يفترض أن يعود المسلسل البريطاني المثير للجدل " Black Mirror" إلى الشاشة قريباً ، في موسم ثالث بثلاث حلقات ، كما درجت عليه العادة في الموسمين ؛ الأول (2011) و الثاني (2013) . عبّر كاتبه البريطاني " تشارلي بروكر" بمختلف أساليب السخريّة عن واقعٍ تسوده قيم سوداء من التكنولوجيا و المعلوماتيّة ، حيث تقلّ قدرة الإنسان على التواصل البشري، و تتقلّص مقدرته على خلق حالة اجتماعيّة ناجحة مع وسطه .
المسلسل ينتمي في بعض جوانبه إلى الكوميديا السوداء ، حيث لا اعتبار في تصوره في عالم الغد المتسارع على ضوء التطور المهول للتقنيّة ، لأدوات الإنسان البسيطة في تسيير حياته، إذّ أن الدينامو الحي الذي يشتغل عليه الفرد في استعادة ذكرياته و أحلامه هي "الذاكرة"، أصبحت مرتبطة بشريحة صغيرة على هيئة النمش الصغير، تعمل على تدوير أحداث يومه المنقضي أو ذكرياته السابقة، و بالتالي تتبدّد القوة التقليديّة في استعادة مخزون الذكريات بشكل بدائي، قياساً بما سوف يصله الإنسان من كشوفات تكنولوجيّة، تُفقده التلقائيّة و الحميميّة في قيافة "تراجيع" مقتضبة لما مرّ به من خَبَرات و حوادث و حكايات .
في حلقة " be right back " من "الموسم الثاني " ، يقدّم " تشارلي بروكر" نمطاً حاداً لتعويض الفقد، حيت يتاح لامرأة جميلة محبة لزوجها كثيراً ، أن تعوض رحيله عن الحياة بتطبيق متطوّر جداً، يستعيد كل الكلام الذي نطق به هذا الزوج طيلة حياته، و يعمل الكومبيوتر على قوّلبته من جديد بحيث يمكّن الزوجة من التعاطي صوتياً عبر غرف الدردشة الصوتيّة من أجل التفاعل معهُ، و سرد حياتها و ما جرى معها في يومها مع زوجها (الإلكتروني)، ثم يبلغُ المدى الافتراضي مداهُ حين تتمكن من زرع هذا التطبيق في جسد مطاطي يحمل مطابقة شديدة لفقيدها، بيّد أنها تشعر و مع الوقت و الاستعمال اليومي أنه عاجز عن تلافي شعورها، و أنّه في آخر الأمر مجرد بشري ميكانيكي مطوّر جداً وفق معادلات رقميّة باهظة التعقيد و الدهشة، تسبغ عليه هالة كبرى من التصنّع و تصدير المواقف الجاهزة و الفوريّة، بالرغم من قدرة هذا التطبيق على استشّفاء حرارة الإنسان المحب في استقطاب الكمون الجنسي و الأدبي ، غير أن هنالك عوز إنساني يعزّز جماليّة الإنسان الطبيعي في استدراك ذلك "النّقص" من الأشياء و الإنجازات و المواقف، يؤكد لهذه الزوجة الثكلى أن الطبيعة بكل نقائصها المختلفة هي أكثر شفافيّة و لذّة من تمام المادة و كمال الحقول الإلكترونيّة .
و في حلقة " White Bear " تتعرّض شابة إلى فقدان للذاكرة بمجرد أن تصحوّ صباحاً، و تجد أن حياتها قد تغيّرت ، و أنها أصبحت في خطر محدق بسبب عصابة ترغب في قتلها ، لكن المفاجئ في الموضوع أن النّاس الذي يحيطون بها، يحملون هواتف ذكيّة، و يعملون على تصوير مجريات المطاردة ، و كأنّهم ليسوا جزءًا من الحياة، بقدر ما هم على جانبها يتابعون عرضاً مشوّقاً ينتمي لتلفزيون الواقع ..
