنانيين هنا في أوائل الخمسينات أن نسير في طريق القطيعة مع سوريا، فقد كان بيروت مرفأ لبنان وسوريا معاً، إذ لم يكن هناك لا مرفأ طرطوس ولا اللاذقية، فقد كانا مرفأين صغيرين فيهما بعض القوارب. فقد كانت العملة واحدة وكانت الشركات التجارية والمصرفية التي كان مركزها الفعلي في لبنان هي التي تحصل على النصيب الأكبر من الأنشطة التجارية والمصرفية في لبنان وسوريا. وبعد الحرب، بعد أن انتعشت الصناعات بسبب الحصار البحري إلخ كان في سوريا الضغط الديمغرافي متخلفاً زمنياً عن لبنان، أي كان التزايد ما يزال قوياً، صار الأمر عندهم: كيف نشغل هؤلاء الناس؟ وكان الصناعيون وزنهم أكبر. أما بالنسبة لجماعتنا، فبدل أن تتم مواجهة هذا الأمر في الواقع للتعامل معه انطلاقاً من موقع مهيمن وليس ضعيفاً، قرروا أننا لن نواجه هذه المشاكل وتبنوا القطيعة: “اذهبوا خارج هنا”. عظيم. رجعنا إلى الأمر نفسه في ١٩٦٩ في موضوع المقاومة الفلسطينية وفتح، أننا لا نريد أن نتعاطى بهذا الأمر، لماذا يأخذ عرفات قطعة، العرقوب، من يسأل عنها؟ لنتخلى عنها. وتباعاً، في كل مرحلة، كان المستلمون الفعليون للسلطة حين يواجههم تغير معين في الواقع الذين هم مسؤولون عن إدارته، كانوا يعتمدون دائماً سياسة الانكفاء، أي لا نريد أن نعرف ما الذي يجري، ولا نريد أن نواجه مشكلة إن حدثت. بالتالي كانت هذه الدولة ضعيفة ولما ـ نتيجة الحرب، التي لها ظروفها الخاصة طبعاً التي لا وقت لمناقشتها الآن - صارت تتخبط إلى أن انهارت كلياً في ١٩٨٤ - ١٩٨٥. ماذا يعني انهارت كلياً؟ لم يعد لدينا نقد، لم يعد لدينا إدارة، لأن الإدارة على مستوى الرواتب صارت على الأرض، وعلى مستوى الإمساك بإيراداتها - كانت الإقطاعات الخاصة بالميليشيات قد أحكمت سيطرتها على كل أجزائها، من الإدارة المالية إلى التعليم، وإدارة الجمارك، كل شيء، واستُكمل ذلك بانقسام الجيش، ثمة من يؤرخ انهيار الدولة اللبنانية ليس في ١٩٧٥. إن انهيارها الفعلي حدث في الثلث الأول من الثمانينيات. ما الذي حدث منذ ذلك الوقت؟ فنحن حتى اليوم ليس لدينا عملة وطنية، ولا يوجد إمساك من قبل السلطة - إذا كانت سياسات هذه السلطة تعجبك أم لا تعجبك هذا موضوع ثان ـ قبل أن نصل إلى الخلاف على مضمون السياسات، يجب أن تكوني ممسكة بالوضع، أن تعرفي عدد السكان، كم هناك من المقيمين، يجب أن تعرفي ماذا تفعلين. إن هذا الأمر لم يُعد النظر به بينما بالمقابل تمت إقامة إئتلاف بين المجتمع بالشكل الذي تكون به بعد انهيار الدولة، أي بشكل أساسي الميليشيات التي يسيطر كل منها على جزء من البلد، والحدث الذي كان وقتها طاغياً على المنطقة، أي الفورة النفطية، لتركيب نوع من النظام الائتلافي بينهم، والذي بدلاً من أن يكون كل واحد منهم يمسك بجزء من الشعب وجزء من الأرض، صار مسيطراً على جزء من الشعب وجزء من الإدارة، أي تبادلوا، قايضوا، أزالوا الحواجز عن الطرقات، وأمسكوا “البورات”، وبدلاً من أن يصبح الإمساك في رقعة جغرافيا، صار في رقعة من الإدارة أو السلطة العامة
رانية: يعني أن المافيا دخلت إلى الإدارة بدلاً أن تظل في الشوارع؟ خرجت من الشارع دخلت إلى الإدارة، هذا يعني كفكرة المافيا؟
شربل: نعم. هذا أبعد، يمكن أن تسميه إقطاعاً، فإذا ما نظرنا إلى الأمر نرى أنهم بالطريقة التي تركبوا بها كان يمكن أن يهاجموا بعضهم في أي وقت. إذ لا يوجد جامع بينهم إلا قدرة التعطيل المتبادلة، لذلك كان هناك حاجة وظيفية لأحد ما كي يمسك الصافرة، كفريقي كرة القدم مثلاً، ويكون قادراً على أن يصفر ويرد الكرة إلى الملعب. كانت وظيفة الحَكَم هذه مُوكلة من قِبَل الترتيب الإقليمي إلى السوريين، وتحديداً إلى بعض ضباط المخابرات. وبمعزل عن إن كان المرء يحبهم أم لا فنحن نتحدث وظيفياً، نصف كيف تمشي الآلة أما إذا كانوا قد قاموا بعمل جيد أم غير جيد، هذا حديث ثان. وظيفياً، بدونهم لم يكن من الممكن أن يمشي الحال. كانوا في الحقيقة يختلفون ثم يذهبون إلى هذا الرجل ويعودون متفقين، ولو على مضض. حين تخلّصنا من الحكم لم يعد هناك كرة في الملعب وصار كل شخص يفكر أنه شاط الكرة باتجاه ما وتعطلت القصة. هذه هي المراحل الثلاثة، لديك إلى ١٩٨٥، من ١٩٨٥ إلى ٢٠٠٥، ومن ٢٠٠٥ إلى اليوم
رانية: ما الذي تعنيه بكلامك أن “القصة تعطلت”؟ أنت تقول تفككت الدولة، هل يمكن التحديد أكثر؟
شربل: ما الذي تعنيه الدولة؟ إن الدولة هي سلطة تحظى بشرعية كافية كي تدير، مبدئياً بشكل حصري، عدداً من الوظائف التي يعتبرها المجتمع ضرورية. أي أن هذه سلطة تسيّر شيئاً اسمه القضاء، تشعل وتطفئ الإشارات الضوئية على الطريق، تهتم بالشرطة والعسكر، تستطيع أن تهتم بالتعليم، ولكن يمكن ألا تهتم بالتعليم أيضاً، وحتى الوظائف الأساسية، هذه الأمور هي الدولة
رانية: الكهرباء والماء، هذه الأمور؟
.شربل: يمكن ألا تهتم بهذه الأمور. لكنها مجبرة على الاهتمام بالطرقات لأنه ليس كل واحد يمكن أن يشق طريقاً
رانية: وليست مجبرة بالكهرباء؟
