بعد حيفا، التي شكّلت خلفية لرواية ابتسام عازم الأولى "سارق النوم - غريب حيفاوي"، تحضر شقيقتها يافا في رواية عازم الثانية "سفر الاختفاء"، الصادرة حديثاً عن "دار الجمل". فالمدينة التي ألصقت اسمياً بتل أبيب بعد احتلالها وتهجير سكانها، تشكّل مساحة شخصية للكاتبة التي تخوض في أثقالها، في حقيقة تذبذبها بين واقع فرضه الواقع الاستعماري، المتمثل بتأسيس دولة إسرائيل، وماضٍ يتنفس في جدرانها وأزقتها. لكن عازم لن تفصح صراحة عن "أزمنة" يافا. فهناك تجنّب لاستسهال الذاكرة والنوستالجيا والرمزيات السياسية الصلدة. عوضاً عن ذلك، تُمنح المدينة أصواتاً ملوّنة ومفاجئة عبر طيف عريض من الشخوص (علاء/ أريئيل/ نتالي الألمانية،- شمعون/ مريم، يوسف/ دايفيد، حبيبة..)، التي تكمِّل، في تجاربها اليومية وعلاقاتها ببعضها البعض، صورة المدينة كما لم نعرفها قبلاً. وهي بذلك تكسر زجاج "المحرمات"، ذلك أن اليوميات الصغيرة والقاسية تمهّد لأسس اجتماعية وإنسانية، تتجاوز التجاذبات السياسية أو الفكرية أو إشكاليات الهوية.
فعازم، وإن تطرّقت إلى التاريخ والحكايا المتواترة عن فلسطين "القديمة" ثم "النكبة" وما بعد؛ إلا أن ذلك لا يأتي لتوكيد أمر أو نفيه، بل يحضر التاريخ كتركة أو كحصص لها أثرها النفسي. وبالتالي، لن تكتب من أيديولوجيا سياسية أو معادلات عاطفية جاهزة، بينما تحاول لغتها الاحتكاك بهذا الواقع، استفزازه واستدراكه، عبر الشخصيات التي تقدّمها، وذلك للنفاذ إلى مفاتيحه من دون تكلّف أو اختراعات في الفانتازيا أو الشعر. لذا، لن يجد القارئ حضوراً لنماذج الأبطال الكلاسيكيين الذين درجنا على قراءتهم، في المدونة الأدبية الفلسطينية المعاصرة، شعراً أو قصة أو روايةً. ليس ثمة خوارق ولا انتصارات مُطلقة. وليس هناك معادلات تُنَمِّط شخصاً أو حدثاً بعينه. تنسحب الشخصيات إلى سيرها الذاتية الخاصة، وعلى أساسها تبني صوتها وصورتها وموقفها وعلاقتها بالجغرافيا والناس "الجدد"، فتستدرك شريحة من الفلسطينيين الذين بقوا داخل مدنهم وأهملتهم الذاكرة الأدبية المعاصرة. من هنا، يمكن القول إن عازم تبدي إلماماً بحاضر لا نقرأ عنه كثيراً، ولا ينكشف في الميديا ولا نشرات السياسة. واقع إنساني "مطوّق" و"معزول" بالصراعات المتكررة وإشكاليات الأرض والانتماء الدائمة والمتغيرات الجغراسية.
لكن هذا الواقع "الثقيل" والمتجذر في ذاكرة الفلسطينيين، تفكِّكه عازم حين تؤسس لفرضية بصيغة حدث عام. واقع معكوس يحل فجأة في الرواية. يتضخّم ويتشعب ويظلل كل مرافق "الحياة الإسرائيلية". من خلاله، تبيّن عازم عمق الإشكالية القائمة بين "الضحية" و"الجلاد". فالحدث الروائي الكبير الذي تفترضه الكاتبة، يمكن تمثيله بسؤال موجه للإسرائيلي وهو "ماذا لو اختفى الفلسطينيون؟". وعبره تسهب في تظهير تشوّش المجتمع الاسرائيلي الذي يجد نفسه فجأة خاسراً ما درج دوماً على إدراكه: الفلسطيني. ليجد هذا المجتمع نفسه فجأة هو الـ"معزول". معزول عن ضحيته. ذلك أن الشرط الإنساني الذي يجعل الإسرائيليين منتبهين إلى وجودهم وحريصين عليه، لم يعد قائماً. لم يعد مرئياً ولا محسوساً. في كتابتها، لن تبالغ عازم في استهلاك المجاز. فالشعر، أو العبارات الشعرية "الطنانة" والمتكلفة تقف خارج النص. لا محل لها في هذه السردية الحاذقة والأنيقة. أما الاستعارات البصرية التي تلعب دور الجاذب لصورة ماض اجتماعي أو عائلي أو حالة عاطفية ما، فتحضر بتوازن لافت، إذ تندمج بأناقة في النص من دون أن تهيمن على المقطع السردي مثلاً، أو تظلل الفكرة الأساسية أو العبارة بشكل كامل.
[عن "العربي الجديد"]