نشرت جريدة الأهرام إعلاناً في تموز\\يوليو 2014 من وزارة التضامن الاجتماعي يتضمن تهديداً لجميع منظمات المجتمع المدني مضمونه تقنين وضعها طبقاً لقانون الجمعيات الأهلية، أو مواجهة التحرك القانوني ضدها والإغلاق. وجاء هذا التهديد في سياق من التضييق المستمر على الحريات ومختلف أنواع المعارضة للنظام. تلاه حملة مستمرة من التشويه للمنظمات الحقوقية التي يمثل عملها تحدياً للدولة وانتهاكها للحقوق. وفي كانون الأول\\ديسمبر2014، قررت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وهي من أهم المنظمات الحقوقية في مصر، تقنين أوضاعها وفقاً لمتطلبات النظام. وفيما توقع البعض أن هذا التوجه يمثل تهديداً لإمكانية استمرارالمبادرة٬ يحدثنا جاسر عبد الرازق في هذا اللقاء عن كون هذا التوجه نوعاً من أنواع المقاومة.
جاسر عبد الرازق
عمل جاسر عبد الرازق في مجال المجتمع المدني وحقوق الإنسان على مدى الأعوام الاثني عشر السابقة، فقد أنشأ مؤسسات حقوقية وأطلق حملات دفاعية وخاض معارك وقضايا بعينها شكلت الوعي حول مسألة الحقوق في مصر اليوم. فلقد كان من مؤسسي “مركز هشام مبارك لحقوق الإنسان” في عام 1999، وكان أمين عام المنظمة المصرية لحقوق الإنسان كما عمل في عدد من المؤسسات الدولية كهيومان رايتس ووتش وأوكسفام كمدير علاقات اقليمية ومسؤول إعلام. وقبل انضمامه للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية كنائب مدير٬ كان مدير مكتب “أميرا” في القاهرة المعني بحقوق اللاجئين.
مقابلة مع جاسر عبد الرازق
حاورته: لينا عطا الله
صاغها باللغة العربية الفصحى أسامة إسبر
لينا عطا الله: أولاً شكراً على وقتك، نحن حالياً موجودون في مكتب “الوضع”، سأبدأ من القرار الذي اتُخذ من المبادرة بإدارتها ومجلس أمنائها بالتسجيل وفقاً لقانون 2002 بعد فترة طويلة من التفكير بالموقف الذي ستتخذه المبادرة في ظل التهديدات التي كانت تفرضها وزارة التضامن الاجتماعي على المساحات التي تعمل في العمل الحقوقي أو العمل العام، فهل من الممكن أن تحدثنا قليلاً عن قرار التسجيل، ما هي الاستراتيجية الكامنة خلفه، وما معناه؟
جاسر عبد الرازق: لقد تصرف مجلس الأمناء والإدارة الخاصة بالمبادرة بشكل مسؤول من وجهة نظري في أنه مع بداية تصاعد الضغوط التي مارستهْا الدولة في صورة المهلة الخاصة بوزارة التضامن الاجتماعي، اجتمعنا ووضعنا كل الخيارات المتاحة بدءاً من خيار الإغلاق الاحتجاجي، أي أن تُوقف المبادرة عملها وتعلقه احتجاجاً على الأوضاع. وكان هذا بالنسبة لجزء منا أمراً غير مقبول وصولاً إلى تغيير موقف المبادرة الذي تبنته منذ أكثر من عشر سنوات وعدم التسجيل، أن نغير هذا، ونضع التسجيل كأحد الخيارات، بالإضافة إلى خيارات أخرى كأن ننوّع في أشكال تسجيلنا، وأن نستمر كما كنا نعمل على مدى الاثني عشر عاماً السابقين. وكجزء من المناقشات هناك عدد من الأشخاص ومن ضمنهم أنا شخصياً بدأوا النظر إلى فكرة التسجيل ليس باعتبارها حلاً للمشكلة الآنية المتعلقة بأن هناك مهلة وهناك ضغوط من الدولة على المجتمع المدني ولكن باعتباره شكلاً من أشكال تطوير النضال والمواجهة مع الدولة. السببان الرئيسيان اللذان أرى أنهما يجعلان خيار التسجيل هو أفضل خيار لمكان مثل المبادرة هما أولاً: ينزع عن الدولة فكرة تسجيلكم، أنتم لماذا مسجلون بهذه الطريقة؟ هل يوجد شيء يدعى شركة تقوم بعمل حقوق الإنسان؟ والجدل الذي يطرحونه طول الوقت حول فكرة وضعنا القانوني، ويقومون بنقل المشكلة إلى مسألة التمويل الأجنبي، وشرعية الأموال القادمة من الخارج والموافقات، وكيف تأتيكم الأموال دون أن توافق الدولة عليها؟ بالتالي أتصور أنه في المعركة القادمة، حتى لو قُبل تسجيلنا، وتمكنّا من بناء قاعدة تمويل محليّ معقولة تسيّر جزءاً أساسياً من عملنا، سيبقون مضطرين للأسف للتعامل مع ما تنتجه المبادرة من دراسات وأبحاث، وانتقاد المبادرة لسجل حقوق الإنسان، وليس مجرد الإشارة إلى وضعكم القانوني أو الأموال التي تأتيكم من الخارج. هذا خيار لا تستطيع منظمات كثيرة أن تتبناه، بمعنى أن المبادرة، من وجهة نظري على الأقل، تمتلك سمعة ومستوى من الدقة والمهنية يسمح لها بأن تقوم بهذا النوع من الجدل، بمعنى أنه قد تكون هناك منظمات أصغر أقل شهرة سيكون هذا خياراً صعباً بالنسبة لها لأن التسجيل تحت القانون يفسح مجالاً للدولة لتدخل شديد جداً في عمل المنظمات، وبالتالي لن يقدر أحد على أن يتحمل ويقاوم هذا النوع من التدخل إلا منظمة لديها السمعة الخاصة بالمبادرة ولديها جمهور المبادرة وتتمتع بالكفاءة. إن الشيء الأخير الذي أود قوله هو إن هذا القرار ليس من المفروض أن يُقبل نهائياً باعتبار أن المبادرة رأيها أن المواطنين ليس من حقهم أن يتنظّموا، بأشكال مختلفة سواء اختاروا أن يؤسسوا شركة، أو مكتب محام أو عيادة طبية، ويعملوا في مجموعات. من حق الناس أن تختار أشكال التنظيم التي تناسبهم، وليس من حق الدولة التدخل في أشكال التنظيم إلا بالمساعدة، وبالتالي إن قرارنا بأن نسجّل لا يعني الاعتراف بأن هذا هو الشكل القانوني المناسب الوحيد الذي من المفترض أن تُسجل الناس تحته، لكن هذا خيارنا في تطوير شكل نضالنا وشكل مواجهتنا.
لينا عطا الله: أنتم وضّحتم فعلاً في بيانكم الذي نُشر منذ يومين أنكم ستكملون مواجهتكم واعتراضاتكم ونقدكم لهذا القانون وللقانون القادم حتى لو أنكم تسجلون أنفسكم تحت اسمه.
جاسر عبد الرازق: صحيح. في الحقيقة لم يتغير موقفنا من نقدنا للقانون الحالي، وليس لدينا أمل كبير بالوضع السياسي الحالي وبأن التشريع القادم سيكون أفضل بكثير. هناك شيء واضح الدولة مصرة عليه وهو فكرة وجود لجنة تنسيقية تضم الأمن القومي ووزارات عديدة تنظر في شؤون تمويل المنظمات وغير ذلك، ويبدو أنهم لن يتراجعوا عن هذا النوع من التوجه والخيارات التي تحكم علاقة الدولة بالمجتمع المدني. بالتالي سنواصل مقاومتنا للقانون، وقد يؤمن لنا التسجيل فرصة لم تكن متاحة من قبل وهي أننا لن نقدر أن نتخذ مواقف سياسية من القانون فقط لكن سنقدر أيضاً على الاشتباك معه بشكل مباشر، وبشكل قانوني مما يفتح لنا فرصة لأشكال مختلفة من الطعون على القانون، ونحن لدينا مادة دستورية لا بأس بها تنظم الحق في التنظيم، إن طموحنا خلال سنوات هو أن يبقى النص الدستوري مفعّلاً بشكل قانوني مما يسمح للمواطنين أن ينظموا أنفسهم بأشكال كثيرة مستقلة، ويبقى أن من يحتاج إلى شيء من الدولة عليه أن يذهب إليها ويسجل تحت القانون، إلخ.