شربل: هناك دول لا تهتم بالكهرباء، غالبية الدول تهتم. يمكن ألا تهتم بالتعليم. أنا أحدثك عن الدولة بالحد الأدنى. وظيفة الدولة هذه تستدعي كلفة وبالتالي تستدعي جهازاً بشرياً وتستدعي إيرادات أي ضرائب. كي تقوم بهذا الأمر عليها أن تكون مطلعة على أوضاع الشيء الذي تعمل عليه. إذا لم تكن مطلعة كيف ستشتغل؟ نحن حين نقول تعطلت ما الذي نعنيه؟ نعني أنها لم تعد تقوم بهذه الأدوار الأساسية. وأي شخص يعيش هنا يدرك ويعي ويقول صراحة إنه لا يعتبر أن الدولة تقوم بهذا الشيء. هو يعتبر أنه ما من داع للذهاب إلى القضاء الذي لم يعد له معنى؟ لماذا تشتكي؟ أنه يعرف سلفاً، ليس فقط أن الناس لم يعودوا مؤمنين بهذا، العسكري نفسه يشعر بالأمر. وبالتالي على صعيد الإدارة الانتظام ضمن الإدارة مخلخل، والرواتب ليس من الأكيد أنها تُصرف
رانية: سنصل إلى الرواتب بعد قليل؟
شربل: إضافة إلى ذلك، إن هذه الدولة، لتبرير شرعيتها، تأخد الوكالة من الناس لتأدية خدمات معينة، ومقابل أداء هذه الخدمات تفرض عليهم الضريبة فرضاً، أي كلفة. إن هذه الوكالة لها فترة معينة، على أساس أنه في آخر هذه الفترة إذا لم يكن الشخص على قدر الحمل أو المسؤولية يجب أن نسرحه. بمجرد أن يصبح التمديد ذاتياً للحاصل على وكالة لوكالته طبيعياً ومقبولاً فإن هذا يعني أنه لم يعد هناك دولة، أي أن شرعيتها سقطت. لذلك لا يعتمد عليها الناس
رانية: لم يعد لدينا فقط تفكك في الدولة، بل أيضاً تفكك في هيبة الدولة، هذا يزيد عن تفكك الدولة فإذا ما أخذنا هذا إلى نهاية الفكرة نحن مواطنون في هذا البلد، نحمل الجنسية اللبنانية، إذاً لمن نحمل الجنسية؟ إذا انتهت علاقتنا مع الدولة ولم تعد موجودة، ولم يعد هناك مؤسسات؟
شربل: هذا هو الجواب على سؤالك: إن أحد الهموم، هذا إذا لم يكن الهم الرئيسي للبناني، هو أن يحضر هوية ثانية. إن هذه ليست مصادفة. سأوضح لك الفكرة، كنت أعلّم في الجامعة اللبنانية بين أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، في عز الحرب والقصف والخطف، كان هناك شباب من أصحابنا يعلمون في الخارج كنا نتحدث معهم ويأتون كي يعلّموا هنا. أما اليوم فلا يوجد قصف والأمور ماشية والمطاعم مفتوحة، حتى آخر السبعينات وأوائل الثمانينات رغم الاجتياح الإسرائيلي والحروب، الخ، لم يكن مسلماً به أن من لم يحصل على جنسية أجنبية يكون حماراً، والذي يعود من الخارج إلى هنا يكون حماراً مرتين. لقد صار هذا أمراً مسلماً به اليوم. هذا جواب على سؤالك حول أنه لا يجوز الفصل بين شعور الناس بشرعية الدولة وأداء الدولة لمهامها لأن الدولة تؤدي مهامها لكونها كاسبة شرعية كافية كي تفرض على الناس كلفة هذا الدور وحصريته. إن الشرعية والأداء يغذيان بعضهما فهما وجهان لعملة واحدة
رانية: هل حدث هذا بالصدفة أم كان هناك خطة لتفكيك الدولة يعملون عليها أم لأن هناك فساداً وعدم معرفة، وعدم مقدرة مما أوصلنا إلى هنا؟
شربل: أنا لا أتصور أن هناك مجموعة من المتآمرين من أصحاب الذكاء الخارق خططوا للمسار التاريخي كله ولم ينتبه أحد، لا أتصور الأمر بهذه الطريقة. إذ ليسوا شريرين بهذا القدر، ولا هم مقتدرون عقلياً وذهنياً بهذا القدر أيضاً. كي لا نمدحهم أو نذمهم هناك تلمس تدريجي وليس قضية مؤامرة. أعتقد أن الجميع يجب أن يواجهوا هذه المسائل ويحاولوا فهمها، ،وألا نقف عند الوصف. لهذا أتصور التفسير كالتالي: لدينا هنا بنيان الدولة فُرض فرضاً من قبل المُستعمر، هناك بدايات في ١٨٦٠ كانت تجريبية، حتى الإمبراطورية العثمانية حاولت أن تتحول إلى دولة بالمعنى الحديث بدلاً من السلطنة. ولّد هذا الأمر واقعاً لم يكن متجذراً بما يكفي ولم تقم النخب في ذلك الزمن بالعملية التي تمنحها شرعيتها بما يكفي كي تستلم فعلياً مسؤوليات ومقاليد السلطة. وهذا الأمر لا يقتصر على لبنان، وبوسعك أن تريه في معظم الدول. إذا كان المرء يريد أن يرى الفرق في المسار بين تركيا وإيران من جهة، والدول العربية الأخرى كلها من جهة ثانية، لم تواجه نخب الدول العربية التغير التحديثي الذي حصل بحكم الثورة الصناعية والتوسع الإمبريالي، إلخ حاولت هذه النخب، التي كانت بالأساس ضعيفة وهامشية ضمن السلطنة العثمانية، أن تكسب تأييداً محلياً من خلال ممالأة النخب القديمة من ملاكين وعشائر وقبائل ورجال دين، إلخ لم تواجههم، بالتالي بقيت، في ضوء المأساة التي تعيشها هي وشعوبها اليوم، ضعيفة الشرعية، إذ ليس قليلاً أن حزب البعث العراقي يضع في عهد صدام حسين، “الله أكبر” على العلم، هذا يعني أن شرعيته ضعيفة. والتلاعب الذي حدث في مصر أيام السادات ومبارك مع وضد الأخوان المسلمين يُفهم بسبب نقص الشرعية، بينما سواء كان في تركيا أو إيران، وأو كان بتوجه ديني أو علماني، في الحالتين حدثت مواجهات فعلية كان ثمنها دماً. وليس كلاماً فارغاً، لم يحدث هذا الأمر لدينا، ففي لبنان كانت هذه النخب ضعيفة ولم تستشعر قدرة لديها أو حاجة لديها لاكتساب شرعية فعلية أي أن تدخل في مواجهة مع السلطات العشائرية والدينية والملاكيّة التي كانت قائمة في مرحلة ما قبل نشوء هذه السلطة. لم تدخل في مواجهة بل دخلت في ممالأة، وحين تدخل في ممالأة هذا يعني أن شرعيتها ضعيفة. إن هذا النقص، هذا الضعف في الشرعية هو الذي جعلها بمجرد ما أن رحل الفرنسيون تنكشف، وبدأت فوراً ـ وهذا ما حاولت إيصاله إليك ـ بالتقهقر. هذا يعني أننا ورثنا تركيبة مهلهلة ملصقة ببعضها اسمها دولة من الفرنسيين. وما أن رحلوا حتى بدأنا نفككها. ما هذه الورطة؟ فنحن نريد أن نبني دولة بشكل جدي. ما هذه القصة؟ وبقينا نتراجع شيئاً فشيئاً إلى أن انهار هذا البنيان. في مرحلة فؤاد شهاب حاول تجليسها قليلاً. لكن منذ أوائل الثمانينات ظهر شيء لا علاقة له بكل هذا الحديث. ماذا يفيدنا الخطاب، يتظاهرون أن هناك مجلس نواب ومجلس وزراء، لكن لا يوجد لا مجلس نواب ولا مجلس وزراء، إنهم ٧ أو ٨ وإجمالاً يختلفون فيما بينهم، ولكن إذا لم يكن هناك من يصالحهم لا تُحل المشكلة. كان ضمن هذه التركيبة التي سميتها شبه دولة، هناك شخص معه صفارة، مكلف، وإذا كان هناك قسمٌ يحبه أكثر من القسم الآخر فإن هذا لا يغيّر في بحثنا. إن عمله هو أنهم حين يختلفون فيما بينهم أن يقوم بالتصفير ويعيد الكرة إلى المعلب. قاموا بشحطه، اختلفوا من جديد فوصلنا إلى ما وصلنا إليه. وبالتالي لدينا اليوم فعلياً
رانية: إلى أين وصلنا اليوم، إذا كنا سنتحدث عن الموازنة التي لدينا؟ وإذا أردنا أن نأخذها كمثل إلى أين وصلنا؟
شربل: نحن في مرحلة شبه الدولة. إن الناس لا تعرف، ففي السبعينات في مرحلة أوج الحرب، كانت تُرسل الموازنات وكان هذا من الصعب تصديقه لدى الناس. نحن في مرحلة شبه الدولة، إذا أردت من ١٩٩٠ فصاعداً أصبحنا نعد شبه موازنات
رانية: ما الذي تقصده بشبه الموازنات؟
شربل: أي موازنات تخلو من المصاريف الأساسية، ما يسمى المشاريع والصناديق ليس فيها. أي الأشياء التي يمكن أن تغير في وضع الناس إن كان من ناحية التجهيزات العامة أو المنافع. هذه خارج الموازنات. كان في الموازنة معاشات الإدارة بشكل أساسي، أجارات الأبنية التي تستأجرها الدولة، وفائدة الدين، وكان بوسعنا أن نعرف هذه الأمور دون موازنة. أما المسائل التي كان فيها تداول فقد كانت خارج الموازنة
رانية: هذه الأمور منذ ١٩٩٣
شربل: لا، ليس هذا فحسب. وهذه الموازنة، في ضوء ما قلته لك، لم يكن هناك داع كي تُقدم في موعدها. كانت تأتي دوماً متأخرة، وفي بعض الأوقات تأتي الموازنة عن السنة بعد أن تنتهي السنة. لكننا ما نزال نحترم شكلياً أن هناك موازنة، وكنا نجري انتخابات (تقريقة) لكننا كنا نجري انتخابات.
ما زلنا محافظين على الشكل الذي اسمه شبه الدولة، تجري شبه انتخابات وتعد شبه موازنة، وحين ينهار شبه الدولة نتوقف عن عمل أي شيء. نتوقف عن إجراء الانتخابات، تصبح الأمور أكثر وضوحاً، ونتوقف عن إعداد الموازنات. ما الذي يحدث؟ هذا هو المشهد اليوم. المشهد اليوم ليس هناك 128 نائباً هناك 7 أو 8 هم أساساً الحكومة. إذا اتفق هؤلاء يصبح الأسود أبيض والأبيض أسود بدون أي حرج، أما إذا اختلفوا، تتفركش القصص كلها، وكيف يمكن أن يتفق هؤلاء على أي شيء سوى تحديد الأعياد الرسمية؟ وربما لا ينجح الأمر
.رانية: حتى هذا لا ينجح
شريل: قد يفشل هذا حتى بين سنة وشيعة. افترضي أنهم مرروا لنا هذه. لا يستطيعون الاتفاق على أي شيء لأنهم في واقع الأمر يعتبرون أن الشرعية التي يمتلكونها، وبشكل حقيقي دون تمثيل، والولاء الذي يدينون به هم يدينون به والشرعية اكتسبوها ل ومن مجموعة معينة من الناس
.رانية: والبقية غير مهمة
شربل: لا مهمة. لكن في شبه الانتخابات لا يفكر أحد من هؤلاء أن يرشح شخصاً من حزبه في منطقة ليست منطقته
رانية: لكن من هؤلاء، إذا كنا قادرين على أن نسمي الأسماء؟
شربل: طبعاً، هؤلاء معروفون. نستطيع ذكرهم إذا أردت: لديك سعد الحريري، فؤاد السنيورة، نبيه بري، حسن نصر الله، وليد جنبلاط، ميشيل عون وسمير جعجع، لا أريد أن يزعل أحد لأنني لم أذكر إلا سبعة وهم ثمانية. هؤلاء هم. كل منهم لديه تلفزيون لا يتحدث إلا مع جماعته، فلو كان هدف تلفزيونه أحداً من خارج جماعته غير الذي يسجل ملاحظات من الأكيد أنه لن يبث البرامج والدعايات والأغنيات والإعلانات بالشكل الذي يبثها بها، لأنه ببساطة لا يريد التحدث معه، ولا يخطر في بال أحد من هؤلاء للحظة واحدة في شبه الانتخابات أن يرشح في منطقة يعتبرها ليست منطقته. هل يخطر على بال وليد جنبلاط مثلاً أن يرشح، سواء أكان متفقاً مه حسن نصر الله أم لا، واحداً من الحزب التقدمي الاشتراكي في بنت جبيل؟ أم هل يخطر ببال نبيه بري أن يرشح أحداً من تيار حركة أمل في كسروان؟ إن هذا لا يخطر في بالهم
رانية: إذاً صار لدينا دويلات؟
شربل: ليست دويلات لأنهم غير مكتملين، لأنهم هم أنفسهم لا يطمحون إلى أن يصبحوا دويلة في الجزء الذي هم فيه، لأنهم هنا سيتجشمون مخاطر بناء الدولة حتى على القياس الصغير
