في مثل هذه الأيام تعود بالإنسان الذاكرة إلى أيام من عام 1948، عام النكبة، عام التشريد والضياع. وتعود صور الأحداث وذكراها تشغل الذاكرة وتغص حزنا وألماً، فقد مضت أربعة وستون عاماً، إلاّ إنّ الأمل لا يزال يداعب النفس بأن الغد سيكون أفضل. ولما كنت قد عاصرت تلك المرحلة، وعايشتها، فقد رأيت أن أدوِّنها لأنقل صورة تلك الأحداث إلى القارئ، الذي لم يشهدها.
ولدتُ في أواخر 1937 في البيت الذي بناهُ جدّي سعيد أحمد الحسيني، وكان مكوناً من طابقين أحدهما لسكنه وولده إبراهيم، والدي؛ والآخر لسكن ولده الثاني رجائي، عمّي. وفي الوقت الذي انتقل فيه العم رجائي إلى العمل في المكتب العربي بلندن، أحد فروع المكاتب العربية التي أنشأها موسى العلمي، أُنشئت جماعة "الإخوان المسلمين" في القدس، وكانت بحاجة إلى مقر فوجدت ضالتها في بيت عمّي، وخصوصاً أنّ للبيت حديقة واسعة، فاستأجرته الجماعة سنة 1946 على ما أذكر، وكانت تستخدم الحديقة لنشاطاتها الثقافيه والرياضية، وكانت تستقدم الأدباء لإلقاء كلمات في أمسيات الصيف، وكانت أيضاً تستضيف مشاهير قرّاء القرآن الكريم من مصر لتلاوته، وخصوصاً في شهر رمضان المبارك.
ومما أتذكره عن تلك المرحلة مباراة في الملاكمة، جرت بين بطل فلسطين أديب الدسوقي وبطل الجيش البريطاني، واسمه "فيتز"، وكنّا بالطبع نشجِّع الدسوقي. وأذكر أيضاً أنّه ذات يوم عصراً، توافد عدد كبير من الشباب إلى مقر الجماعة، وبدأوا بإطلاق الهتافات والأهازيج الوطنية، ابتهاجاً بهروب الحاج أمين الحسيني من فرنسا، وحلوله في مصر في ضيافة ملكها فاروق الأول، وعند حلول الظلام شرعوا في إطلاق الرصاص في الهواء. ولم تمضِ إلاّ دقائق حتّى أحاطت قوات شرطة الانتداب البريطاني بالبيت، فأُطفئت الأنوار الكهربائية، ليتمكن الشباب من التسلل والتفرق. وقد حدثني واحد ممن عاصروا الحادثة، وهو لا يزال على قيد الحياة، أنّ المجاهد بهجت أبو غربية ناداه في تلك الليلة قائلاً: "خذ قطعة السلاح هذه وخبِّئها في ملابسك، واذهب إلى بيتك على الفور"، وقد انتهى الحادث بسلام، ولم تتخذ السلطات أي إجراء، على ما أعلم.
ولمّا بلغتُ السادسة من عمري أُصبت بالتهاب رئوي حادّ، ولم تكن المضادات الحيوية قد عرفت في فلسطين بعد، وبلغت حياتي مرحلة الخطر، وأذكر أنني راجعت الدكتور فارس، كان مختصاً في الأمراض الصدرية، لكن لا أذكر أين كانت تقع عيادته. ولمّا حلّ الشتاء، رأت العائلة أنّ من الأفضل قضاءه في البيّارة، التي اشتراها الجد سعيد وعهد إلى والدي بتطويرها وزراعتها، وكانت مساحتها مئة دونم، وهي مساحة متواضعة إذا ما قورنت مع بيّارة آل التاجي المجاورة لبيّارتنا، والتي تبلغ 2000 دونم.
تقع البيّارة في قرية وادي حنين التابعة لقضاء الرملة، ويبدو أنّ اليهود تمكنوا من شراء معظم أراضي تلك المنطقة، وهي من أخصب أراضي فلسطين، فكانت وادي حنين نقطة عربية في بحر يهودي. تقع وادي حنين إلى الغرب من الرملة، والى الجنوب من صرفند الخراب، وتجاورها مستعمرة نيس زيونا، ولا تبعد كثيراً من المستعمرة اليهودية رحبوت. وقد بلغ عدد سكانها سنة 1945، 1630 عربياً. وكانت تُزرع بالحمضيات على اختلاف أنواعها.
