عبد الباسط بن حسن هو رئيس المعهد العربي لحقوق الإنسان. يعمل المعهد على تعزيز تعليم حقوق الإنسان في المنطقة العربية من خلال بناء المقدرات وبرامج التدريب. و هو أيضا رئيس اللجنة الوطنية التونسية لدعم اللاجئين. شغل منصب عضو في اللجنة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي. في هذه اللجنة، شارك بن حسن في صياغة تشريعات ما بعد الثورة حول حرية تكوين الجمعيات و حرية التعبير والتجمع والانتخابات. انتخب رئيسا للمعهد العربي لحقوق الإنسان في مارس 2011. مع خبرة عقدين من الزمن في مجال حقوق الإنسان في المنطقة العربية، شغل بن حسن منصب مدير برنامج حقوق الإنسان في مؤسسة فورد (2005-2011).
درّس بن حسن حقوق الإنسان في كلية الحقوق والعلوم السياسية في تونس، ومعهد العلوم الاجتماعية في جامعة تونس، والمعهد الدولي لحقوق الإنسان في ستراسبورغ، فرنسا. وقد كتب حول تعليم حقوق الإنسان وثقافتها . وكان عضوا في لجنة صياغة البرنامج العالمي لتعليم حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة .
ولد عبد الباسط في تونس، وتخرج من كلية الحقوق والعلوم السياسية في تونس. وهو حاصل على درجة الماجستير في العلوم السياسية. وهو أيضا شاعر. وقد ترجمت دواوينه الشعرية إلى الفرنسية والإيطالية، والألمانية.
مقابلة مع عبد الباسط بن حسن
حاوره: فاتح عزام
صاغها باللغة العربية الفصحى أسامة إسبر
فاتح: أهلاً وسهلاً بك أستاذ عبد الباسط.
بن حسن: أهلاً وسهلاً بكم.
فاتح: لقد سعدنا باستضافتك أمس لإلقاء محاضرة حول ما يحصل في تونس فيما يتعلق بدور المجتمع المدني، وتطرق النقاش إلى موضوعات أكثر تنوعاً وعمقاً حول المجتمع المدني في تونس بشكل عام وتاريخه وعراقته، والنشاطات التي قام بها من أجل الحفاظ على مكتسبات الثورة. لنبدأ ببعض الملاحظات التي لديك كي تضعنا في صورة ما يحصل الآن في تونس. ما هو الوضع الآن في تونس بعد ثلاث سنوات من الثورة؟
بن حسن: ما نزال في عملية الانتقال الممكن نحو الديمقراطية، وقد قطعت تونس شوطاً هاماً على هذا الطريق. ولكن ما زالت التحديات كبيرة سواء في مجال الوصول إلى منظومة سياسية تضمن التداول السلمي للسلطة والاستقرار السياسي وقبول مستوى اختلاف الفضاء السياسي على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. نعرف أن تونس مرت في مرحلة انتقالية صعبة، وشهدت مجموعة من الأزمات في فترات متعاقبة، وأظن أن ما وصلنا إليه اليوم ـ رغم أن هناك الكثير مما يجب أن يُنجز ـ لا يحجب عنا أننا قمنا بالكثير من المنجزات سواء على مستوى التعامل السلمي مع هذه الأزمات وإيجاد الحلول من خلال التفاض بين كثير من الفاعلين المدنيين والسياسيين حول ضرورة حل الأزمات سلمياً، كذلك تم إرساء مجموعة من المؤسسات التعديلية والرقابية رغم جدتها مثلاً مثل الهيئة المسؤولة عن العدالة الانتقالية، والهيئة المسؤولة عن الاتصال السمعبصري، والهيئة المسؤولة عن الانتخابات وهيئة القضاء العدلي، وكلها مؤسسات جديدة قد تضمن بعض الإصلاح المؤسسي، ثم كذلك قوانين مثل قانون الانتخابات، وقانون الجمعيات، فهناك المنجز الذي يجب أن نوثّقة وأن ندعمه، وهناك كذلك تحديات كبيرة، فتونس تقف الآن في مفترق طرق، ستنجز انتخاباتها الثانية، وهذه الانتخابات قد تنقلنا في حال نجاحها من المرحلة الانتقالية إلى مرحلة الاستقرار السياسي ومحاولة إنجاز ما لم يُنجز حتى الآن على مستوى أجندة الانتقال.