رانية: وحتى هذه يتهربون منها؟
شربل: ما يحدث هو أن هذه العلاقة، العقد الشخصي بين هؤلاء الناس الذين تعتبر اللحمة فيما بينهم قديمة عائلية، لحمة تزاوج وأنساب، قد يسموها طائفة، لا يهمنا، فمن يقرأ؟ لا أحد يفهم أي شيء. هل الشباب درسوا الفقه واللاهوت وغيره؟ إنهم لا يفهمون شيئاً من القصة كلها. إن هذه اللحمة التي قاعدتها النسب، صنعتْ عقداً مع شخص وكيل يسمونه الزعيم وفق دفتر شروط إذا تم الإخلال به يُستبدل بشخص آخر، يجب أن يكون شجاعاً ويتقن التحدث مع الخارج، ويواجه في الوجه بشراسة ويهتم بجماعته. أما إذا أخل بأحد هذه الشروط يسقط ويأتي بديل له.وهناك قسم من أولئك الزعماء تعرضوا لاغتيالات وماتوا، فالقصة ليست مزحة. إن العقد عقد حقيقي ملزم. إذا ما وضعت هؤلاء في شبه الدولة حين يختلفون يصالحهم الحَكَم، وإذا لم يكن هناك حكم يختلفون. وإذا تابع المرء الأمر يلاحظ كم يهكلون هماً حين يريدون أن يتخذوا قراراً ما. انتبهي: يسمونه مواجهة الاستحقاق. لا، لا ، سنتخذ قراراً، الله يسترنا! كيف ستُحل ! كيف نقطع قطوع الاستحقاق؟ ما عملك أنت إذاً؟ هذا عملك . إنهم يعبّرون، هناك صدق في التعبير: كيف سنواجه استحاق ما بعد الانتخابات؟ يا لطيف! كيف سنواجه استحقاق الأجور؟ لماذا الاستحقاق ولماذا هم خائفون منه؟ لأن هؤلاء يدخلون إلى الداخل ضمن تنفيذهم الأمين للوكالة التي منحتهم شرعيتهم، ويعلقون في الداخل لأن كل واحد سيشد من ناحية شده. إجمالاً لا يصدر أي قرار، أما إذا كانوا مضطرين جداً لاتخاذ قرار ما فإنهم يدخلون في ما يسمونه مساومة، وأعني: مثلاً شخص سيطبخ كبة، لكن الآخر لا يحب الكبة، طيب سأحضر لك معها همبرغر، لكن ذلك الشخص لا يريد همبرغراً، بل يريد خسةً، وشخص ثالث يريد صيادية، وهكذا نعدُّ تركيبة ونصل إلى تسوية. مثلاً كنا نريد إدخال 400 أستاذ إلى الجامعة اللبنانية فصاروا 1200 لماذا؟ لأن الأمر لا ينجح إلا بهذه الطريقة. وبالتالي هذه الاتفاقات هي حبة حبة، كل واحدة منها مخاض عسير، وكي تقدر أن تمر، لأن كل واحد منهم عنده ما يكفي من القدرة على الفيتو، ساعة لا يستطيع أن يوقع، وساعة لا يوجد نصاب، وساعة هناك طائفة حردانة، وهكذا كي يمر الأمر يجب أن تقومي بهذه التسويات ولديك قيود مسبقة أو رقابة لاحقة. تصوري أنه هناك موازنة من قبل من العجيب أنها مرت وهناك قيود في الموازنة أنكم لا تسطيعون توظيف 1200ً شخص، هذا للعام القادم. إذا لا يمكن أن يحدث شيء، أو هناك رقابة لاحقة، يعني إحدى مستلزمات استمرار هذا الوضع، الذي يتفشى مثل دولاب مربع يدور ربع دورة ثم يبلّط، يعني أن يكون متحرراً من أي قيد سابق على المفاوضات ومن أي رقابة لاحقة، لذلك وبشكل منطقي جداً لم يعد هناك موازنة
رانية: هل نعرف بلداً ما غير هذا البلد الذي نعيش فيه، والذي له فترة طويلة بدون موازنة، أم نحن فريدون من نوعنا في هذا الأسلوب؟
شربل: أنت استخدمت منذ قليلة كلمة فساد. إذا تمعن المرء قليلاً في التاريخ يجد أن أشكال الدول متعددة، ثمة دول ملكية، يوجد إمبراطوريات، سلطنات، يوجد دول ليبرالية قائمة على الانتخابات. هذه الدول بأشكالها المختلفة معرضة دائماً لأن تفسد. كيف تفسد الدولة؟ تفسد الدولة في أن هذا البنيان، الفوقي أيا تكن الشرعية التي أحضرها ـ أن الله كلفه، أن شرعيته مستمدة من كونه من قبيلة، أيا يكن ـ يتحلل الشكل الناظم لهذه الدولة، ما الذي يطلع مكانه، لا يصبح الناس مثل حبات بطاطا منشورة على الطريق، بل تعود البنى الأعمق من المجتمع، التي أبسطها علاقات النسب، وتُشكّل حالات ما دون الدولة، تعود وتبني علاقات وولاءات شخصية. نستطيع أن نسمي هذا الأمر إقطاعاً، فالصيغة الإقطاعية ليست صيغة دولة بل هي الصيغة التي تهبط إليها مختلف أشكال الدول حين يتحلل أسس بنيانها، مثلاً إذا نظرنا إلى ما حدث للدولة الرومانية، أو ما الذي جرى لدولة العباسيين؟
.رانية: حدثنا عن الدول التي حولنا الآن ولنترك التاريخ
شربل: أو ماذا كتب ابن خلدون عن الأندلس، أو الدولة الأموية، حين تتفكك هذه الدولة لا ينجم عن هذا فراغ أو لا شيء، بل ترجع وتنبت مستويات ما دون دولتية قائمة على ولاءات شخصية، ويمكن أن يغلب مستوى من هذه المستويات المستويات الأخرى ويشكل دولة ولكن هذا حديث ثان. نحن نشهد ما يشبه هذا الشيء في لبنان، ونشهد ذلك في درجات مختلفة من العنف وتلاوين مختلفة حولنا، وهذا ظهر لأن بنيان هذه الدول، وفي ظروف مختلفة، تحلل بنيانها الموروث من مرحلة تفكك الدولة العثمانية والاستعمار. بهذا المعنى تونس مستقرة أكثر لأن بورقيبة حاول أن يبني شرعية معينة قائمة في قلب جسم المجتمع. شاهدي كم تبدت هشاشة التوليفات الشرعية المختلفة بين القومية والدين، إلخ وكم بانت هذه هشة لأن مقاربتها التوفيقية حدث شقوق في بنيانها، حين بطلت هذه المرجعيات