كانت الحياة رائعة بالنسبة لي في البيارة. وذات يوم أصبت بجرح في صدغي الأيسر، وكان الوالد في عمله بالقدس، واستوجب الأمر نقلي إلى عيادة طبيب يهودي في رحبوت المجاورة، ونقلني البيّاري المرحوم الحاج عبد الناصر على عربة يجرها حصانه، حيث خاط الطبيب الجرح وقدّم لي العلاج المناسب، وطبعاً كانت الرحلة في العربة ممتعة جداً. وكان في البيّارة بناء مستطيل الشكل يطلق عليه اسم البايكة، وكان يستعمل لوضع البرتقال المعدّ للتصدير، وكان العمال والعاملات يأتون من جنوب فلسطين، ومن منطقة غزة، على ما أعتقد، لقطف البرتقال ولفِّه بورق من نوع معين، يحفظه في رحلته من البيّارة إلى يافا لينقل بواسطة البواخر إلى أسواق أوروبا، وربما كانت زوجة البياري الثانية المدعوّة بالمصرية من بين هؤلاء العمال الذين كانوا أشبه بعمال التراحيل في مصر. وقد احتفظ الوالد بمفتاح البايكة في صندوق خاص كُتب عليه "وادي حنين مفتاح البايكة ردّ الله غربتها 1947"، ولا زلت أحتفظ بالمفتاح المذكور حتى يومنا هذا.
عدنا إلى القدس يعد انقضاء فصل الشتاء، وكانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي أزور فيها البيّارة، بينما كان الوالد يذهب كل يوم خميس، بعد انقضاء ساعات عمله، حيث كان مديراً عاماً للأوقاف الإسلامية في القدس، ليشرف على حفر البئر الارتوازي، الذي كان يزود البيّارة بالماء العذب. وأذكر أنّه في الأيّام الأخيرة للوجود العربي في البيّارة تدفق الماء من البئر عذباً وفيراً. وبعد كارثة 1967، ذهبت والوالد لزيارة البيّارة وتفقد أوضاعها، والمؤلم أن الوالد الذي اعتاد على الذهاب إليها أسبوعياً، لم يستطع تحديد مكانها إلاّ بواسطة بناية "تيجارت" التي بُنيت بالقرب من البيّارة، فقد تبدلت المعالم واختلفت الطرق.
عندما بلغت الأحوال في أوائل سنة 1948 وضعاً حرجاً، بعث البياري برسالة إلى الوالد يطلب فيها تزويده ببندقية للدفاع عن نفسه وعن البيّارة، فأرسل الوالد إلى العم رجائي، وكان في القاهرة، برسالة في البريد الذي كان لا يزال يعمل يقول فيها: "إنّ البيّاري يريد تدبير عروس له"، ولما كان البيّاري متزوجاً بزوجتين، فقد استهجنت عمتي عائشة ذلك الطلب، إذ إنها لم تفهم أنّ العروس تعني بندقية. وقد استشهد البيّاري الحاج عبد الناصر بعد مدة قصيرة من استلامه البندقية خلال اشتباك مع اليهود، فانتقلت عائلته إلى الرملة، وعند سقوط الرملة انتقلت إلى منطقة رام الله.
عدتُ إلى مدرستي "روضة المعارف الوطنية"، التي كان قد أنشأها المرحوم الشيخ محمد الصالح في أواخر العهد العثماني، وكانت في المقر الذي تتخذه المدرسة العمرية الآن. كانت المدرسة من أهم مدارس فلسطين، إذ استقدمت المعلمين من مصر ولبنان لتعليم طلابها، الذين توافدوا إليها من مختلف أرجاء البلاد، وكانوا يُقبلون في الجامعة الأمريكية من دون امتحان قبول. وقد تخرج من روضة المعارف نخبة من ألمع طلاب الوطن. انتقلت الروضة إلى حي باب الساهرة، واستأجرت بنايتين متجاورتين، الأولى للمرحوم اسحاق الشهابي، والد السيدة زليخا الشهابي، إحدى رائدات الحركة النسائية في فلسطين؛ والثانية لآل الدقاق. لا زلت أذكر من المعلمين في المدرسة الأستاذ جودت القباني والشيخ يوسف العلمي ووجدي الحسيني، والمعلمتين اللبنانيتين منيرة وبهية صفوري، اللواتي تعاقدت معهن المدرسة لتدريس الطلبة المبتدئين.
