”حين أموت ستبقى الريح، ستواصل بقاءها“
إدواردو غاليانو - من كتاب المعانقات
خطف الموت إدواردو غاليانو، الذي وصفه الروائي جون بيرغر بأنه "عدوّ الكذب واللامبالاة، وقبل كل شيء عدوّ النسيان، والذي بفضله ستتذكر البشرية جرائم الغرب".
كتب إدواردو غاليانو مرة "إن الكتابة هي ضد النسيان، الذي يمارس القتل الحقيقي".وأعتقد أن كتب غاليانو، الذي مات غير مكترث بالموت في قرن الريح الأكثر عصفاً، تُقدِّم ترياقاً سحرياً لمعالجة مرض النسيان الناجم عن فيروس مُصنّع في مخابر السلطات المتشابكة والعابرة للبلدان، وستظل الأجيال تعود إلى كاتب احتفى بالتناقضات وبكل ما هو هامشيّ أو مهمّش، والذي صار، بعد موته، "ابن جميع العصور"، كما لو أن غاليانو يصف نفسه في رثائه للكاتب الأرجنتيني خوليو كورتاثار، "الذي مات الآن، دخل التراب الآن، كرجل، فيما يدخل امرأة، يعود إلى المكان الذي جاء منه".
حقّقت كتب إدواردو غاليانو انتشاراً واسعاً بين القراء العرب الذين تابعوا أعماله منذ صدور أول كتاب أدبي له في اللغة العربية عن دار الطليعة الجديدة السورية في دمشق سنة 1995 بعنوان "ذاكرة النار: سفر التكوين، الوجوه والأقنعة، وقرن الريح"، وهو ثلاثية يعيد فيها غاليانو كتابة تاريخ أميركا اللاتينية ولكن بطريقة لا تمت إلى لغة المؤرخ الموضوعية بأية صلة. وكان لي الشرف أنني ترجمت هذا الكتاب عن الإنكليزية مخالفاً الأصول، التي تقتضي أن نترجم الكتاب عن لغته الأصلية وليس عن لغة وسيطة، لكن "ذاكرة النار" كان بالنسبة لي اكتشافاً فرض سحره عليَّ، ودفعني إلى هذا التجاوز، وهذا ما تفعله الكتب الاستثنائية، وقد أقنعتُ آنذاك مدير دار الطليعة الجديدة السيد مروان صقال بأن يتبنى مشروع ترجمة الأعمال الكاملة لإدواردو غاليانو. وحين قرأ مروان نص الترجمة وافق على الفور على الطباعة وصار غاليانو حديث الوسط الثقافي السوري منذ ذلك الوقت. و بعد "ذاكرة النار" ترجمتُ له "كلمات متجولة" ثم "كتاب المعانقات"، وصدر الكتابان عن الدار نفسها.
يعيد غاليانو في "كلمات متجولة" كتابة حكايات شفوية أميركية لاتينية بينما يتألف "كتاب المعانقات"، والذي يشكل منطلقاً لكتبه الأخرى التالية، من نصوص يحتفي فيها المؤلف بكل من هو معارض للسلطة بكافة أشكالها، وبالحلم وبكل ما هامشي في الثقافة والأسطورة والحكايات الشعبية والتراثات المنسية أو المُغفلة، ملقياً الضوء على كل ما تعتمه علاقات القوة في العالم واضعاً نصب عينيه مهمة الكاتب والتي هي تحرير اللغة و"نزع قناع الواقع" عبر مزيد من الكشف عن كل ما هو مخبأ أو مكبوت أو مهمش، وفضح مؤرخي السلطات الذين يحجبون الأسماء الحقيقة الجديرة وحدها بأن تُذكر. وكان أحد الأسئلة التي شغلت غاليانو في حياته هو: لماذا الفقراء فقراء؟ وقد أجاب بسؤال آخر: هل يمكن أن يكون السبب هو أن عريهم يكسونا وجوعهم يغذّينا؟
هذا هو خط غاليانو الذي أعاد في مقدمة الجزء الأول من ثلاثية "ذاكرة النار" كتابة أساطير الهنود الحمر حول خلق العالم، هذا التراث العظيم الذي أحرقته محاكم التفتيش التي رافقت الغزاة الأوربيين.