لينا عطا الله: تحدثنا (قبل التسجيل) حول توجه هذا التسجيل تحت القانون، تحدثنا قليلاً أن هناك قيمة كما قلت في قضية التسجيل هذا، بأن عملية التسجيل بحد ذاتها ستكون معمل تجارب مهماً للاشتباك مع القانون، كوسيلة للاشتباك معه مختلفة ومغيّرة لأنك تشتبك معه على مستوى نظري مثلاً. كم هناك مجال للتفاوض في قرار كهذا وكم هناك مواجهة في الوقت نفسه؟
جاسر عبد الرازق: المسألة ليست تفاوضاً فقط. ولا أظن أن هذا الخيار مطروح كما قررنا، إذا استمرت المبادرة في إصدرا تقاريرها النقدية المهنية بشكل طبيعي. سيقفل هذا أبواباً كثيرة للتفاوض. إن مجرد استمرار عمل المبادرة كما هو يقفل أبواباً كثيرة للتفاوض ويضعك في مواجهة. طبعاً من الناحية النظرية هذه ليست مواجهة مع وزارة التضامن التي نحن مسجلون لديها لكن ستُستخدم وزارة التضامن بالنيابة عن أجهزة أمنية كي تقوم بالمواجهة، وبالتالي أتصور أن العلاقة القادمة سيكون فيها بالطبع قدر من التفاوض، ففي النهاية نحن أطراف وسيكون بيننا علاقة تعاقدية بشكل أو آخر بحكم التسجيل لكنني أتصور أنها ستبقى مواجهة بالأساس أكثر مما هي تفاوض، فقراراتنا واستراتيجياتنا كلها منصبّة على تحسين موقفنا في هذه المواجهة ورفع ثمن محاولات الدولة عن طريق وزارة التضامن للضغط والتدخل في عمل المبادرة
لينا عطا الله: لنعد قليلاً في الوقت إلى تاريخ محاولات الدولة لتنظيم عمل المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية بالذات وهذه معركة أنت خضتها في مساحات مختلفة وأوقات مختلفة. أريد أن أعرف من وجهة نظرك مدى تطور فكرة استخدام الدولة لآلية القانون للتنظيم. كيف نرى الآن التطور الآن وكم هو الآن مختلف؟ أعرف أنك خضت معركة مشابهة في التسعينيات، كان هناك موقف مختلف عن الموقف الذي تتخذونه الآن. ماذا يقول لنا هذا عن تطور آليات الدولة في محاولة السيطرة على هذا القطاع وتطور أساليب النضال؟
جاسر عبد الرازق: بتقديري إن الخلاف الجوهري، المدخل الخاص بالدولة في علاقتها بالمجتمع المدني، في التشريع (الذي لم يكن موجوداً لكن كان يُمارس) هو القانون ٦٤ الذي يحكم المجتمع المدني المصري منذ 1964 حتى سنة 1999، أي 35 سنة. لم يكن هناك أي ذكر للأمن، القانون 99 الذي استمر حتى 2002، عاش 3 سنوات إلى أن ألغته المحكمة الدستورية، لم يكن هناك أي ذكر لدور الأمن. القانون الحالي، الذي هو من 2002 واستمر 12 سنة حتى الآن، لا يوجد فيه أي ذكر لدور الأمن. إن دور الأمن يُمارس من قبل 1964، يوم كان المجتمع المدني موجوداً، والجمعيات الأهلية كانت موجودة، وكان هناك دور خفي للأمن. في تصوري إن الوضع الذي نشأ بعد الثورة، بعد يناير، وتحديداً في السنة ونصف الأخيرة، منطق تعرض مصر للتهديد والمؤامرات، وكل أجهزة مخابرات العالم تتدخل في البلد، وأن ما حصل في السنوات الثلاث الماضية كان ممولاً من الخارج، واستخدمت فيه تنظيمات سياسية، واستُخدمت فيه صحافة، ومنظمات مجتمع مدني، مما سمح للدولة بأن تقدم فكرة التدخل الأمني في أشياء كثيرة جداً، وبالأساس في منظمات المجتمع المدني، إنه شيء مقبول أن يُطرح بهذه الفجاجة، لجنة فيها مخابرات عامة، وزارة الداخلية، إلخ، ستنظر في أوضاع المنظمات كلجنة تنسيقية في الدولة، هذا شيء أتصور أنه لم يكن ممكناً أن