كان يوم 29/11/1947 يوماً عادياً بالنسبة إلي وأنا ابن العاشرة، فقد ذهبتُ إلى المدرسة في الصباح فوجدتُ طلاب الثانوي في حالة ثورة وهياج، وكان أحدهم يصرخ في وجه أحد المعلمين لماذا لم تعلمنا ضرب النار بدل الحساب والجغرافيا. كان ذلك اليوم يوم صدور قرار تقسيم فلسطين، الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة. تتابعت الأحداث وتطورت من التظاهرات والإضرابات إلى الاشتباكات المسلحة، ودأبت العصابات اليهودية-الصهيونية على إلقاء براميل تحمل المتفجرات على المناطق العربية المكتظة بالسكان، كباب العامود سوق البازار، بهدف إرهاب العرب وإلقاء الرعب في قلوبهم. وشرعت أيضاً هذه العصابات في نسف البيوت العربية، التي تقع على الحدود الفاصلة، كبيت المرحوم شكيب النشاشيبي في حي الشيخ جراح، والذي ظل أنقاضاً حتى يومنا هذا؛ وبيت المرحوم حسن نسيبة، الذي كان يقوم مكان محطة وقود ناصيف. وقد اضطر الشهيد عبد القادر الحسيني إلى الردّ عليهم بعدة عمليات مماثلة، استهدفت شارع بن يهودا وجريدة البالستاين بوست ومقر الوكالة اليهودية.
كانت القافلة التي تحمل البوتاس من البحر الميت تمر من طريق أريحا القدس، لتمر في شارع الزهراء الذي تقع المدرسة في جواره، فكان العرب يطلقون النار عليها، ويرد حراس القافلة بإطلاق النار من بنادقهم الرشاشة، فخشي مدير المدرسة أن يصاب أحد الطلاب جرّاء ذلك، فعطّل الدراسة إلى أن تهدأ الأحوال.
ذات يوم في أوائل 1948 أحاط ببيتنا، وفيه مقر جماعة الإخوان المسلمين، عدد من المسلحين، وأغلقوا الشوارع المؤدية إليه خوفاً من قيام اليهود بنسفه، إذ أُجريت في ذلك اليوم انتخابات اللجنة القومية، وهي التي أشرفت على الأمور الحياتية للسكان، كالصحة والحراسة والأمن وجمع الضرائب، وما إلى ذلك. وقد علمتُ أنّ الشيخ حسن أبو السعود وصل من القاهرة للإشراف على الانتخابات. ودققت في تاريخ الانتخابات، فعلمت أنّها أجريت في 26/01/1948. وشيئاً فشيئاً، تغير الوضع بالنسبة إلى مقر الإخوان المسلمين، وتحول إلى مقر عسكري للمناضلين من قوات الجهاد المقدس.
وذات يوم جاء إلى بيتنا عصراً، الصديق محمد الخطيب، وهو ابن الشيخ ضياء الدين الخطيب الكناني خطيب المسجد الأقصى، وكانت عائلة الخطيب تقيم في بيتها في حي الشيخ جراح قرب مقر الصليب الأحمر الآن. ولوقوع هذا البيت على خط النار وتكرر إطلاق النار على البيت من قبل القوات اليهودية، نزحت عائلة الخطيب إلى بيت أنسابهم من آل العفيفي المجاور لبيتنا، وقد أخبرني محمد أنّ عبد القادر الحسيني مطوقٌ في القسطل. كنت قد رأيت عبد القادر مرة واحدة قبل مدة، إذ جاء إلى مقر الإخوان المسلمين لأمر ما، وكان عدد كبير من المناضلين قد احتشدوا في حديقة البيت، ثم توقفت فجأة سيارتان ونزل من أحدهما رجل أقرب إلى القِصَرِ منه إلى الطول، ودفع أول رجل صادفه، ثم دخل إلى البيت مسرعاً، وتبعه عددٌ كبيرٌ من الرجال، وطبعاً لم أعلم سبب تجمهر المناضلين ولا سبب قدوم عبد القادر.