رانية: لنرجع خطوة إلى الوراء، إذا أردنا أن ننظر إلى ما يحدث حالياً في لبنان، فبالإضافة إلى جميع المشاكل التي ذكرتها لدينا خصخصة الكهرباء والماء وتفكيك المدارس والجامعات الحكومية من صغيرها إلى الجامعة اللبنانية، انعدام التأمين الصحي للكل، لدينا أشخاص يموتون على أبواب المستشفيات، والطرقات نعرف قصتها، هذا ما يعتمد المرء من أجله على دولته كي تؤمنه له، حتى الأمن هناك جنود يُخطفون، ويسيسون هذا الشيء الذي يجب أن يوحد بين الناس، في كل هذا الإطار لدينا الآن وزير المالية يتحدث عن أن معاشات الموظفين لن تدفع في هذا الشهر، إذا وصلنا نحن إلى هنا فإن الناس الذين يمتلكون خبرة أكبر كما في الولايات المتحدة حدثت المسألة لديهم لأسبوع وأحدثت ضجة كبيرة. إن قسماً كبيراً من الشعب اللبناني يعتمد على هذه المعاشات والضجة لا تحدث، بالكاد يُحكى عنها في الجرائد أو تصدر صرخة شعبية، لكن هناك مجموعة صغيرة من الناس وأنت واحد منهم، تطالبون بمبادرة ما فما هي وما نوعيتها وكيف نستطيع أن نواجه الأمر الذي وصلنا إليه الآن في لبنان؟
شربل: إذا سمحت لي سأعترض على الصورة التي رسمتيها قبل طرح المبادرة. تقولين إن الناس لا تحصل على التعليم وعلى الخدمات الصحية، والكهرباء والماء .هذا خطأ، إنهم يحصلون على كل هذه الأمور من خلال العلاقات التي سبق أن أشرنا إليها والخاصة بالولاء المتبادل، حين يدخلون مستشفى أو يسجلون أبناءهم في مدرسة أو يبحثون عن واسطة لتأمين وظيفة لشخص ما، إلخ كل هذه الأمور التي من المفترض أن تهتم بها الدولة، إنهم يصلون إلى هذه النتائج إنما من خلال قنوات الولاء الشخصي للأطراف التي نسميهم زعامات ـ الذين هم بدورهم موجودون في الدولة لكنهم حريصون على أن يُبقوا بجانبهم أو تحت يدهم المنشآت التي تؤمن هذا الأمر، سواء كانت منشآت خاصة، أو منشآت خاصة تلقى دعماً من الدولة، أو مؤسسات من الدولة مقتطعة منها ـ هؤلاء يدركون تماماً هذا الأمر، فالناس عارفون أنهم قادرون للوصول إلى هذا الشيء والثمن هو الولاء. وأولئك يعرفون تماماً أن عليهم تأمين هذه الأمور والمقابل هو الحصول على الزعامة بشرط أن يقتطعوا جزءاً من الدولة. أما سؤالك عن مسألة الموظفين، إن الموظفين جزء من هذا المجتمع، لا أحد غريب، وغالبيتهم مقتنعون أن هذه فقط خناقة مثلها مثل غيرها، وأن الأمور ستمشي في النهاية على كل حال لكن ليس وفق الآلية الناظمة لما يُسمى دولة إنما وفق آلية الأمر الواقع التي هم متعودون عليها
ما حاولنا قوله هو أنه إذا كان المرء يعتبر أن إقامة دولة بشكل جدي أمر ضروري وممكن ولو كان صعباً، وضروري أكثر في ضوء ما تشهده المنطقة حولنا، لأن مسألة مواجهة ما نشهد حولنا هي من عمل الدولة، وقتها يجب أن نسعى لإقامة دولة. كيف يقيم المرء الدولة؟ لا نستطيع أن نأتي ونقول للناس الذين بحكم تجربتهم التاريخية لم يعثروا على ملاذ وحل إلا من خلال بيع الولاء للحصول على الحماية والمنفعة، ونبشرهم فيقولون معكم حق ولكن ليس في هذه البلاد، هذا الجواب جاهز. بالتالي نقوم بذلك من خلال العمل على تحويل ما تبقى من جزر من بنيان المؤسسة والدولة إلى جسم متكامل، وهنا ما قمنا به: هو أن مجموعة من الناس، بناء على الموقف المعلن لوزير المال، الذي قال من الآن فصاعداً ـ ما علاقتنا بالماضي ـ لا يستطيع أن يصرف مالاً عاماً دون سند شرعي. رمى حجراً في البركة، ومنذ ذلك الوقت التخبط الذي كان حاصلاً وبشكل مخفي صار علنياً. أتاح هذا الفرصة للتقدم من مجلس شورى الدولة بمراجعة غايتها أول شيء إبطال هذه القرارات غير القانونية حتى ولو كانت قد اتُخذت لحلحلة وضع مؤزم، نحن ليس هدفنا القول أنها لم تُشتغل لندفع المعاشات، لا عُملت من أجل دفع المعاشات، لكنها غير قانونية ويجب إبطالها، وبما أن هذا الإبطال مبرر بشكل واضح لمخالفة هذه القوانين والقرارات والدستور، لا حاجة كي يختلف اثنان عليها. أساساً، هم قالوها. وقتها، يترتب على القضاء الإداري ليس فقط أن نبطل ونعطل الدولة، إذا أبطلت تقومين بحماية المال العام، لكن عطلت الدولة، فأتينا وقلنا للقضاء مطلوب منك يا حضرة مجلس الشورى ـ أعلى رتبة في القضاء الإداري ـ في هذا الظرف الاستثنائي أن تقوم بموازاة إبطال القرارات غير القانونية بإيجاد صيغة لحكم قضائي لإقامة الرقابة والإشراف على عمل السلطة التنفيذية عندما تتصرف بالمال العام، يعني إلى حين أن تعود هذه السلطة التنفيذية للعمل وفق القوانين إنها ترجع كشيء يشبه الدولة، هي قاصرة وفاقدة للشرعية لا يحق لها استخدام المال العام ولا جباية الضرائب ولا زيادة الدين وبالتالي أنت يا قضاء، الذي ما تزال جزيرة متبقية من الانتظام الشكلي للدولة، تفضّل وافرض وصاية على هذه السلطة غير الشرعية كي ترتدع وتعود إلى الطريق القويم
.رانية: هل يوجد غير القضاء من الجزر التي نعتبر أنها ما تزال موجودة
شربل: نعم يوجد جزر في الوزارات، في الإدارة، يوجد جزر في القوى العسكرية، لكن يجب ألا نتصور أن لدينا بنيان دولة. لدينا جزر. إذا سعى المرء أولاً كي يعززها بقدراتها ومعنوياً، وهذا مهم جداً، ويربطها بين بعضها فكأنه يعيد بناء هيكل عظمي لشيء اسمه دولة.