فاتح: حصلت في تونس خلال الفترة الانتقالية اغتيالات سياسية للمرة الأولى في تاريخ تونس، كيف تُحصر هذه الأحداث ولا يُسمح لها بأن تتوسع كم حدث في الدول الأخرى التي مرت في ثورات وانقلابات ، كيف نحصر أو نحاصر هذا التوجه نحو العنف والتوجه نحو الإصرار على مضمون واحد من المجتمع؟
بن حسن: أنا أعتقد أن حوادث الاغتيال السياسي، والتي أعقبتها عمليات إرهابية عديدة طالت أعداداً كبيرة من رجال الأمن وعناصر الجيش تدخل في إطار محاولة فرض نوع من الرأي وفرض نوع من التصور السياسي والإيديولوجي بالقوة، ولكن رغم فداحة ما لحق بتونس من خسائر، ورغم أن خوفاً كبيراً على مستقبل تونس من العنف السياسي قد أحدثته هذه العمليات، كان رد الفعل لغير صالح من كان يخطط لجر تونس إلى مربع العنف بدل من مربع التعامل السلمي مع الأزمات. وأقول هناك عوامل عديدة يمكن أن تفسر هذا التحرك السريع ضد العنف.
فاتح: رد فعل من من مثلاً؟
بن حسن: أولاً، هناك رد فعل رمزي من المجتمع المدني، من المواطنين والمواطنات، على اختلاف شرائحهم الاجتماعية وتوجهاتهم، وعلى اختلاف أجيالهم، رد فعل صادق للتنديد بالعنف عن طريق مسيرات حاشدة، وعن طريق الإعلام وعن طريق التعبير بصفة عامة عن رفض هذا الاتجاه. ثانياً، كان هناك رد فعل أقول كان فيه الكثير من الكرامة والإحساس بالنخوة من العناصر الأمنية ومن الجيش ومن عائلاتهم، الأمر الذي زاد في دعم رد الفعل العفوي هذا الذي له بعد رمزي في الثقافة الاجتماعية. ثانياً، أقول إنه بصفة عامة، ورغم ضعف المواقف الشاذة فإن المجتمع المدني والمجتمع السياسي والمجتمع المثقف بصفة عامة تبنى موقف رفض العنف السياسي ورفض الإرهاب. وأضيف، أنه - ما زلنا في الرمزي ـ رغم محاولة إرباك المشهد السياسي، وتخويف المجتمع السياسي والمجتمع المدني، خلق رد الفعل الشعبي، وذهاب أكثر من مليون إلى جنازة الشهيد، نوعاً من رد الفعل الرمزي، هذا على المستوى الرمزي. هناك عوامل أخرى مهمة يجب كذلك أن تُوثّق. أعتبر فيما يتعلق برد الفعل السياسي أنه على المستوى الشعبي حصل سياسياً محاسبة للحكومة في تلك الفترة واعتبار أن عدم جدية معالجتها لقضايا العنف السياسي والإرهاب هو سبب في فشلها، ولذلك بدأت حملة كبيرة تواصلت بعد اغتيال بلعيد ومحد البراهمي، من أجل القول بأن الشرعية الانتخابية انتهت، وهذه الحكومة لم تعد قادرة على حماية مواطنيها ورموزها إذاً يجب أن تذهب ودخلنا في تلك المرحلة الطويلة من الأزمة السياسية التي أدت إلى مجيء حكومة جديدة، والحكومة الجديدة اتخذت من المواقف السياسية ومن الإجراءات الأمنية ما ساعد على الحد من ظواهر الاغتيالات السياسية واستهداف الجيش واستهداف الأمنيين