وبعد قليل ذهبت مع محمد الخطيب إلى بيت آل العفيفي، فوجدت الخال إبراهيم توفيق الحسيني وموسى العفيفي جالسيْن في الحديقة، وكان العشب الأخضر يغطي الأرض، فقد كانت تلك السنة سنة خير ومطر وفير، ثم جاء الخال عبد الله توفيق الحسيني، وألقى برشاشه الألماني من طراز "الشمايزر"، وهو يجهش بالبكاء قائلاً "لقد استشهد عبد القادر في القسطل". وأذكر أنه حين خروج جثمان الشهيد عبد القادر من بيت أخيه فريد موسى كاظم الحسيني، الواقع في شارع الزهراء، قام المناضلون بإطلاق آلاف الطلقات في الهواء تحية لقائدهم قبل السير بالجثمان للصلاة عليه، ودفنه في المسجد الأقصى إلى جوار أبيه.
ازدادت الأحوال حرجاً في الحي بعد استشهاد القائد عبد القادر، وأوشك على السقوط بيد الصهاينة وكان المبنى الذي تشغله الآن المدرسة المأمونية للبنات مقراً لقنصلية المملكة العربية السعودية، ومع بدء الاشتباكات جاءت القنصلية بعدد من الجنود لحمايتها، ووضعت مدفع رشاش من طراز برن على كل شرفة، ونصبت كشافات كهربائية لإضاءة المنطقة ليلاً لكشف وجود مسلحين من الأعداء، وكانت تطلق من حين لآخر صليات من مدافع البرن، لإرهاب الأعداء وتحذيرهم من محاولة اقتحام الحي. وكان القنصل السعودي هو الشيخ عبد العزيز الكحيمي، الذي أصبح بعد النكبة سفيراً للسعودية في الأردن. وظلت القوة السعودية مرابطة في القنصلية، حتى انتهاء الانتداب البريطاني في منتصف ليل 15 أيار 1948، ففي ذلك التاريخ أُغلقت القنصلية وانسحبت القوة معها.
وإزاء تدهور الوضع في الحي تقرر النزوح إلى داخل البلدة القديمة، وكان الحاج أمين قد طلب من الوالد العمل على إعداد بيته الواقع في البلدة القديمة وتنظيفه استعداداً لعودته إليه بعد انتهاء الانتداب البريطاني. ولما كان البيت يطل على البراق، وبعد أن تفاقمت اعتداءات اليهود على منطقته، انتقل الحاج أمين إلى السكن فيه سنة 1928، واتخذه سكناً له لمراقبة أعمال اليهود والعمل على منعها. وأذكر أن والدتي دأبت مدة أسبوع، على النزول يومياً إلى البيت مع مجموعة من النساء المساعدات، لإعداد البيت وتنظيفه من الأتربة والغبار بعد أن ظلّ مغلقاً ومهجوراً منذ أن غادره الحاج أمين سنة 1937 إلى لبنان.
وكان مبنى هذا البيت معروفاً بالمدرسة التنكزية، وهي إحدى المدارس العائدة إلى العهد المملوكي، التي بناها نائب الشام تنكز سنة 729، واستخدم البناء مدرسة إلى أن تحولت إلى محكمة شرعية في العهد العثماني، وظلت كذلك إلى عهد الانتداب البريطاني، حيث انتقلت المحكمة الشرعية إلى مكان آخر، وتحول المبنى إلى دار سكن لرئيس المجلس الإسلامي الأعلى، الحاج أمين الحسيني. استولى الإسرائيليون بعد حرب 1967 على المدرسة بحجة أنّ نوافذها تطل على ساحة البراق وحارة اليهود.