تطرحه الدولة بدون السياق العام الذي نحن فيه الآن وهذا فرق جوهري. من الناحية الثانية، أتصور أن نحن لدينا جمهور وأدوات لم تكن متاحة لنا أبداً في التسعينيات وبداية عام 2000، لقد فتحت الثورة مساحة، والتحليل يقول إننا مهزومون، وأن جميع المكاسب التي كان يمكن أن تحققها ثورة يناير لم تحصل. أنا بتقديري أنه ما يزال هناك وعي عند قطاع أوسع بكثير من القطاع الذي كان موجوداً قبل الثورة، وأن منظمات حقوق الإنسان رغم كل الانتقادات التي تُوجّه إليها لديها جمهور أوسع بكثير اليوم. هذا من ناحية، من ناحية أخرى، ورغم الحصار المفروض على الإعلام وعلاقة الدولة والأجهزة الأمنية برأس المال الكبير الذي يملك أغلب الإعلام المرئي تحديداً، وبرغم هذا التحالف ما يزال لدينا أدوات وطرق نصل بها إلى الجمهور الأوسع، سيجعل قدرتهم على القمع المباشر الذين يتصورون أنهم قادرون على القيام به الآن محدودة. هذان هما الفرقان الجوهريان عن ما قبل يناير ومعاركنا على قانون ديمقراطي ينظم المجتمع المدني في العشرين سنة السابقة وبعد الثورة. في النهاية، إن مفهوم الدولة، الذي كان يُروَّج له من الستينيات لغاية الثورة، انكسر. فمثلاً إن حكاية الدولة البابا، الكبيرة، التي يجب علينا كلنا أن نسمع كلامها، وأن نكون جيدين معها، وبالتالي أن تدير بالها علينا فيما بعد، انكسرت أو انتهت. لقد انتهى هذا ولن يعود رغم المحاولات التي لا تنقطع في تصوير أن الدولة هي الجيش، أو الدولة هي الجيش والبوليس، هذا لن يرجع. هناك شيء انكسر في يناير ومحاولة العودة إلى ما قبل يناير صارت مستحيلة. وهكذا هم مضطرون للتفاوض، وأعني أنهم مضطرون في لحظات مختلفة رغم خطابهم العدائي أن يجلسوا ويأخذوا في اعتبارهم أشياء مما تطرحه منظمات المجتمع المدني، والقوى السياسية الفاعلة، أي القوى الديمقراطية بشكل عام.
لينا عطا الله: هذا يحتاج إلى بعض السياق. هل يمكن أن تخبرنا ما حدث سنة 1999 بالضبط؟
جاسر عبد الرازق: هناك معركة ابتدأت سنة 1994 من داخل حركة حقوق الإنسان التي كانت تتشكل وتكبر في ذلك الوقت في مصر في مواجهة قانون 64، قانون العمل الأهلي، الذي صدر أيام جمال عبد الناصر. وتصاعدت الحملة من 1994 إلى 1998، الفترة التي قررت فيها الدولة أن القانون فعلاً غير مناسب وأنها مضطرة إلى أن تسنّ تشريعاً جديداً يناسب البلد بغض النظر عن المسميات، لكنها انتقلت انتقالاً راديكالياً من نموذج اقتصادي معين تحت حكم عبد الناصر حتى منتصف التسعينيات، مما يعني أنها صارت بلداً ثانية. وشكلت الدولة لجنة اضطرت أن تضع فيها عدداً من الناشطين المستقلين في هذا الوقت، أي أربعة في اللجنة الحكومية وانتهى الأمر بإصدار قانون أفضل من قانون 64 لكنه غير مناسب بشكل كامل لسياق أو لمجتمع نهاية التسعينيات. إن قانون 99 يختلف جوهرياً عن القانون الذي نعيش في ظله الآن، وقد ألغته المحكمة الدستورية سنة 2000 لأسباب فنية، أسباب تتعلق بالمحكمة، بنوع المحكمة التي نطعن أمامها بقرارات الدولة. لقد أعادوا تقديم قانون 99 في 2002 بنفس الروح وتقريباً بنفس المواد. إن معركة 98 و 99 لحين صدور القانون كانت معركة مهمة جداً لأنها أجبرت الدولة أولاً على أن تقبل وجودنا داخل اللجنة. لأول مرة تصيغ اللجنة تشريعاً بموجبه اضطرت الدولة أن