فاتح: ثمة ما يثير أسئلة في ما تقوله يا عبد الباسط في حديثك عن المجتمع المدني والمجتمع السياسي، ففي كثير من الأحيان حين نتحدث عن المجتمع المدني وتعريف المجتمع المدني ، ثمة جدل حول هذا لأنه مثير للجدل، النقابات هي جزء من المجتمع المدني، نعلم في تونس أن الاتحاد العام للشغل ونقابات أخرى شاركوا بشكل واسع جداً في الثورة وفي الحفاظ عليها، بخصوص ما تقوله الآن عن علاقة المجتمع المدني بالمجتمع السياسي هناك من يقول إننا لا نستطيع أن نفصل السياسة عن كل شيء نفعله لذلك المجتمع المدني هو سياسي بطبيعة الحال، كيف تفرق بين هذه المفاهيم من أجل أن نصل إلى معرفة من يفعل ماذا؟ وما هي علاقة هذا المجتمع المدني المسيّس، إذا لم نقل السياسي، بما نسميه المجتمع السياسي؟
بن حسن: أريد أن أوضح مسألتين: الأولى، هي أن المجتمع المدني هو مجموعة المنظمات والهيئات التي تتشكل بين الأسرة والدولة، ويحتوي المنظمات غير الحكومية، النقابات، الإعلام ومنظماته، إلخ، لكنه حسب رأيي الخاص لا يمكن أن يحتوي الأحزاب لسبب بسيط وهو أن الأحزاب تبحث عن الحكم وتمارس السلطة.
فاتح: حتى قبل أن تصل إلى الحكم؟
بن حسن: حتى قبل أن تصل. لذلك فإن نظرية العلوم السياسية بصفة عامة، وتقريباً في أغلبها، لا تضع الأحزاب السياسية في خانة منظمات المجتمع المدني، هذا هو التوضيح الأول، بالنسبة للتوضيح الثاني أنا أعتبر بالضرورة أن كل الأشياء في حياتنا هي من السياسة، فالسياسة في تعريفها الشامل هي إدارة المدينة، فلذلك إن المجتمع المدني، مثله مثل أي نوع من التعبيرات يجب أن يكون له رأي في إدارة الشأن العام، يجب أن يكون له رأي نقدي في سياسات الدولة، يجب أن يقترح السياسات، يجب أن يعمل على المساءلة، المساءلة لاجتماعية بجميع أشكالها، يمكن أن يكون له كلام أيضاً في طريقة إدارة الشأن العام وفي إدارة الحكم، لذلك فإن المجتمع المدني يلعب دوراً كبيراً كسلطة نقد وكسلطة اقتراح. هنا أقول إنه في تعريف المجتمع المدني لا يمكن أن يستقيم المجتمع المدني إدا لا يتوفر فيه أحد الشروط الأساسية وهو في جوهر تعريفه وهو الاستقلالية
فاتح: وهل هذه الشروط متوفرة في تونس؟
بن حسن: أقول إن المجتمع المدني مثله مثل كل أشكال التنظم في المجتمع التونسي شهد نوعاً من التسونامي الكبير بعد الثورة على كل المستويات، أولاً على المستوى الأول في اتساعه بشكل كبير، يعني سواء على المستوى العددي بانضمام منظمات جديدة إلى هذا المشهد، ثم ثانياً انضمام فئات جديدة كالشباب والمدونين، جمعيات مهمشين، الخ أقليات لم تكن موجودة سابقاً أو تعبر عن نفسها، إذاً هذا هو التطور الأول. التطور الثاني، هناك منظمات خيرية مثلاً، ثم على مستوى الأدوار، هناك منظمات للنقد ولكن صار هناك منظمات للاقتراح، ومنظمات تقوم بتحالفات وتحرك الشارع، منظمات تتواصل ، تتوسط، تراقب، تحاسب. في كل هذا المشهد لا يوجد نوع من الصفاء المثالي، هذا لا يوجد إلا في الأساطير، لكن في مستوى الواقع هناك تعدد وهناك تنوع، وكذلك هناك أشياء سلبية من بينها أن هناك منظمات خُلقت وهي تابعة للأحزاب، هناك منظمات