المهم أنّه تقرر أن نقيم في المدرسة التنكزية إلى أن ينجلي الوضع في باب الساهرة، وفي صباح يوم 14 أيار 1948 غادرت أنا ووالدتي بيتنا، ولا أذكر إن كان معنا أحد آخر، وسرنا إلى البلدة القديمة عن طريق المدرسه الرشيدية، وقرب مبنى البريد الحالي صادفنا الدكتور موسى عبد الله الحسيني، الذي ساعدنا على الوصول إلى باب الساهرة، ودخول البلدة القديمة من الباب الجانبي الذي يطل على جهة الشرق، فتجنبنا بذلك الباب الرئيسي، حيث كان اليهود يطلقون النار على المارة من عمارة النوتردام. استطعنا دخول البلدة القديمة بسلام، ولسبب لا أذكره توجهنا إلى "دار البيرق"، وهي دار مكونة من عدة بنايات، أوقفها المرحوم السيد عبد اللطيف الحسيني في أواسط محرم 1180 هـ، الموافق لأواخر حزيران 1766 م، ثم استخدم جزء منها للسكن، وجزء آخر للاحتفال ببيرق النبي موسى عليه السلام خلال احتفالات موسم النبي موسى، حين يزف منها البيرق بحضور كبار رجال العائلات المقدسية وموظفي الحكومة وجمهور المشاركين من مدن نابلس والخليل وغيرها، في احتفال ضخم من الدار إلى الحرم الشريف ومن ثم إلى مقام النبي موسى.
توجهت والوالدة إلى دار المرحوم حقي الحسيني في داخل بناية البيرقدار، وهو أحد أعمام الوالدة، واستقبلتنا عائلة العم حقي بالترحيب والإكرام. وإمعاناً في الترحاب، أرسلت امرأة العم حقي من يشتري علبة مربى لطعام العشاء والفطور. أمضينا ليلتنا الأولى في بيت العم حقي، وأذكر أن كريمته السيدة هند حقي الحسيني قالت سنستيقظ غداً- أي في صباح الخامس عشر من أيار- على هدير الدبابات وأصوات المدافع ودوي الرصاص. وفي الصباح استيقظنا على هدوء غريب يلف القدس فلا صوت رصاص ولا دوي مدافع، وأذكر أنه كان يوماً قائظاً شديد الحرارة. ولعل سبب الصمت والهدوء الذي ساد أجواء القدس أن القوات الأردنية، التي كان من المفروض أن تدخل القدس في صباح الخامس عشر من أيار تأخرت إلى الثامن عشر منه، وقيل في تقليل ذلك التأخير الشيء الكثير، أقله رغبة الجنرال جلوب باشا في إعطاء الأعداء فرصة لاحتلال ما تبقى من أحياء القدس العربية. وقد أصدر أحد قادة جيش الإنقاذ على ما أذكر، أمراً إلى القوات العربية كافة بالانسحاب إلى داخل السور، وكان الأمر سينفذ لولا المرحوم بهجت أبو غربية، قائد قوات الجهاد المقدس، الذي رفض تنفيذ الأمر، واحتفظت قواته بمواقعها وظل الحي عربياً.
انتقلنا إلى مبنى المدرسة التنكزية ضحى ذلك اليوم، ووجدنا جدتي لأمي وولديها إبراهيم وعبد الله قد سبقونا إليه. كان البيت واسعاً يضم عدداً من الغرف، يكاد يكون خالياً من الأثاث، ولم يكن مزوداً لا بالكهرباء ولا بالماء الجاري، وقد استخدمنا مصابيح الكاز للإنارة، وكان أحد السقاة يزودنا بالماء من آبار الحرم بواسطة قربة من جلد الغنم يحملها على ظهره فنشرب منها ونغسل الأواني ونغتسل. ولا أذكر أين كنا ننام، ولعلنا نمنا على الأرض نظراً إلى عدم وجود الأسِرَّة. وكانت معركة الحي اليهودي على أشدها، فقد حاصرت قوات فرقة التدمير العربية التابعة لقوات الجهاد المقدس الحي اليهودي. وقد شاهدتُ بعيني رجال فرقة التدمير يحملون المتفجرات داخل صفائح على ظهورهم وينسفون البيوت غرفة غرفة. وتم استسلام الحي اليهودي إلى القائد عبد الله التل في 28/05/1948.
