كل شيء يفرّق بينهما: هو عبد أسود مولود في جبال السودان التحق بثورة المهدي ضد السلطة المصرية-البريطانية في نهاية القرن التاسع عشر وهي راهبة بيضاء يونانية الأصل اسكندرانية النشأة، ذهبت إلى الخرطوم في بعثة تنصيرية من أجل "خدمة الرب في بلاد البرابرة" (128)، على حد تعبيرها. كل شيء يباعد بينهما بما في ذلك أفكارهما المسبقة أحدهما على "جنس" الآخر، المطبوعة بطابع العنصرية، فثيودورا ليس لها مواقف تقدّمية سابقة لأوانها؛ هي راهبة عنصرية تمقت السود ولا تختلط بهم إلا من أجل منالة الحسنات. وبخيت منديل كان "قبل أن تغزوه" ثيودورا "يعجب كيف شوّه الله هؤلاء الناس": "أجسادهم مسلوخة تكسوها حُمرة" (203).
تشكّل قصة الغرام المستحيل هذه قلب رواية حمّور زيادة الثانية، الحاصلة على جائزة نجيب محفوظ التي تمنحها دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة، والمُدْرجة على قائمة البوكر القصيرة لعام 2015. "شوق الدرويش" رواية عن الحب والعشق والكفاح والإيمان؛ تبدأ بخروج بخيت منديل من السجن سنة 1898 –عام سقوط أم درمان في يد القوات المصرية البريطانية- بعد سبع سنوات أسر. ولكن بخيت، الذي أتته "الحرية على بوارج الغزاة وخيوله" (10) لا يفكّر إلا في الثأر من قتلة معبودته ومعاونيهم، وينجح بالفعل في الفتك بعدد منهم، قبل أن يعود السرد إلى الوراء في فلاش باكات متشابكة تروي الأحداث من وجهة نظر الشخصيات الرئيسية الثلاثة –بخيت وثيودورا وحسن الجريفاوي، الجندي في جيش المهدي. لكل شخصية لغة متميّزة يستعين زيادة لصقلها بالتناصّ مع نصوص تعبّر عن خلفيتها الثقافية وهمومها الخاصة. فبخيت وحسن تتخلّل سردهما آيات قرآنية وأشعار صوفية، أما ثيودورا فيختلط صوتها بأجزاء من الأسفار.
يتابع القاريء من خلال هذه الفلاش باكات رحلة ثيودورا من السويس إلى الخرطوم، ثم أسرها على يد الشيخ إبراهيم ود الشوّاك؛ كما يتعرّف على تجربة بخيت في الأسر وفي الفتوحات المهدية، ثمّ على حركة المهدي من خلال نشأة حسن الدينية والصوفية واندماجه في القتال. وتجتمع خيوط الحبكة بلقاء حسن بخيت؛ ورغم أنّه لقاء الأعداء، يرى بخيت "ذات الحيرة، وذات الشوق" (97) في عيني حسن الذي قَبَض عليه ليأثر لمقتل إبراهيم ود الشواك.
الحب في "شوق الدرويش" ليس فقط حب بخيت لثيودورا –ذلك الحب المستحيل بين عبد أسود وراهبة بيضاء، ولكنه أيضا عشق يوسف أفندي سعيد، سيد بخيت المصري، لزوجته نفيسة فودة المتعالية، وأهم من ذلك، هو حب الحسن الجريفاوي لزوجته فاطمة، حب لا ينغّص عنفوانه شيء، لا الزواج، ولا رغبتهما غير المكتملة في الإنجاب، ولا حتى قرار حسن تركها للالتحاق بجيش المهدي، والانغماس في عشق من نوع آخر، عشق "مهدي الله" المقترن بمظاهر صوفية ودروشة. ومن خلال قصة حسن يلقي الراوي الضوء على محطات قاتمة من الثورة المهدية ضد الدولة المصرية التركية. الأجزاء المروية من وجهة نظر حسن تؤكّد قوة إيمانه وعزمه التضحية من أجل إنهاء الظلم وإرساء عدالة يراها متمثّلة في شخص المهدي؛ لكنها تكشف أيضا عن شكّ ينتابه في الجهاد "من أجل نشر نور الله في الأرض بعد إظلامها" (ص312)، شكٍّ تسلّل إلى روحه نتيجة عنف غير ضروري مارسه أحيانا كثيرة، كيوم الهجوم على مدينة المتمة التي رفض أهلها إخلاءها لراحة جنود المهدي (448)، فاتّسع عنفهم لينال، إلى جانب "الكفّار" المحتلين، كلا من يتردّد في مساندتهم. وحسن الجريفاوي غير قادر على تجاهل ما تراه عيناه، في المتمة وفي غيرها من المدن، فأم درمان تعيش تحت حكم خلفاء المهدي في "الظلم كما كرهه في كركوج" على يد السلطات التركية؛ لكنه"إن شكّ في عدالة ما يرى فقد كفر"، فيقوّي قلبه بالآيات "إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بُنْيَان مرصوص"(99).