تخدم أجندات حزبية، هناك منظمات قامت من أجل ضرب عملية الانتقال الديمقراطي عن طريق الترويج لخطاب يدعو إلى الكراهية، التعصب، عدم التسامح، الدعوة إلى العنف. هناك منظمات تُتهم بأنها تسهّل العمليات الإرهابية، كل هذا المشهد هو يدعو في هذه المرحلة إلى إعادة التفكير، وما نحاول أن نقوم به الآن هو أن نبحث في ما هي القواسم المشتركة، التي يمكن في حالة الاتفاق حولها تخلق رؤية من أجل الانتقال نحو الديمقراطية وليس من أجل الانتكاس نحو ما قبل الثورة، هذا هو الأمر، الواقع معقد، الواقع عديد الظواهر، ليست كل المنظمات مستقلة ولكن يجب البحث الآن على ما هي القواسم المشتركة التي تحملنا نحو ما هو إيجابي ولا تعود بنا إلى الوراء
فاتح: لنأخذ هذه الفكرة إلى مسار الأمثلة، بمعنى أنه خلال السنوات الثلاث الأخيرة كان هناك عدة معارك في تونس حول هذا الموضوع بالذات: إلى أين ستذهب تونس؟ إلى أين سيذهب المجتمع التونسي؟ ومنها معارك مع المنظور الإسلامي، النهضة كحزب سياسي مسيطر على الحكومة في حينه والبرلمان، ومعركة الدستور، في موضوعين: الموضوع الأول هل ستكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع في تونس الآن؟ والموضوع الآخر هو أيضاً في غاية الأهمية، وهو موضوع ما طُرح من قبل البعض حول تكامل المرأة والرجل، أي تكامل دورها مع دور الرجل؟ بينما كان الحقوقيون يطالبون بالمساواة التامة للمرأة التونسية، هل يمكن أن تقدم لي بعض الأمثلة حول ما قمتم به من نشاطات للوصول إلى نجاحكم في عدم السماح لهذه الأفكار بالوجود
بن حسن: هناك مسألة جديدة جداً بالنسبة لعديد البلدان العربية، وبالنسبة حتى لتاريخ تونس، وهو أنه بعد الثورة مباشرة إن نصف الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، أي البرلمان الأول غير الرسمي الذي تشكل من أجل تحقيق هدف الثورة كان في صفوفه ٦٠٪ تقريباً من المدافعات والمدافعين عن حقوق الإنسان وعن المجتمع المدني. كان هذا نوعاً من التمرين الأول الذي منح ثقة للمجتمع المدني في إمكانية التأثير والتغيير وإمكانية العمل الجماعي
فاتح: كيف تأسست هذه اللجنة ومن أعطاها الشرعية كي تصل إلى ما وصلت إليه؟
بن حسن: هي نوع من التوفيق أو الوفاق التاريخي بين هيكلين هيكل ما يسمى بمجالس الثورة التي تشكلت في مختلف أنحاء الجمهورية لمراقبة عدم الزيغ عن الثورة وكانت تتكون من عديد من المنظمات غير الحكومية والأحزاب وغيرها، ثم لجنة الخبراء التي شكلتها الحكومة من أجل ضمان الانتقال الديمقراطي، إعداد القوانين والقرارات إلخ. بعد أن وصلت عملية الحكومة الأولى والثانية إلى نوع من الطريق المسدود وهناك عديد المظاهرات ضد هذه الحكومة، وقع التفكير في نوع من الوفاق التاريخي جمع بين الهيكلين وأنشأ مثل الهيكل الذي سيعد الانتخابات ويعد القوانين ويراقب عمل الحكومة
فاتح: كقرار حكومي ـ مجتمعي؟