تقبل أربعة من نشطاء المجتمع المدني مستقلين بدرجة ما، وقبلت عملية تفاوض واسعة نسبياً، وكانت أشكال النضال في مواجهتها مبتكرة في هذه اللحظة. فلأول مرة كنا قادرين بأعداد قليلة جداً مؤلفة من 100 شخص أو 125 شخصاً، نقوم بوقفات أمام مجلس الشعب، ولم يكن هذا النوع من الاحتجاج يحصل آنذاك. بعد ذلك بسنوات محدودة كان هذا شيئاً طبيعياً لكن في لحظتها كان هذا شيئاً يخضّ قليلاً بالنسبة للدولة، وكنا نفعل هذا بحماية من الصحفيين. وكنا ننسق هذا بحيث يتحرك الناس في ميكروباصات مع كاميرات التلفزيون داخل الميكرو كي نحميهم، إلخ. وتصاعدت في فترة أسبوع مناقشة القانون في مايو 99 لإضراب أربع ناشطات حقوقيات، قمن بإضراب كامل عن الطعام لمدة أسبوع في مقر إحدى المنظمات، وفي الحقيقة صدر فيها قانون ، ويعرف جزء لا بأس به من المهتمين بالشأن العام أنه قانون لا يصلح، وبما فيه الدولة، التي في لحظتها أصدرت لأول مرة قانوناً وتحدد موعد مؤتمر صحفي كي تدافع عنه يوم صدوره. كانت الوزيرة آنذاك ميرفت تلاوي، عقدت مؤتمراً صحفياً كي تقول شارحة إن القانون ليس سيئاً كما يقولون. وأتصور أن القانون ولد والدولة غير قادرة على تطبيقه كما كانت تريد، والحملة التي تمت في 98 و99 لغاية صدور القانون جعلته فعلاً يولد ميتاً، أي أنهم لن يستطيعوا تطبيقه بالطريقة القمعية الموجودة في دماغهم، لأنه انفضح من عملية صياغته لعملية صدوره. ربما كان سياق 2002 مختلفاً قليلاً، لأن المساحة التي كانت متاحة للعمل الأهلي توسعت وازداد عدد المنظمات، ولم ينشغل الناس كثيراً بنص القانون، الذي لم يقدروا أيضاً على تطبيقه بشكل حقيقي بالقدر الذي يريدونه من التعسُّف لغاية هذه اللحظة. أقصد أنه في الشهرين أو الشهور الثلاثة السابقة كانت هناك محاولة لتطبيقه لم تحصل على مدى 12 سنة وهي فكرة إخضاع كل الأشكال القانونية والموجودة والتي تمارس العمل الأهلي لهذا القانون. لم يتمكنوا من تطبيقه عي مدى 12 سنة، وكان هذا موجوداً في قانون 99. نستطيع أن نقول الآن إن النص موجود منذ 15 سنة والدولة غير قادرة على تطبيقه وتقديرنا أنها لن تقدر أن تطبقه. ستظل هناك كيانات تمارس عملها في مجال حقوق الإنسان ومسجلة بأشكال أخرى، لن يقدروا أن يطبقوا المادة القانونية عليها.
لينا عطا الله: تبقى بالنسبة لي دوماً مسألة غريبة أن تضع الدولة المصرية ثقتها في قدرتها على تنظيم كل شيء في ظل أن كثيراً من الأمور التي تعمل في مصر تفتقر إلى التنظيم. هناك محاولة من الدولة لتنظيم القطاعات المختلفة، وأفضل مثال على هذا هو الاقتصاد
جاسر عبد الرازق: إن الدولة تهين القانون بشكل منظم، ولا أقصد هنا في تطبيقها للقانون بشكل سيء ولكن في إصدارها لقوانين من المستحيل أن تطبقها، فمن اليوم الذي يجلسون فيه كي يكتبوا القوانين يعرفون أنهم لن يستطيعوا تطبيقها، ولو عرفوا أن يطبقوها فإنهم سيطبقوها في حالات محدودة ستجعلها انتقائية وبالتالي تهدم فكرة دولة القانون. أنت ذكرت الاقتصاد كمثال، لكن الأمر ليس في الاقتصاد فحسب. لديه تشريعات على أشياء تتعلق بالحريات من المستحيل أن يطبقها، فهذا لا ينفع. أقصد أن التدخل في حياة الأشخاص لا يوجد دولة تستطيع تنفيذه بالتصور الذي لديهم كحماية الأخلاق، وحماية الدين وغير ذلك. هذا لن يحصل.