وقد أصيب في معارك الحي اليهودي المجاهد صبحي عليان أبو غربية، شقيق بهجت أبو غربية، بجرح بليغ في رأسه وظل يعاني من جراحه، ففقد الذاكرة وأصيب بعجز دائم إلا إنه لم يمت، ولدى اندلاع حرب 1967، وعلمه أن الإسرائيليين يهاجمون القدس، حمل ما كان لديه من سلاح وانطلق ليرد الغزاة، فاستشهد ولم يعثر على جثمانه.
شرع اليهود في ليلة 16 تموز 1948 في قصف الحرم الشريف والمناطق المحيطة به، ابتداء من الساعة الثامنة مساءً حتى الرابعة من صباح اليوم التالي بمختلف أنواع الأسلحة، من مدافع الهاون وراجمات الألغام وكل ما كان بحوزتهم من سلاح، فاضطررنا إلى النزول إلى الطابق الأسفل والاحتماء به من ضراوة النيران، وقد انضم إلينا عدد من السكان المجاورين، ولا أذكر إن كنا قد نمنا تلك الليلة أم لا. وأذكر أنه عندما توقف القصف ومع آذان الفجر، تسلل عدد من حرس الحرم إلى الخارج للاطمئنان على مسجد الصخرة المشرفة وسمعت صياحهم "سليمة سليمة"، أي أن القبة والمسجد لم يتضررا من القصف.
كان يقيم آنذاك في القسم الأرضي لمبنى التنكزية رجل كان يعمل شرطياً في شرطة فلسطين، وعند اندلاع الاشتباكات جمع ما استطاع جمعه من سلاح وانضم إلى حرس الحرم، وكان اسمه الشيخ راشد ولا أذكر بقية الاسم، وكان يقيم مع عائلته في المبنى وظل فيه بعد أن عدنا إلى بيتنا، ولعل الإسرائيليين أخرجوه من بيته بعد احتلالهم القدس سنة 1967.
وكانت الزاوية الفخرية، سكن آل أبو السعود، مقراً للمقاومة لمواجهتها الحي اليهودي ومركزاً لاحتشاد المناضلين، الذين كانوا يتبادلون القنص مع الحي اليهودي، واستشهد جراء ذلك المرحوم فخري أبو السعود، كما قتلت زوجة يعقوب أبو السعود، وكانت مصرية الجنسية، وهي تجمع الغسيل فوق سطح بيتها. كما أذكر أن رجلاً من سكان حي الأفارقة الواقع قبالة دار المجلس الإسلامي الأعلى، وكنا نشتري منه الفستق المحمص، أصابته شظية قنبلة في بطنه فقتلته في الحال، ولا أزال أذكر زوجته وهي تولول لمنظره وهو قتيل.
وكان من أساليب اليهود في إرهاب العرب إرسال سيارات بعد ملئها بالمتفجرات وتفجير البيوت العربية بواسطتها، وكنا نراقب السيارات التي تقف قرب البيوت القريبة منا. وذات يوم أقبلت سيارة سوداء مسرعة ووقفت قرب بيت المرحوم سليم نسيبة، الذي كان يسكنه بعض أقاربنا، ونزل منها رجل يحمل صناديق ويقرع بابها ويدخل الصناديق داخل البيت ويجري ذلك بسرعة غريبة، ثم يركب السيارة ويختفي بها، وما هي إلا لحظات إلا وسيارات الشرطة البريطانية تداهم المكان، وطبعاً لا تجد للسيارة أي أثر، ولما سألت فيما بعد قيل لي إن الرجل كان القائد إبراهيم أبو دية، وكان يأتي بالسلاح المهرب ويخزنه استعداداً للمعركة القادمة.
بعد استشهاد عبد القادر الحسيني، وحرصاً على رفع الروح المعنوية لدى العرب وانتقاماً له، قام المناضلون بنصب كمين للقافلة اليهودية المتوجهة إلى جبل سكوبس وإلى الجامعة العبرية ومستشفى هداسا، وأغلقوا طريق تقدم القافلة عن طريق تفجير عرباتها الأمامية وطرق هربها عن طريق تفجير العربات الخلفية، ثم أطلقوا عليها كل ما لديهم من سلاح وأضرموا النار في بعض عرباتها، وقتل من اليهود عدد كبير كان من بينهم الأطباء والعلماء والممرضات وغيرهم. وقد نصب مكبرٌ للصوت على سطح مدرسة الروضة "العمرية" كان يذيع نشرة أخبار عند المساء عن سير المعارك في القدس وغيرها من الجهات، وكان يردد عبارات لا زلت أذكرها في نهاية كل نشرة: "القدس عربية فلتسقط الصهيونية النصر قريبٌ بإذن الله".