بن حسن: حكومي ـ مجتمعي. إذ لأول مرة، حتى اختيار أعضاء هذه الهيئة تم من خلال الوفاق بين الأحزاب والمجتمع المدني والحكومة وأطياف عديدة من المجتمع وخاصة الشخصيات الكاريزمية التاريخية. هذا الهيكل هو أحد الأمثلة التي أعطت نوعاً من الثقة للمجتمع المدني ليقوم بمجموعة من الاستراتيجيات من أجل مثل هذه المحاولات للارتداد بالبلاد من أجندة الانتقال الديمقراطي الذي يقوم على حقوق الإنسان والمرأة، إلخ، إلى أجندات أخرى. كانت هناك أنواع من الاستراتيجيات، الاستراتيجية الأولى هي بناء التحالفات، أعني في كل المعارك التي خيضت من أجل الحريات والديمقراطية كانت هناك جبهات، جبهات تقوم على التضامن، مثلاً من أجل حقوق النساء سترى أن الجمعيات النسوية ستجد نفسها، مع جمعيات البيئة، مع جمعيات حقوق الإنسان، مع نقابات، مع المنظمات الشعبية، وغيرها وغيرها من الأطياف. إذاً، بناء تحالفات حول المواضيع، ثانياً، القيام بحملات توعية واستعمال كل الأساليب سواء المواقع الاجتماعية والإعلام وغيرها من أجل تحريك الناس من أجل هذه المواضيع. إذاً ليس الاكتفاء ببعض الناشطين والناشطات، بل التحالف من أجل هذا الموضوع بين أطراف المجتمع. ثالثاً، التظاهر والتعبير عن الغضب بأشكال متعددة، ورابعاً، إحدى الطرق الهامة، محاولة التأثير في صنع القرار من داخل صنع القرار، أعني مثلاً الوقوف ضد هذه المحاولات لوضع الشريعة، لتغيير كلمة المساواة، هذه مجموعة من خبراء منظمات المجتمع المدني في تحالفاتها قامت بعمل كبير مع المجلس التأسيسي داخل المجلس التأسيسي بطلب اللقاء مع أعضاء لجان الصياغة، بتقديم مقترحات عملية، بتشكيل جماعات ضغط، ، باستمالة جزء من أعضاء المجلس التأسيسي وجعلهم لفائدة مثل هذه الأشياء، بالتظاهر أمام المجلس التأسيسي، كل هذه الأشياء أدت في نهاية الأمر إلى خلق رأي عام للدفاع عن هذه القضايا، وهنا أقدم مثالاً، عهد تونس للحقوق والحريات، حين استخدمناه كأداة من أجل التأثير في مثل هذه القضايا، مثل عدم فرض الشريعة، قضية المساواة، الحقوق والحريات، كان هناك حملة، ووقع على الالتزام بهذا العهد تقريباً جميع الأحزاب السياسية، وأكثر من نصف المجلس التأسيسي، ثم أكثر من ٢٠٠ ألف مواطن ومواطنة، داخل الأرياف، في الأسواق، في الجامعات، في المدارس، في غيرها من المواقع، كل المثقفين، وقد استعملنا هذه الأداة من أجل محاولة الضغط والتأثير في صنع القرار مباشرة
فاتح: إن السؤال المثير هنا هو كيف استطاع المجتمع المدني لهب دوره، بهذه القوة، بهذا المستوى من النجاح، بعد خروجه من أكثر من ثلاثة عقود من القمع في ظل نظام زين العابدين بن علي. كيف نفهم قوة هذا المجتمع، حين نرى في دول أخرى مثلاً، في ليبيا أو سوريا أو العراق، كان هنالك أيضاً قمع شديد، ولم يستطع المجتمع المدني في هذه الدول الأخرى أن يقوم بدور مماثل لما تفوم به الهيئات والجمعيات في تونس؟