تبدو هذه الحلقة شديدة التعنيف لكل من شدّتهم أدوات التكنولوجيا إليها، و أفقدتهم السيطرة على نهم المعاينة الدائمة لأي حدث حياتي مهما اختلفت أهميته، كان يمكن أن يصبح أجمل فيما لو تمّ تسليمه إلى ذاكرة أمينة ، أو الاكتفاء بتجميد تلك اللحظات الأغرب أو الأجمل في حيوات الناس في صور مستقلّة الحركة عن العابر .
و يبلغ التصوّر درجةً عالية من الغرابة والجودة في حلقة " Million Merits15 "، حين تصبح خدمات الحياة و أدوات الترفيه، تُمنح بعدد "الوحدات" التي نحققها بواسطة " الدراجة" الرياضيّة، و كلما قطعنا شوطاً كبيراً ؛ حصلنا على خدمات أكثر و العكس، حتّى "الحب" و "الثورة" كأحد مقترحات الطبيعة، يتعرّضان في هذه الحلقة إلى الاغتيال و التعليب عن طريق تحويلهما من مادة إنسانيّة فردية و جماعيّة، إلى أداة لصناعة "الشو" عبر صياغة ذلك و تطويقه، ثم اختزاله في "تطبيق" مسجّى على أيقونة، نحصل عليه أيضاً بواسطة قطعنا للأميال على الدراجة الرياضيّة .
في الحلقة الأولى "White Christmas " ( ديسمبر 2014) من الموسم الثالث المزمع أن يكتمل بحلقتين حسب ما وعد به مدير "القناة الرابعة " البريطانيّة خلال الأشهر القادمة من هذا العام، يبدو "تشارلي" مستعجلاً على طروحات أكثر تعقيداً و عمقاً في الحلقة الواحدة، فقد نشر ثلاث قصص تلعب التكنولوجيا دوراً بارزاً في صهر حياة ثلاثة أشخاص، اعتقدوا أن التمايز بين قدرتهم على قيادة أمورهم بأنفسهم و فشلهم في إنجاح ذلك على أرض الواقع، يمكن جسّر هوّته بواسطة أطراف أخرى تلعب دوراً نصّياً بارعاً عبر وسائط متطوّرة .
اللافت و الساخر في الموضوع، أن هنالك أداة مضافة إلى حياتنا تتيح لنا حظر الشخص غير المرغوب فيه، بحيث يتحوّل إلى مسخٍ شفّافٍ؛ صوتاً و صورةً على شاكلة "التشفير" التقليدي في البث التماثلي، و لا ينتهي ذلك الحظر إلا بطريقتين: إزالة هذا الإجراء العقابي من قبل مستخدمه تجاه الآخر عبّر التسامح الإنساني، أو وفاة أحد الطرفين بناءً على مواقيت القدر !
المسلسل برمّته عبارة عن قيادة شخصيّة لكل خيارتنا ، و حالة من الصراع البارد مع اللـه بشتّى طرق الاحتراب اليدوي بين المادة و اللاهوت، و لكن ذلك ينطوي في تفاصيله على لسعة بالغة الحدّة و الانتقاد، إذّ أننا نستطلع رسالة في كل حلقة، تبرز أن "الخلايا الذكية" في التكنولوجيا، بإمكانها أن تصرف المشاعر و التلقائيّة و الصدفة و النسيان من الخدمة ، و تعيد تمجيّز الحياة و تحيين الواقع رغماً عنّا .
لا غرو في أن تلك الأدوات تساعد على توسيع المتاح و السانح أكثر، لكنها في الوقت ذاته تدمّر التواصل بين البشر استناداً على أصول مرنة ، تصبح بموجب تصوّر هذا الكاتب البريطاني السّاخر مجرد وسائل مهترئة في عالم الغد الذي سوف يتأسّى كثيراً بمقولة المفكر الإيراني "داريوشْ شايغان "، في أحد ألمع كتبه " ماذا نعني بالثورة الدينيّة " (2004): "الإنسان مجرد شجرة صغيرة جداً في كون لا متناهي من المخلوقات"، و لكن مع طرح "تشارلي بروكر" في هذا المسلسل المثير للجدل، يصبح هذا الإنسان الذي تكلم عنه "داريوش" بالكثير من العمق ؛ ليس إلا تطبيقاً صغيراً وسط حقل إلكتروني - غائم الحدود - من الأفكار و الأدوات و الوسائط و الوسائل .