كانت أسعار الخضار منخفضة في تلك الأيام، فكنا نشتري الأرض شوكي بسعر رخيص، وكذلك كان ثمن البيض، وغير ذلك من الخضار التي كانت تأتي من سلوان المجاورة.
لم يشاركنا الوالد الإقامة في التنكزية، فقد أصرّ على البقاء في البيت في باب الساهرة، وكان لوجوده هناك أثر على رفع معنويات المناضلين، الذين كان يشركهم في طعامه ويعد لهم الشاي والقهوة، وأذكر منهم المرحوم لافي سعادة من قرية ترمسعيّا، الذي كان يقود مفرزة من المناضلين مقرها في قبور السلاطين. وكان معظم سكان باب حي الساهرة قد هجروه إلى داخل البلدة القديمة أو إلى أريحا أو حتّى إلى أماكن أبعد. وقد وقع للوالد في أثناء وجوده في البيت وحيداً حادث طريف، ففي صباح أحد الأيام سمع صوت إطلاق رصاص يطلق من مكان قريب جداً، وتحرّى الوضع فوجد أن مصدره جماعة من "حملة الأكياس"، وهم رجال من البادية الأردنية يحمل كل منهم بندقية إنكليزية الصنع وكيساً على ظهره، وقد قيل إن الجنرال جلوب باشا أرسلهم إلى القدس للسلب والنهب. وجد الوالد أنّ هذه المجموعة قد أطلقت النار على الباب الخارجي فكسرت أقفاله، وتمكنت من الولوج إلى داخل البيت، واقتحمت غرف الطابق الأرضي وتجمعت في وسط الدار، وكان وسط الدار مربع الشكل تعلوه النوافذ التي تطل على الأسفل من كل الجهات. وفكر الوالد، وكان عليه التصرف بسرعة في هذا الموقف، إذ كان بمفرده في البيت، أطل عليهم وهو يصوّب مدفعه الرشاش من طراز "الستن" نحوهم، وهو يضع طربوشاً على رأسه وسألهم عما يريدون، ثم توجه نحو النوافذ المقابلة وكرر عليهم السؤال نفسه وهو يضع فيصلية على رأسه، ثم توجه إلى الناحية الأخرى وصوب مدفعه نحوهم وكان حاسر الرأس هذه المرة، فاعتقد اللصوص أن البيت يعج بالمسلحين فغادروه، وانتهت الحادثة بسلام من دون أن يطلق رصاصة واحدة.
وانتهت أيام القتال في القدس. وكان لا بد من العودة إلى بيتنا بباب الساهرة، ولا أذكر كم لبثنا في التنكزية، ربما أربعين يوماً أو ما يقارب ذلك. عدنا إلى حي باب الساهرة، وكان يكاد يكون خالياً من السكان بعد أن هجره معظم سكانه، وكان التيار الكهربائي مقطوعاً فاستعنا بمصابيح الكاز، وكذلك كان الوضع بالنسبة إلى الماء، فاضطررنا إلى الشرب من ماء البئر الذي يقع أسفل البيت، وشيئاً فشيئاً، عاد معظم سكان الحي إلى بيوتهم ليرمموا "بعد طول الهجر كوخاُ هدَّه المدفع ". وكان لا بد من العودة إلى الدراسة، ولما لم تفتح مدرسة الروضة أبوابها، توجهت إلى مدرسة المطران "السان جورج"، وقد أخذني إليها الجار ماجد العفيفي رحمه الله وكان أول من استقبلنا في مدرسة المطران الأستاذ فوزي معتوق مرحباً، وثم جرى تسجيلي فيها.
وهنا بدأت مرحلة جديدة من مراحل العمر.
[ينشر ضمن اتقاقية شراكة وتعاون بين ”جدلية“ و”حوليات القدس“]