بن حسن: أقول إن نظام بن علي ربما كان قادراً على أن يمنع نَفَس المجتمع المدني لكنه لم يكن قادراً على تغيير المجتمع المدني. كان بإمكانه أن يخمد صوته أحياناً، ولكنه لم يكن قادراً على أن يغيره. ما معنى أن يغيره؟ أي أن ينتزع منه روحه المدنية ونضالاته التاريخية، لأن المجتمع المدني في تونس على فترات متعددة حتى في فترة حكم بو رقيبة كان دائم الوجود حين تكون هناك معارك كبرى، فهذا المجتمع المدني ليس وليد اللحظة. قد يكون بن علي قد جرب أقسى أنواع القمع البوليس لكنه لم يخمد كل الأصوات، لذلك عندما تحررت أصوات التونسيين والتونسيات، صارت كل الناس تحلم بالعمل السياسي والعمل المدني، وما رأيناه في السنة الأولى قبل الانتخابات من تحرك من أجل التثقيف على المواطنة لا يمكن أن يتخيله العقل. أعني لم ينقطع أي تونسي أو تونسية عن تجربة التثقيف. فقد رأينا نساء ورجالاً بدون أي تكوين في مجال المواطنة يذهبون إلى الأرياف من أجل النقاش مع الناس. رأينا تحرراً كبيراً على مستوى الثورة، هذه هي المسألة الأولى. المسألة الثانية، أنا أقول إنه بالنسبة للمجتمع المدني التونسي كانت له كذلك من أدوات العمل العقلانية التي كونها على مدى أكثر من ثلاثة عقود. يجب أن نعرف أن هذه المنظمات، خاصة التي حافظت على استقلاليتها رغم كل مشاكل عهد بن علي، هذه المنظمات تربت في وضع إقليمي ودولي، تعلمت حقوق الإنسان مع المنظمات العربية والدولية، أعني تأخذ بالمعرفة في مجال حقوق الإنسان، كانت جزءاً من شبكات كبيرة من العمل في مجال حقوق الإنسان، حقوق الطفل، الحق في البيئة، كل أنواع الحقوق، لذلك كل هذه الطاقات كما كنا نتصور، وكان يسألنا الناس لماذا تدربون، أي ماذا ستنفع هذه الطاقات؟ رأينا أنه عندما جاءت الثورة أن هذه الطاقات عندما تحررت أصبحت قادرة على أن تصبح قوة اقتراح وعلى أن تأخذ المجتمع إلى المنطق الإيجابي وإلى منطق التغيير التدريجي بدل أن تأخذه إلى العنف
فاتح: في الوقت نفسه نرى في المجتمع التونسي نزعات، مجموعات لا يستهان بها من السلفيين، الإسلاميين، إلخ، وآخر الأخبار تقول إن حوالى ٣٠٠٠ من التونسيين ذهبوا إلى الجهاد مع الدولة الإسلامية، وإلى ما ذلك. كيف نتفاعل مع هذه المشكلة؟ هل سيعود هؤلاء إلى تونس كما فعل العرب الذين ذهبوا إلى أفغانستان وعادوا إلى الجزائر مثلاً في التسعينات كما نذكر؟ كيف يمكن أن نتفاعل مع هذه الظاهر؟
بن حسن: هنا دائماً أعود إلى دور المجتمع المدني، يجب أن يكون للمجتمع المدني قدرة على الذكاء التاريخي، يجب أن يتميز عن الذين يذهبون إلى الحلول السريعة وردود الفعل. إن المجتمع المدني العربي الآن أمام تساؤل كبير حول ظاهرة ليست تونسية أو سعودية فقط أو فلسطينية أو مصرية أو غيرها. هذه ظاهرة كونية تعود إلى أسباب كثيرة منها الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والسياسية والجيوسياسية. فيها أشياء لها علاقة بالاستخبارات، ولكن