رانية: وأين موقع النقابات هنا؟
شربل: ينطبق الأمر نفسه على النقابات. فأنت حين تتحدثين عن جسم من الناس، إذا بقي هؤلاء في وضعهم الإفرادي، فهم كما قلت لك ليسوا حبات بطاطا مرمية على الطريق بل عناقيد، هناك خيطان تربطهم بالولاءات التي هي بالتحديد ولاءات النظام الواقعي التي تحدثنا عنها، بالتالي حين يأتي المرء كي ينشئ أي هيئة مجتمعية وسيطة، نقابات، إن كان بشركات خاصة أو بإطار المؤسسات العامة والإدارة العامة، ما الذي نحكيه، نقول المراهنة لتفكيك التركيبة الإقطاعية القائمة وإعادة ربط الولاء بانتظام مختلف، الذي ينسجم طبعاً بمنطق الدولة، ولذلك نرى هذه الممانعة الشرسة حيال قيام هكذا هيئات لأن الفرد بنفسه غير قادر على مواجهة أي شيء، ونعرف كثيراً موظفين يعرفون كأشخاص ما يجري، لكنهم كأفراد مقهورون لا يقدرون على المواجهة
رانية: من الواضح أن هناك ممانعة ضد النقابات، لكن هل طلعت حركة شعبية من العمال أو حركة شعبية مستقلة ننظر إليها ونقول يوجد نموذج للأمل، هل هناك نموذج تحرك نتعلم منه؟ هل حدث شيء من هذا القبيل في لبنان؟
شربل: نعم حدث هذا، حدث شيء مهم جداً، فضمن هذا السياق الذي نتحدث عنه ألا وهو شبه الدولة، كان شبه الدولة يتخذ قرارات ولم يكن هيناً، عمل نوعاً من حالة طوارئ في ١٩٩٧ أعلن فيها وقف التوظيف في الإدارات العامة، تجميد الأجور في الشركات الخاصة وفي الإدارات العامة ووقف الاستثمارات العامة، هذا يفسر أشياء عديدة نراها، وهذا قرار اتُخذ من قبل شبه الدولة في ١٩٩٧ لأن المراهنات الإقليمية في ذلك الوقت لم تنجح وأخطأوا في إدارة الدين، ولم يعرفوا كيف يتخلصون من الأمر. اجتمعوا كخلية أزمة واتخذوا قراراً والتزموا به
رانية: هل ما يزالون ملتزمين؟
.شربل: نعم، ظلوا ملتزمين به حتى ٢٠١١، حين حُركت البالوعة وطُرح موضوع تصحيح الأجور
رانية: من طرح موضوع تصحيح الأجور؟ ومن حرك في البالوعة؟
.شربل: أشخاص مؤذون حركشوا البالوعة
رانية: لماذا لم يعوا حتى الآن، فهم كانوا يلحقون الأذى منذ ١٩٩٧؟ ما الذي وعاهم في ٢٠١١ كي يحركشوا؟
شربل: ثمة إمكانية لاختراق هذا النظام. فبسبب تخبطه يتيح ظروفاً ولو محدودة لتحقيق اختراقات في قلبه. حصل اختراق معين طُرحت قضية تصحيح الأجور، مما سبب هرجاً كبيراً إنما انقلب إلى مطالبة بتصحيح أجور موظفي الإدارة العامة، الذين كانوا مجمدين من ١٩٩٦، لم يستيقظوا حتى ١٩٩٦، جاء الأمر لأن هناك ظرف اختراق، تشوشت القصص وفشلت. هذا الأمر ولّد حركة دامت سنتين ونصف، وسيصبحون ثلاث سنوات، اجتاحت بنية الإدارة المرباة على الولاء والانصياع للحكم والتأثيرات السياسية، إلخ، واللافت فيها أن كل الأطراف السياسية في بداية الأمر أعلنوا حتى الملل وكرروا أنهم يؤيدون تصحيح الأجور، وإذ بدأوا حين رأوا أن ضرائب ستُفرض مقابل هذا على تجار الأراضي وأصحاب المصارف بالتراجع عن وعودهم وبالتالي هذا خلق شيئاً مهماً جداً لأن الموظفين لديهم ولاءات سياسية. مثل كل اللبنانيين شاهدوا الزعيم الذين يعتمدون عليه كذب عليهم وتخلى عنهم في منتصف الطريق، كل شخص تخلى عن جماعته، لو أن واحداً تخلى عن جماعة أولئك لما كان هناك أي شيء جديد، لكان شيئاً طبيعياً، هذه قواعد اللعبة، لكن حين كل شخص يتنكر لجماعته هذا يعني أن هناك طرحاً لمسألة غير مسبوقة في تاريخ هذا البلد وهي تتخطى بأشواط المسألة المطلبية، والأهم هو أنها تحدث في قلب الإدارة فنحن لا نقول شيئاً يحدث في قطاع صغير أو في مؤسسة ضائعة. طبعاً تمت مواجهة هذا الأمر بخطط مختلفة بشراسة واضحة ومناورات، ولا شك أن أي شخص لديه حرص أو سعي ممنهج لإعادة بناء دولة سيستخدمه كقاعدة انطلاق أساسية
رانية: لكن هناك الشخص الذي لا يعرف كثيراً التفاصيل التي تحدث في لبنان حين يسمع حضرتك سيقول حسناً إن هيئة التنسيق طلعت وكبرت حتى صارت في آخر مظاهرة١٥٠ ألف شخص يتظاهرون في شوارع بيروت، أكبر هيئة تنسيق لحقوق العمال المستقلة التي لا زعامة لها التي طلعت كرد فعل على زعمها كيف تخلوا عنهم، هل كانت هذه ردة فعل أم لم يكن لديهم قدرة تنسيقية من الداخل توصلهم إلى هنا؟
شربل: أكيد، هناك عمل داخلي، تراكمي، خاصة على صعيد المعلمين، ولحقته الإدارة والذي قدر أن يكون جسماً وثباتاً، واستمرارية، لكن هذا لا ينفي لو لم تكن الجهة المقابلة في هذه الدرجة من الوقاحة والكذب والانكشاف. لم يكن من السهل أن تستمر سنتين ونصف، فهذه فترة طويلة جداً. ما النتيجة؟ ليست النتيجة وحيدة الجانب كالعادة؟ هذا معناه أن الناحية المطلبية التي كانت الوقود البسيط الأساسي للمسألة كلها أصبحت اليوم شبه مسدودة أو مصدودة، في حين أن ما أحاول أن أشير إليه هو البعد المؤسسي أي البعد السياسي التأسيسي هو الذي أصبح متاحاً. ليس من السهل بالنسبة لحركة انطلقت كحركة نقابية مطلبية أن تنتقل لأن الظروف دفعتها إلى الانتقال إلى حيز حركة نستطيع أن نسميها سياسية أو تأسيسية، أي تثبت وتطرح وتنتزع وتأخذ مبادرة لا أن تطالب لأنه إذا رأى المرء أن من يطالبهم فاقدون للشرعية وكذبوا عليه وكذبوا على جماعته، إذاً ماذا يفعل؟ في نفس الوقت اكتسب هو شرعية بالمقارنة معهم لكن من ناحية أخرى من المفترض أن يبقى مصدقاً أنه إذا طالبهم سيمنحهم شيئاً ما. بالتالي صار في رتبة من المواجهة مع هذا البنيان الفاشل الذي من المطلوب منه القيام بخطوة نوعية كبيرة
رانية: وبرأيك أن هذا لم يحدث بعد؟
.شربل: كلا لم نصل إلى هذا بعد
رانية: كيف تتخيل هذه الخطوة خاصة أن المبادرة الآن التي يتحدثون عنها سيجربون تقسيم الناس، ويقسمون بين المعلمين في المدارس الحكومية والمعلمين في المدارس الخاصة. تمكنوا من تجريب تفكيك الوحدة التي تمكنت هيئة التنسيق من تحقيقها؟