لينا عطا الله: في رأيك كم ستؤثر المعركة التي دخلت فيها والتي بدأت منذ شهور في توسع المبادرة، بما أن المبادرة في الفترة السابقة كانت نموذجاً متفرداً من تطور مؤسسي، وتطور في سياق العمل الحقوقي، ولم نبق محدودين فقط بإطار المساعدة القانونية، وبدأنا نشتغل على محاور مختلفة من الحملات الدفاعية لاستخدام التشريعات والآليات القانونية المختلفة، للبحث الذي لم يكن عاملاً واضحاً وصريحاً في العمل الأهلي، فكيف سيؤثر تركيزكم على هذه المعركة وتجسدها حالياً في عملية التسجيل على هذا التوسع؟
جاسر عبد الرازق: ارتبط توسع المبادرة بظرف عام، بالثورة، التي فتحت مجالات لم تكن متاحة قبلها، خلقت جمهوراً لم يكن موجوداً من قبل، وجعلت أشخاصاً يهتمون بممارسة هذا النوع من العمل، لم نكن قادرين على جذبهم، فمنذ فترة طويلة هناك أشخاص من زملائنا تركوا وزارة الخارجية المصرية والجامعة العربية واشتغلوا معنا، وهناك أشخاص تركوا منظمات مالية دولية واشتغلوا معنا على الاقتصاد. وكان كل هذا مرتبطاً بلحظة، فيها تراجع، وهذا التراجع سينعكس على المبادرة وسينعكس على المجتمع لكنه سينعكس على المبادرة بشكل خاص، في جميع الحالات، وبصرف النظر عن قرارها التسجيل وبالاستمرار كما هي. نحن لدينا أمل بتوسع كبير لكن مع تراجع وهزائم الثورة منذ 2012 لم يتم هذا التوسع حسب ما كنا متصورين. كنا متصورين أننا في نهاية 2013 سنكون موجودين في كل محافظات الجمهورية، ليس بالضرورة مكاتب لكن على الأقل وجود مجموعة من الباحثين والمحامين الذين يشتغلون على القضايا المحلية، قضايا حقوق الإنسان المحلية المختلفة. لم نقدر أن نفعل هذا. ما هو قادم يجسد التحدي الأساسي بالنسبة لنا وهو بعيد عن قصة التسجيل تحديداً وهو الاحتفاظ بآليات عملنا كما هي، واستمرارنا في إنتاج مجهود بحثي ورصدي وأفكار بنفس الدقة وبنفس المهنية، وما سيتأثر بالنسبة لنا كما هو واضح هو عدد القضايا التي نتناولها. قد نشتغل على فكرة الأولويات، ليس بمعنى أن هناك حقوقاً أهم من حقوق أخرى، الأشياء التي لو أن المبادرة المصرية التي تقوم بها فإن باقي المجتمع المدني لن يقوم بها. هناك ملفات مهمة، نحن نتناولها. عملياً، لا أحد في مصر يقوم بها، مثل عملنا على الدين والمجتمع، وهذا ملف نتناول فيه العنف الطائفي، والخطاب الديني الرسمي، والخطاب الديني الخاص بالجامعات الدينية، نقوم بالرصد فيه وبالبحث مثل عملنا مؤخراً على إدارة المساجد. إن هذا الجزء من عملنا، علاقة الدين بالمجتمع، هذه مسألة خاصة جداً بالمبادرة وإذا لم تقم بها المبادرة فإنها في الغالب لن تُنجز من المدخل الذي نتناولها منه وهو مدخل الحقوق والحريات. إن عملنا طويل جداً على ملف الصحة الذي تطلب منا عملاً دؤوباً لم يحظ بتغطية إعلامية ضخمة ويحقق نتائج ضئيلة لكنها منتظمة في السياسات الصحية للدولة. هناك ملف آخر هام ليس لدينا إنتاج كاف فيه، لكننا نتصور أنه يشكل أولوية في هذه الفترة بالنسبة للمبادرة وهو حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب، هذا ملف مهم ولا أحد يتناوله. هناك أشخاص كثيرون يتناولون جزءاً من الانتهاكات المرتبطة بالحرب على الإرهاب كما تسميها الدولة، لكن لا أحد يتناوله كملف مكتمل يتضمن السياسات والخطاب والممارسات والانتهاكات، إلخ. فهذا مثلاً عينة من الأشياء التي نتصور أننا يجب أن نستمر فيها ولو اضطررنا إلى التقليل من الملفات التي نتناولها. أما عملنا على الاقتصاد والفساد فأعتقد أنه إذا لم تقم به المبادرة من زاوية حقوق الإنسان فإنه لا أحد سيفعله ولهذا سنحتفظ بهذا الملف، استرداد الأموال، التعاقدات الهامة التي تؤثر في حياة الناس والتي فيها فساد، الموازنة العامة، وسياسات الدولة في تناول قضايا الفقر، إلخ.