هي دليل على أزمة في المجتمع، على أن المجتمع لا يقدم رؤيا لمجموعة من الشباب. أولاً سيكون من الخطأ أن نبالغ ونقول إن كل مجتمعاتنا أصبحت متطرفة، سيكون هذا قمة الخطأ التاريخي، كلا كذلك لدينا هناك في مجتمعنا شباب يبحثون عن فرصة، هناك شباب يقومون الآن بالنشاط المدني والنشاط السياسي بأشكال سلمية وبدون أي تطرف، وهناك إسلاميون وإسلاميات يحاولون كذلك الاقتراب من هذا الجانب العقلاني في إدارة الشأن السياسي. يجب ألا نبالغ ويجب ألا نعمم. ثانياً، هناك حلول متعددة، الحل الأمني مهم حين يرفع سلاح الإرهاب في وجه المجتمع من أجل تدمير الدولة أو تدمير المؤسسات وتدمير المجتمع، وهنا أتحدث عن تونس،. يجب أن تكون لدينا مؤسسات ديمقراطية قادرة، منها مؤسسة الأمن ومؤسسة القضاء خاصة، على أن تحاسب كل من يرفع السلاح في وجه الدولة وتحاسبه في إطار القوانين واحترام حقوق الإنسان، لكن هذا الجانب لا يكفي. يجب أن تكون لنا ـ وهنا دور كبير للمجتمع المدني، دور تاريخي ـ قدرة على دفع الحكومات المتعاقبة على أن تتحمل مسؤولياتها في سياسات اجتماعية واقتصادية وثقافية وتعليمية تستجيب إلى تطلعات مجتمعاتها. الإصلاح، يجب أن تكون هناك قدرة كبيرة على الإصلاح، لأن اليأس يمكن أن يؤدي كذلك إلى مثل هكذا ظواهر.. ثانياً، وأقول هذا من خلاصات عملنا بعد أربع سنوات: الاستثمار في العقل، هذه من أهم الضروريات التي ستحمي أجيالاً وأجيالاً من الذهاب إلى التطرف. إذاً، المعالجة الأمنية الواجبة، إصلاح المؤسسات، السياسات الجديدة التي تقوم على العدل، وكذلك الاستثمار في التعليم وفي العقل البشري
فاتح: كيف ترى الصورة المستقبلية في تونس من جانب، ومن جانب آخر، هل سيترك المجتمع الدولي والمجتمع الإقليمي، أي الفاعلين وأصحاب القرار في المنطقة العربية، وعلى الصعيد الدولي، هل سيتركون تونس كي تتطور كما تريد؟
بن حسن: أولاً أريد أن أؤكد أنه لا شيء يحصل في المنطقة العربية أو على مستوى العالم بدون أن تكون له تأثيرات مباشرة أو غير مباشرة على ما يحصل في تونس. تونس أطلقت شرارة، هزات تاريخية كبرى في المنطقة العربية لذلك فإنها ستتأثر بكل هذه التطورات الهامة التي تحصل في تاريخنا وفي مجتمعنا، ولكن أقول إن مدى التأثير الإقليمي والعالمي على تونس سيكون وضعه مختلفاً بمدى قدرة تونس على أن تحصن نفسها. هذه قناعة أعتبرها دائماً في تحليلي. إذا قدرت تونس في السنتين القادمتين أن تؤسس انتقالاً سياسياً هادئاً، أن تستوعب أكثر ما يمكن من أزماتها السياسية، أن تبني نوعاً من التداول السلمي للسلطة، حتى لو كان محدوداً، أن تدعّم المؤسسات التي بنتها، أن تبدأ في الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، عن طريق سياسات اقتصادية أكثر عدلاً، وإعطاء فرص للشباب، وعن طريق تطوير الاستثمار، والاهتمام بالقطاعات الاستراتيجية في الاقتصاد مثل الفلاحة والسياحة