شربل: إن الوحدة في حركة مطلبية مسألة مهمة جداً. حين يريد المرء الانتقال من الوضع الذي اكتشف بفعل التجربة فقدانه للشرعية والفاعلية إلى الإسهام في بناء وضع جديد، لا يبقى هناك إجماع بل تخاف الناس، على المرء أن يقبل أن هذا الانتقال يعني تغييراً في الصيغ
.رانية: هذا صعب، ليس فقط داخل لبنان بل في أي مكان
شربل: نعم هذا صعب، ولكن هكذا يتطور تاريخ العالم. ماذا يحدث حين تنهار صيغ اجتماعية وسياسية أمام تحديات لا تقدر على مواجهتها كما يحصل لدينا وفي المنطقة. ما الذي يحدث بعد ذلك سوى مرحلة الإقطاعات ما دون الدولة، وكل واحدة يكون لها موالها الخاص. من أين ستطلع الصيغ الجديدة؟ إنها لا تطلع لوحدها بل من مجازفات لا يقوم بها أشخاص، هناك أشخاص يبرزون طبعاً من خلال القيام بمسؤوليات معينة، بل تقوم بها كتل منظمة، قادرة على حمل أطروحات مختلفة. ما كنا نقوله نحن عن القضاء، ينطبق أيضاً على الإدارة فحين نتحدث نحن أننا نريد إعادة انتظام له قواعد ليست قواعد الولاء الشخصي، تستطيع أن تأتي الإدارة إذا كان لديها تماسك وتقول أنا غير قادرة على تنفيذ ما هو غير قانوني حتى ولو أنتم قررتموه
.رانية: لذلك لن ندفع ضريبة
.شربل: ما يجب أن يعرفه الناس هو أنه لا يحق للموظف جباية الضرائب
رانية: هل تستطيع تخيل حملة شعبية تخرج؟
شربل: نعم أستطيع التخيل، لكن المهم أن يكون هناك نقاط ارتكاز وليس قضية تحرك للتحرك، كي يكون هذا التحرك داعماً لتثبيت نقاط الارتكاز هذه وتوسيع إطارها فالقضية ليست قضية تنفيس عن غضب (فشة خلق) ، نستطيع أن نقوم بهذا
.رانية: تتحدث دائماً عن هذه النقطة وهي أن لا يتظاهر المرء من أجل التظاهر، أو التجمع من أجل التجمع
.شربل: إما أن يتفرجوا عليك إذا لم يكونوا خائفين منك وإذا كانوا خائفين ينزلون جماعتهم معك
.رانية: وتحدث الحالتان
.شربل: نعم
رانية: حدث أن قلت في مقابلة سابقة أن كرامة الدولة، النظام في لبنان لوح زجاج يحتاج إلى شرخ، كمواطنين وأشخاص مؤمنين ببناء الدولة كيف نستطيع أن نحدث هذا الشق في النظام، فإذا كان عندنا القضاء والنقابات هل يوجد جزيرة ثالثة كي تؤسس النقابات نفسها وتكون مستقلة؟
شربل: نحن لا نتحدث عن أي شيء لم يتوقعه الناس إذا كانوا يسمعوننا، لدينا الوضع الأمني، كيف الأمور متروكة هكذا، كيف أن قوة أمنية مسؤولة يصبح وضعها هكذا بحيث تحتاج إلى غطاء سياسي كي تقوم بواجبها القانوني. كيف يحدث هذا؟
رانية: لكن أمنياً كمواطنة لا أستطيع أنا أن أتدخل في الأمن؟ لذلك نريد المطالبة بعدم تسييس الأمن؟
شربل: ليس فقط عدم تسييس الأمن، ما الذي نريده نحن؟ ما هي الدولة؟ إن الدولة كيان افتراضي يُكتب على أوراق دستور وقانون ويتحول إلى واقع يتكثف من خلال الممارسة التي تبني له شرعية. إنهم يصدقون أن الدولة طوال عمرها دولة، لكن ما الذي يصدقونه؟ الدولة كيان شكلي افتراضي.لا يوجد أمة، لا يوجد لا أمة ولا قومية ولا أي شيء، الدولة تفرض هذا الأمر من خلال تكثف العلاقات التي ترعى إدارتها، إن الفرنسيين والألمان وغيرهم تعودوا على بعضهم، لم يكونوا دولاً، كانوا عشائر مثلنا. كيف تركب هذه الأخبار؟ المسألة هنا هي إحداث هذه النقلة من الوضع الفاسد الإقطاعي الذي يعتمد ولاءات النسب البسيطة ويستتبع حمايات خارجية طبعاً لأنه هزيل
إن قضية الصيغة المجازية التي ذكرناها، أي الجزر، تصبح ذات أهمية. إن هذه الجزر متعددة. ليست كلها بنفس القوة أو بنفس الوقع، ولا نستطيع أن نتعامل معها كلها في الظروف نفسها تشجيعاً واستنهاضاً وإحراجاً. في حديثنا هذا إن الأبرز اليوم هناك القضاء والإدارة، وهناك بسبب الضغط الأمني المريع الذي يعيشه الناس مسؤوليات القوى الأمنية. إن شبكهم فيما بين بعضهم يحتاج إلى حديث طويل، وفيه فشل ونجاح ويتعلق بميزان الدقة
رانية: هل نستطيع طرح هذا السؤال: هناك أشخاص انتقلوا إلى لبنان أيام الحرب الأهلية وظلوا وهناك ناس في آخر هذه السنة يقولون بكل بساطة إنه حان وقت الهجرة، لأننا لا نعاني فقط من تفكك الدولة وتفكك المجتمع، هناك إحباط قوي جداً يمس المنهج اللبناني ويمس العالم العربي ككل، بالنسبة للأشخاص الذين يشعرون أن خيارهم الوحيد هو الهجرة أو أن يتداعشوا، أو يتقبلوا الفساد القائم أو يسيرون ورأسهم في الحائط، ماذا نقول لهم؟
شربل: إن موضوع التيارات الإسلامية يحتاج إلى بحث طويل، وهو جزء من مجتمعنا أيضاً، لا نستطيع إغفاله. إنها تيارات سياسية، كانت مختبئة وظهرت فهي لم تأت من الفراغ أو تهبط بالمظلات
بالنسبة لما قلتيه حول أن الناس وصل بهم الخوف إلى مستوى جعلهم يفكرون كيف سيهربون، هذه مرحلة لم نكن معتادين عليها بهذه الحدة، هذه ليست لها علاقة مباشرة بموضوع الفساد، فالشخص لم يهاجر لأن الفساد يزعجه، فهو كان مغموساً في هذا النظام ولم تكن لديه مشكلة. إنه يهاجر لأن هذه الحظيرة التي كان يتوهم بأن ستحميه صار قلقاً لأنه يعتبر أنها لن تحميه بعد الآن. إن سبب هجرته ليس لأن الفساد يزعجه، فالفساد ليس أفراداً يمكن أن تنتقيهم كالزؤان وتخرجيهم من القمح بل العجينة كلها هكذا، ليس هذا هو الجديد. الجديد هو القلق. حين رأوا أن الدولة انهارت، بقوا، لكنهم يهاجرون حين يرون أن خط الدفاع الأقرب الذي هو “منطقتي وحزبي وجماعتي” لم يعد قادراً على حمايتهم حينها يهاجرون، وهذا يحدث بالتنقيط لأن الإنسان بحاجة إلى حد أدنى من الطمأنينة
رانية: قد يكون من الصعب أن نطمئنه ولكن إذا أردنا أن نخلق نوعاً من بديل ثالث، أي فكرة الأمل وفكرة النهضة الأساسية، ليس النهضة كما نعرفها سياسياً، كيف نستطيع كأفراد أن نجرب ونكون جزءاً فعالاً في محاولة بناء الدولة، وبناء أنفسنا كمجتمع، كيف نستطيع ذلك كأفراد برأيك؟
