في قلب بحر الرمال العظيم، في الجانب المصري من الصحراء الكبرى، وبمنطقة ما على تخوم ليبيا والسودان، حطّ ركبنا المكون من ثلاث سيارات دفع رباعي من طراز "تويوتا لاندكروزر". يُفضلها السائقون البدو في ارتياد الرمال؛ هكذا قال لي سائقنا ودليلنا "طلعت" من بدو مطروح ويتخذ من واحة "سيوة" قاعدة لنشاطاته في سياحة السفاري و"الأوف رود". كانت السيارة تصعد كثباناً يصل ارتفاعها لمائة متراً والمحرك يزمجر كأسد غاضب، ثم تهبطها انزلاقاً بالسرعة البطيئة في صمت والمحرك شبه مُطفأ.
توقفنا على أحد تلك الكثبان العالية، ودعانا طلعت وبقية الأدلّاء لتجربة القفز في بحر الرمال. هي تجربة أشبه بالطيران، هكذا قالوا. وقفت ومعي الأصدقاء أعلى التلة، ثم قذفنا بأنفسنا على المنحدر الحاد لنتدحرج بسرعة رهيبة متقلبين في الرمال الناعمة، ليتخذ الجسد في رحلة انحداره أوضاعاً عشوائية حتى تنتهي التحليقة وتحط بسلام عند سفح الكثب شاعراً بسعادة قصوى حد الضحك من نشوة السباحة في بحر الرمال. لاحظتُ أن حبيبات الرمل الناعمة تتراوح ألوانها بين الأبيض والأحمر ودرجات البني وإن بدت الرمال في مجملها وبالعين المجردة رمالاً بيضاء.
تتماوج الكثبان البيضاء صعوداً وهبوطاً. ونصعد ونهبط معها في التويوتا. تلتحم زرقة السماء بأبيض الرمال المتدرج نحو الصفرة الذهبية تحت شمس الشتاء الحانية بمعايير الصحراء. وسرعان ما أخذت الشمس تغوص في الأفق الغربي، وليل فبراير (شباط) القريب يهبط تدريجياً، ونحن نبحر بالعربات في الأمواج اللانهائية. من بعيد، نبدو كثلاث نقاط زرقاء وخضراء وبرتقالية (وهي ألوان العربات) في الفضاء الأبيض وقد أكسبه الغروب حمرته الشفيفة.
عندما حلّ الظلام كنا قد بلغنا ينبوعاً للماء الساخن. فتوقفت العربات. ارتدينا ملابس العوم، ونزلنا في العين الضحلة والماء الساخن يصل حتى خصورنا. كان ذلك الحمام الدافئ في قلب الصحراء نهاية رائعة ليوم طويل من الخوض في الرمال. اغتسلنا، تحت ضوء قمر كبير، ثم جلسنا في الماء الساخن، نتأمل في صمت مع تبادل كلمات قليلة من آن لآخر، حتى تبدد الصمت بوصول حافلة صحراوية كبيرة تضم مجموعةً من المغامرين الفرنسيين كانوا قادمين من صحراء السودان. أحدث وصولهم جلبةً كبيرة وهرجاً باللغة الفرنسية احتل الفضاء. قفزوا جميعا بملابسهم في الماء الساخن...
كنت غارقاً في محاولات التأقلم مع أول ضجيج بشري يصدم أذني بعد أيام من الهدوء لا نسمع فيها سوى طنين المحركات، وإذ بفتاة من المجموعة الفرنسية لا تتجاوز العشرين عاماً قد حطت في جلستها بالماء إلى جواري. كان شعرها الأحمر مجدولاً في ضفائر رفيعة جداً على الطريقة الأفريقية وترتدي ملابساً على طراز هيبيّي السبعينات وقد ابتلت بالكامل. ذراعاها النحيفان كانا مثقلين بالكثير من الأساور المزخرفة التي تنتمي لثقافات بدائية متنوعة. وقد أكسب ضوء القمر الشفيف كل ذلك غلالة فضية تشبه الظلال.
بدأت حديثها معي بالإنكليزية، وعرفتني باسمها، وسألتني عن اسمي وماذا أفعل، وقد أدهشها ردي عليها بلغتها وجعلها تبتسم، فبدت أسنانها ناصعةً كالفوسفور في الضوء الخافت. سألتها بدوري ماذا تعمل. أجابت: "Je voyage " أي أنا أسافر. سرحت مع تلك المهنة الساحرة التي تمتهنها الصهباء المُتأفرقة، مهنة السفر... وامتدت بيننا فترة من الصمت كانت تتلألأ فيها شعلات السجائر الدائرة بين حلقة المستحمين. الجلبة قد خفتت كثيراً، واستسلم الجميع لإيقاع الاسترخاء، وثمة همهمات هنا وهناك تتقاطع مع قرقعات الماء. انتبهت لقدمها الحافية تطأ قدمي برفق تحت المياه الدافئة...