لينا عطا الله: ثمة تدخل مهم من المبادرة في السنوات السابقة، هل تعتقد أنها كانت على مستوى البناء المؤسسي بغض النظر عن رغبة الدولة بتنظيمكم بطريقتها. كان لكم دور كبير في طرح أفكار واستراتيجيات جديدة لفكرة التنظيم والبناء المؤسسي والعمل الجماعي المغاير من خلال الثقافة المؤسساتية التي تطورت في المبادرة. برأيك إلى أي حد نجحتم في فرض ثقافة مؤسسية جديدة، وأين المجالات التي فشلتم فيها؟
جاسر عبد الرازق: بشكل عام اتخذت المبادرة خطوات على مدى تاريخها مرتبطة بفكرة بنى المؤسسة، وببناها ليس باعتبارها مؤسسة محلية وبالتالي مقبول منها مثل المؤسسات المحلية بشكل عام أن تكون جودة أعمالها أقل من مثيلاتها في الدول الغربية، أو التي تعمل على مستوى دولي. وتقديري أن المبادرة نجحت في هذا. إن عملنا البحثي لا يُنظر إليه على أن عمله مثل عمل أية منظمة محلية بل مثله مثل أي شغل يحدث في أي دولة في العالم الأول. ما لم يتماش مع هذا بالتوازي مع عمر المبادرة هو تطويرها داخلياً ومؤسسياً. عشنا فترة طويلة لا يوجد تأمين صحي للعاملين، العقود ليست مسألة مهمة كثيراً، والشغل جزء منه يعتمد بدرجة كبيرة على شخص الباحث، لم يكن هناك فكرة لربط العمل المتنوع جداً ببعضه وجعله يصب كله في اتجاه دفع تحسين أوضاع حقوق الإنسان وتحسين الخطاب، إلخ. وهذا شيء حاولنا فعله بشكل منظم بعد الثورة ونجحنا في جزء لا بأس به منه، وهو إنه كان لدينا تصور استراتيجي للمبادرة أغلبه لم يعد صالحاً بعد التغييرات السياسية الضخمة التي حصلت في السنة والنصف أو السنتين الأخيرتين، لكن على الأقل لدينا الآن خطة عمل واضحة ومواقيت نصدرها، مرتبطة بمدى قدرتنا على التأثير بلحظة صدورها، وكان لدينا مجلس أمناء في الفترة السابقة، واجتمع بانتظام شديد في مواعيده، وفي فترة بداية الضغوط التي مارستها الدولة صار يجتمع مرة في الشهر، وفي الشهر الأخير مرة في الأسبوع وفعلاً يتخذ قرارات مصيرية حول مستقبل المؤسسة. بهذا المعنى، قمنا بنقلة مؤسسية مهمة أتصور أنها ستستمر ولدينا أمل بنقلة جديدة كالنقلة التي قمنا بها من قبل، أن تتحول المبادرة إلى منظمة عضوية كبيرة وأن يحدث هذا نقلة في جمهور حركة حقوق الإنسان بأن يبقى متلقياً لعمل المنظمات وأن يبقى هو الذي يصنع السياسات ويحدد التوجه الاستراتيجي للمنظمة ويختار مجلسها ويصرف عليها. إذا نجحنا في هذا سنكون قد أحدثنا نقلة جديدة في الحركة في غاية الأهمية.