ميّز غاليانو نفسه عن الكتاب الأميركيين اللاتينيين لتيار الواقعية السحرية معرّفاً نفسه بأنه ينتمي في الأدب إلى الماركسية السحرية، وكتب نثراً أدبياً مشحوناً بروح شعرية، حراً بلا قيود. و تتجاور في "ذاكرة النار" الأسطورة والقصة والقصيدة والأغنية والمسرحية القصيرة ونصوص تمزج بين الأجناس الأدبية كلها، وثمة خيط يجمع بين هذه النصوص يشكّل المناخ العام للكتاب، وقد اعترف الكاتب أنه لا يعرف إلى أي شكل ينتمي كتابه، سمّاه "صوت الأصوات"، فهو ليس مقتطفات أدبية مختارة ولا يعرف إن كان رواية أو مقالة أو ملحمة شعرية أو شهادة أو تاريخاً، وقال إنه لا يؤمن بالحدود التي تفصلُ بين الأجناس الأدبية التي وضعها ضباط جمارك الأدب.
ما يميّز كتابة إدواردو غاليانو هو أنها تستند إلى بحث دقيق ومتأن في الوثائق والمراجع والمعلومات التاريخية الدقيقة والأخبار الشفوية إلا أنه يروي ما حدث سابقاً بطريقته وأسلوبه. إن الخلفية المعرفية والوثائقية والتاريخية تذوب في خلفية اللغة الأدبية المشحونة بحرارة الشعر، مما يغني النص ويجعله موحياً ومشيراً، وغير مثقل بحضور الأفكار.
احتفى إدواردو غاليانو في جميع نصوصه بالحرية والإبداع والنبوغ، بالعمل الجماعي، وبالتضحية من أجل مستقبل أفضل للبشرية كلها، احتفى بمن سماهم “اللاأحد”، الذين لم يكونوا، ولكن يمكن أن يكونوا، الذين لا يتحدثون لغات بل لهجات، والذين لا أديان لهم بل خرافات، والذين لا فن لهم بل صنعة يدوية، و الذين لا يملكون ثقافة ولكن لديهم فولكلور، والذين ليسوا بشراً بل يشكلون موارد بشرية، والذين ليس لهم وجوه بل أذرع، لا أسماء لهم بل أرقام، الذين لا يظهرون في تاريخ العالم بل في دفاتر الشرطة، والذين ليسوا بقيمة الرصاصة التي تقتلهم.
احتفى غاليانو أيضاً بشجرة الحياة التي تعرف، كما قال، أنه مهما حدث، لن تتوقف الموسيقى الدافئة التي تدور حولها مطلقاً. مهما تفشّى الموت، ومهما تدفقت الدماء، سَتُرْقص الموسيقى الرجال والنساء “طالما أن الهواء يتنفّسهم والأرض تحرثهم وتحبهم”.
لم يخشَ غاليانو الموت، فقد صوّره كهيكل عظمي من السكّر أو الشوكولاته يقطر منه الكاراميل الأبيض. وكان المكسيكيون يأكلونه، وكي يسخروا من السلطة والنفوذ كانوا يُلبسونه رداء كهنوتياً ونظارة أحادية وشارات كتفية ويضعون على صدره أوسمة.
إن الموت بالنسبة لغاليانو هو حياة جديدة لأن "كل ما يأتي يذهب وما يذهب يأتي"، وسيظل غاليانو يأتي إلينا بنصوصه التي نشعر دوماً بضرورة العودة إليها لأنها تحتفي بانتصار الحياة، وبنا، نحن أبناء الأرض العاديين.
***
*خطف الموت الكاتب الأميركي اللاتيني إدواردو غاليانو بعد صراع مع سرطان الرئة. ولد غاليانو في الأورغواي سنة 1940، بدأ العمل في الصحافة في الستينيات، وبعد انقلاب1973 اختار منفاه في الأرجنتين التي هرب إليها، لكن بعد الضغوط التي مورست عليه وبعد أن وُضع اسمه في قائمة المستهدفين للاغتيال اضطر إلى الانتقال إلى أسبانيا في 1976. توفي في 13 نيسان، 2015 في مونتفيديو بعد معاناة من سرطان الرئة.