شربل: قد يكون لدى غيري أفكار مختلفة، ولكن ما أقدر على قوله شخصياً هو أن المهمة صعبة والمدى الزمني يضيق يوماً بعد آخر، وحين يكون المدى الزمني ضيقاً ويشعر المرء أنه محشور فإنه يخطئ أكثر. يجب أن نسعى لتحيّن فرص اختراق إلى مواقع متبقية سواء كان هذا ضمن السلطة الشكلية، شكل الدولة، أو ضمن المجتمع، أي كمثل الحقل المغناطيسي، لقلب وجهة أدائها بشكل يكوّن دولة. فالقاضي والموظف والعسكري الخ ، هذا نفسه، وليس شخصاً آخر، من خلال اختراقات في مواقع معينة هو فيها أو متحكمة به، ينقلب الحقل المغناطيسي في مخه ويصير هو السلطة، بكل بساطة. يجب إقامة سلطة جديدة فنحن لا يوجد لدينا سلطة بل تسلط بعد انهيار السلطة واقعياً وشرعياً، هذا لا يأتي بالكلام، ولكن طبعاً على المرء أن يواصل مخاطبة الناس، لكن لا نستطيع أن نطالب الناس بالاستيقاظ غداً صباحاً بصورة رمزية أو تبسيطية، أن استيقظوا يا شباب، ،كذا، لا، فهم كل يوم معرضون عشرين مرة لهذا الاختبار، الخوف أو التدجين أو الولاء، بالتالي هم جزء من هذه الآلية. إن الخروج منها هو عمل اختراقي موضعي، وليس عملاً عاماً لأن كل شخص عالق في مائة مصيبة
رانية: من خبرتك الشخصية، فأنت عملت مثلاً كمستشار اقتصادي ووزير عمل ووزير اتصالات وتدرس الآن في الجامعة الأميركية في بيروت، كناشط فكري في المجتمع المدني في لبنان وما زلت، ففي كل هذه الخبرات التي عشتها وما زلت تعيشها، هل هناك موقع ما من ذاكرتك أو من الخبرات التي تعود إليها، لا بد أن تأتي أوقات ونشعر باليأس فعل تشعر بهذا الوقت؟
.شربل: أكيد
رانية: أين الكنز الذي في ذاكرتك الذي تعود إليه كي يبقى لديك الأمل والاستمرارية كي تتابع؟
شربل: إن قضية العمل وكل هذه الأشياء هي في النفسيات. إن كل شخص يقيس في النهاية الخيارات المتاحة أمامه إن كان مادياً أو معنوياً، إلخ. وحين يكون قد قام باستثمار في حقل معين يكون من الطبيعي أن يظل متمسكاً به أكثر من شخص قام باستثمار أقل، بالنتيجة سأقودك إلى مفارقة بما أنك ذكرت التعليم ـ أتمنى أن أكون مخطئاً ـ لكنني لا أرى لدى الشباب زخماً لمواجهة هذا القدر الفاسد كما هو مفترض لكن على العكس يتبين أن المرء يجد ممانعة لأنهم يحفظونها في ذاكرتهم من قبل أو يعتبرون ما مر عليهم من الحياة أكثر مما هو متبق وبالتالي الممانعة لديهم أكبر. إن الأشخاص المتقدمين في السن، وهذا أمر مفاجئ، يتفاعلون مع هذه الأمور، وللأسف أكثر مما يظهر لدى غالبية الشباب
رانية: لكن عادة الثورة يقوم بها الشباب؟
شربل: لأن الشباب بمجرد أن يتشربوا فكرة أن هنا يعني ولاء واستتباعاً وقلقاً، بينما في الخارج تنجح أموري، سواء كان في أوربا أو الخليج أو أميركا، وقد ذهب من عمره ٢٠ سنة ويعتبر أن أمامه ٨٠، يعمل في رأسه توازناً أن الشيء الذي أستطيع أنا أن أكسبه لقاء ما يمكن أن أكسبه هنا والعكس يجعل من مصلحتي أن أهرب باكراً
رانية: هل تضع الشباب كلهم في كومة واحدة؟
.شربل: غالبيتهم
رانية: ربما كان هذا في الجامعة الخاصة لكن يمكن من خبرتك في الجامعة اللبنانية العامة قد تصل إلى استنتاج مختلف؟
.شربل: لقد درست في الجامعة العامة
رانية: هل هو الاستنتاج نفسه؟
شربل: كلا، إنه ألطف. لأن كون القدرات المالية لأهلهم متفاوتة ـ لا نريد أن نبسط ونعيد الأمور إلى الاقتصاد الحسابي ـ هذا العنصر يلعب دوراً مهماً. إن الذين يعتبرون أنهم سيخسرون هنا كثيراً وقادرون على أن يربحوا في الخارج كثيراً، يصبح الدافع من أجل أن يهاجروا بسرعة إلى الخارج مرتفعاً جداً
رانية: لكن من الممكن أنه صار فيه أمل في البلد لأن حالة الفقر لدينا صارت ٤٠٪؟
.شربل: يجب أن تنتبهي هنا وأنت تنزلي أكثر
.رانية: يوجد فقر صعب جداً
شربل: يوجد فقر مذل يجعل الإنسان لا يفقد شعوره بحرية قراره فحسب بل حتى شعوره الذاتي والفلسفي بالقدرة على المواجهة. لقد خضنا معركة شرسة جداً مع أشخاص أجراء ذوو مداخيل متدنية في شركة سبينز الذين مورس ضدهم التهديد والقمع ولم يصمد إلا ٤، من ١٥٠٠ تنازلوا عن حقوقهم وانصرفوا.
رانية: ٤ من ١٥٠٠؟
شربل: ٤ من ١٥٠٠ صمدوا. لا يستطيع أن يراهن المرء أن الفقير شجاع، هذا ليس صحيحاً، فالأمور ليست بهذه البساطة. حين لا يكون المرء يشعر بأمان أنه يستطيع أن يطعم أبناءه ويعرفه أنه في أي وقت يأتي أشخاص يطردونه ويضعونه في الخارج، هذا يمشي تحت أمر السيد مايكل رايت في سبينز، كما يمشي تحت أمر رئيس الميليشيا، ويحمل سلاحاً. يجب ألا نبسط الأمور كثيراً. إن المرء يحتاج إلى الكثير من الروية والتمعن في التعامل مع الناس
رانية: آخر سؤال: سمعنا أن حضرتك ستشارك في الانتخابات، يوجد أشخاص يقولون: لماذا ما نزال نحاول رغم أنه ليس لدينا نظام، ولدينا تفكك في كل مؤسسات ولكنك ستشارك في الانتخابات؟
شربل: أنا سأشارك في الانتخابات لسبب رئيسي وهو أنه لا يمكن أن نحدث انقلاباً ـ إجمالاً تكون الانقلابات مفاجئة ـ فقد وصلت الأمور لدينا إلى درجة من الهرهرة أن الانقلاب معلن سابقاً. هل هناك انقلاب معلن سابقاً نجلس ونتفرج عليه؟ على الأقل يجب أن نسجل اعتراضاً ضده. هل يوجد انتخابات؟ نعم يوجد انتخابات. لا يعني هذا أنني لا أعرف ماذا يُطبخ. هذا يقود إلى مسألة ثانية. إن الذين يأتون ويقولون هذا تعامل مع النظام الفاسد هو كذا، ويجب على المرء أن يقلبه كله مع بعضه، هؤلاء مهضومون جداً، لأنهم إذا كان قد حضروا الانقلاب، وحضروا الجيش الثوري في مكان ما، ليس من المطلوب أن يخبروني وليقوموا باالأمر. أما إذا كانوا لم يفعلوا أي شيء، فإنهم يصيحون بلا فائدة، وحين يتعامل المرء مع الناس واقعياً في المواقع التي هم فيها، يلجأون هم إلى المزايدة. من الأفضل أن يسكتوا ويبحثوا عن عمل يقومون به
رانية: شكراً دكتور نحاس لوقتك ولاستمرارية مواقفك
شربل: فرصة سعيدة