رواية أفعال جنود المهدي من وجهة نظر أحدهم ترافقها مشاهد عديدة تُلقي الضوء على بشاعات ترتكبها قواته، فيعيش القاريء سقوط الخرطوم في أيدي "الدراويش" سنة 1885 مع ثيودورا من داخل دير يقتحمه هؤلاء فيذبحون راهبا أعزل وخادمة سودانية رغم ترحيبها بهم (250-251) ويأسرون الراهبات لبيعهنّ في سوق الجواري أو توزيعهنّ على "الأمراء والأثرياء" (247). فتجد ثيودورا نفسها في بيت تاجر بحركة المهدي في آخر لحظة، الشيخ إبراهيم ود الشوّاك. ترمز هذه الشخصية إلى فئات ساندت المهدي بدافع الانتهازية تتميّز بأخلاق متدنيّة، بعيدة كل البعد عن هالة القداسة التي تحيط شخصية المهدي وخلفاءه وأعوانه.
كما يطرح زيادة أسئلة عما يصاحب أعدل القضايا من عنف وممارسات مشينة، وهو يذكر حركة مقاومة احتلال الانجليز مدينة الاسكندرية سنة 1882، إذ "قتل المصريون المسلمون الناس في الشوارع"، على حد تعبير الراهبة (162)، في فورة غضب معادية للجاليات الأجنبية دفّعتها ثمن سياسة جيوش الاستعمار. لا تفرض "شوق الدرويش" إجابات حاسمة، إذ أنها رواية لا تحمل في المقام الأول رسالة تشكيك في عدالة قضايا المقهورين، بقدر ما تسعى إلى طرح أسئلة عن كيفية التأريخ لحركات المقاومة للاحتلال. إنها رواية تفتح الطريق لتأريخ بديل يتجاوز تبجيل رموز هذه الحركات وتقديس أفعالها، تاريخٍ لا يُرَوى من وجهة نظر النخب المشاركة فيها، بل من وجهة نظر المقهورين، لذا تعطي العبد الأسود صوتا عاليا، وتفتح مساحة لسماع صوت مقهورين آخرين، مثل ثيودورا، قلما تم الانتباه إلى مأساتهم، لمجرّد أنهم كانوا واقفين على الجانب الآخر.
كلاهما ضحية هذا العنف المُفرط، ككلّ من انحشر في عجلة التاريخ الجبّارة فابتلعته: هذا هو ما يجمع بخيت منديل وثيودورا/حواء، رغم كل ما يفرّقهما. مثل بخيت، مرّت ثيودرا بتجربة أسر وقاومت محاولات الشيخ إبراهيم ليحوّل الراهبة آسرة الجمال إلى جارية في خدمته. ومثل بخيت الموسوم جسده بآثار الكرباج، أصبح جسد ثيودورا مطبوعا بآثار عنف سيّدها؛ كما أصبحت مثله الدليل الحيّ على استحالة إخضاع روح الإنسان، ومنع قلب من التحليق في سماوات الإيمان والشوق حتى حين يكون مُكبّلا وملطّخا بالدم والمَنيّ. فرغم الإذلال الذي عانه بخيت على يد سيد انجليزي أجبره على ممارسة الجنس معه، ثم على يد بنت سيده المصري التي تحرّشت به، ظلّت روحه متمرّدة؛ كما ظلّت ثيودورا امرأة حرّة رغم إذلال إبراهيم لجسدها. وإذا كان ضحايا هذا العنف المجنون من مختلف الأجناس، فكذلك ممارسوه، من الانجليزي إلى التاجر السوداني المنتمي إلى معسكر المهدي، مرورا ببنت مصرية تركية الأصل.
لكن رغم توأمة الروح والألم لا يجمّع القدر بين بخيت وثيودورا، إذ أن ثيودورا لا تستطيع أن تقبل اقتراح بخيت بالزواج، ليس فقط بسبب العنف الجنسي الذي تعرّضت له، ولكن أيضا لأنها لا تتخيّل نفسها "في حضن عبد من الدراويش" (423) كما تقول في مذكّراتها التي تصدم بخيت. لا نهاية سعيدة ممكنة لهذه القصة، إذا، ولا سذاجة في سردها، إذ يؤكد اختلاف اللغات المستخدمة من بخيت وثيودورا على فجوة بينهما لا يمكن ردمها. هكذا تقرّ الرواية بالفروقات الثقافية دون أن تقوم بتنميطها، محتفية في الآن نفسه بمثل هذا الحب على أنه درجة سامية من العشق، كما تشير إلى ذلك مقولة لابن عربي تستهلّ النص: "كل شوق يسكن باللقاء، لا يعوّل عليه"، وأخرى تختمه "والعشق داء في القلوب دفين". هذه المقولة الأخيرة تصوّر الحب على أنه قد يودي بصاحبه إلى الهلاك، مثل الإيمان تماما، أو على الأقل ذلك الإيمان الأقرب إلى وله يُعمي عن كل شيء عداه. وقد تكون رسالة الرواية الأهم، تلك الجملة التي ينطق بها ولي من أولياء الله، عبد الله المجذوب، موجّها كلامه لحسن الجريفاوي: "احذر الإيمان يا ولدي، فمنه ما يُهلك كاكفر" (117).