والصناعة، والاستثمار في الصحة وفي التعليم، يعني في الإنسان بصفة عامة، إذا تمكنت تونس في السنتين القادمتين أن تذهب أكثر نحو هذا الجانب الإيجابي فإنني أعتبر أنها ستحصن نفسها ولو جزئياً مما يحصل، بل بالعكس قد تشجع شعوب المنطقة على أن تنفع أكثر وتكتشف طرقاً من أجل أن تمنع دولاً عربية أخرى من الذهاب نحو الدمار ونحو التدمير. تونس تعيش في منطقة صعبة، فالشقيقة ليبيا فيها الكثير من المشاكل، الأمنية خاصة، لذلك أعتبر أنه كلما كان هناك توجه نحو الديمقراطية ونحو الاستقرار في تونس، وبذلنا جهدنا من أجل هذا الاستقرار، كلما كان بإمكاننا أن نبعث رسلة طمأنه إلى بقية البلدان بأن العرب قادرون على أن يفتتحوا ملف تاريخ الديمقراطية لا أن يذهبوا جميعاً إلى الدمار
فاتح: وبالتأكيد كما ذكرت أمس في المحاضرة التثقيف والتربية والتوعية هم الأساس وأنتم في المعهد العربي لحقوق الإنسان تقومون بذلك منذ أكثر من عقدين من الزمن. هل هناك مشاريع تقومون بها الآن كمعهد عربي لحقوق الإنسان في بلدان عربية أخرى في هذا الاتجاه؟
بن حسن: هناك مجموعة من المشاريع الاستراتيجية، هناك مشروع مثلاً من أجل دعم قدرات الفاعلين والفاعلات الجدد في المجتمع المدني، مثلاً المدونين، الجمعيات الجديدة، جمعيات التنمية، جمعيات البيئة. نحاول أن ندخل مقاربة حقوق الإنسان في عملها وهذه مسألة هامة، وهذا العمل موجود في مصر وفي المغرب وفي عدد من البلدان العربية. الجانب الثاني في عملنا هو محاولة أخذ بعض التجارب التي جربناها في تونس إلى البلدان العربية الأخرى، منهجيتها، مثلاً، الحملات، بناء التحالفات الكبرى حول الدفاع عن بعض الحقوق، كيف نجلب ناساً من مختلف القطاعات إلى قضية الحقوق والحريات، هناك تقنيات، وهناك استراتيجيات عديدة من أجل القيام بهذه الأشياء. ثالثاً، هناك عمل حول التثقيف الشعبي في مجال حقوق الإنسان يقوم به المعهد الآن في تونس، لدينا فضاء اسمه دار السيدة في تونس، سنطوره إلى نوع من المختبر من أجل تطوير طرق التثقيف الشعبي في مجال حقوق الإنسان، وهناك دورات عديدة نقوم بها في البلدان العربية من أجل التثقيف الشعبي، ورابع قضية نعمل عليها، إضافة إلى قضايا أخرى مثل العدالة الانتقالية وإصلاح المؤسسات وغيرها، هي قضية إصلاح التعليم من خلال منظور حقوق الإنسان، وهذه تجربة قمنا بها في تونس مع وزارة التربية، تقدمنا فيها شوطاً كبيراً، ونجاح هذه التجربة جعل وزارة التربية في لبنان تطلب رسمياً من المعهد أن يساعدها على إنشاء نوادي حقوق إنسان ومواطنه في المعاهد والمدارس اللبنانية وسنقوم بالشيء نفسه في مصر والمغرب وعدد من البلدان العربية الأخرى. فكرتنا الآن هي كيف ننتقل من مجرد الأنشطة إلى عائلات كبرى من البرامج التي نقدر أن نطور بها عمل منظمات المجتمع المدني
.فاتح: شكراً عبد الباسط بن حسن رئيس معهد العربي لحقوق الإنسان
.بن حسن: شكراً