لينا عطا الله: بالنسبة لتهويل الدولة حول التمويل الخارجي ما هو الخطاب الذي نوجهه في مواجهة هذه الاتهامات عادة، من ناحية، ومن ناحية ثانية، بصرف النظر عن حملات التهويل هذه لماذا نحن نفكر دوماً بحتمية أن مؤسساتنا تُستدام عن طريق تمويل محلي ومشاركة شعبية وما إلى ذلك. ما رد فعلك على حملات التهويل التي تقوم بها الدولة حول التمويل الأجنبي وكيف نرد على هذا من دون أن نتخذ مواقف دفاعية بالذات. وفي الوقت نفسه لماذا نفكر نحن فعلاً بحاجة لتوجه جديد للتمويل واستدامة مؤسساتنا عن طريق المشاركة الشعبية وغير ذلك؟
جاسر عبد الرازق: الجزء الخاص بموقف الدولة: كلنا نعرف أن مصر من أولها إلى آخرها دولة مموّلة، بمعنى أنه على مدى الخمس وثلاثين سنة الماضية، تأخذ مصر مليارات، كل سنة في مجالات عدة منها أولاً الجيش والتنمية، وفي النصف الثاني من التسعيينات كانت مؤسسة فورد تموِّل وزارة الخارجية المصرية من أجل المفاوضات غير المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهذه نقود من مؤسسة أميركية. بالتالي إن الهجوم له هدف واحد وهو الهجوم على العمل الذي تقوم به المنظمات. هناك عدد كبير جداً من مؤسسات الأبحاث والمنظمات الدولية المرتبطة أو القريبة من النظام السياسي تُمَوَّل ولا يضايقها أحد، ووزراء التضامن على مدى سنوات يقولون نحن نوافق على منح محددة لعدد محدد قدره كذا من المنظمات لكن من الذين لا يحصلون على موافقة بخصوص المنح، إنها المنظمات التي تنتج خطاباً أو تقارير رصد كنقد ما للنظام السياسي أو للحكومة. بالتالي، نحن نفهم من أين أتى النقد. لكن هذا الهجوم في الواقع يحقق نتائج للأسف، بالطبع المرء غير مهتم جداً بالإعلام المملوك من قبل رجال أعمال مرتبطين بالنظام ولهم مصالح مع النظام وهم أنفسهم ينتهكون حقوق عمالهم في مصالحهم، إلخ. لكن ردودنا وخطابنا فيما يتعلق بالتمويل عاجز عن أن يكون كافياً ومريحاً لقطاع لا بأس به من جمهورنا، الناس المتعاطفين مع ما نفعله. وما زال موضوع التمويل الأجنبي الكامل هذا غير مريح بالنسبة لهم. فهم حتى الآن لم نعثر على خطاب يجعلهم مرتاحين حيال هذا الموضوع. وهذا ينقلني إلى السؤال التالي لأنهما مرتبطان ارتباطاً وثيقاً. أتصور أنه لو بقي جزء (وإن لم يكن ضخماً جداً) من وجودنا وبقائنا مرتبطاً بتمويل مصري مع استمرار التمويل الأجنبي فإن هذا سيحل جزءاً كبيراً من المشكلة، وبالتالي، بعد الثورة اهتمام عدد أكبر من المصريين بالشأن العام واستعدادهم للانخراط به بشكل وبآخر، اهتمام المصريين الذين هم خارج مصر في أن يساهموا بشكل وآخر بأن تتحسن الأوضاع، لكن كل هذا في تراجع لكنني ما أزال مصراً على أنه تراجع محدود، فكل الفوضى التي حصلت في المجال السياسي في العامين السابقين من المفهوم أن تؤدي إلى التراجع لكن في مصر هناك قطاعات واسعة جداً ما زالت متعاطفة مع الشعارات التي طرحتها الثورة وما تزال مهتمة بلعب دور، وأعتقد أننا ارتكبنا خطأ ضخماً، وأقصد نفسي هنا بشكل خاص، أننا نفكر بالتوسع على مستويات مختلفة جغرافياً وأيضاً في المواضيع التي تتناولها المبادرة لكن لم نتوسع في محاولة جذب تمويل محلي ومن مواطنين مصريين في الخارج. هذا خطأ ضخم، وأعتقد فيما يأتي هذا مدخل مهم لضمان استمرارية المنظمات وضمان أن الجمهور الذي يحميها يبقى أوسع بكثير من الجمهور الذي يحميها حالياً.
لينا عطا الله: إن المجتمع المدني في مصر فيه عناصر كثيرة تُشكِّله وشكَّلت تطوره على مدار الوقت، إلى أي حد برأيك الحركة الحقوقية لها ثقل في هذا التشكيل خصوصاً أنه حتى اليوم هناك مسألة أن الحركة الحقوقية مبنية على منهج فكري لم يخلق أو يولد بالذات في هذا الجزء من العالم، والتي هي مسألة يدور حولها جدل كبير في الحركة الحقوقية في العالم كله. بصرف النظر عن هذ الإشكالية ، هل ترى أن الحركة الحقوقية في مصر كانت وما تزال مشكلاً أساسياً للمجتمع المدني؟
جاسر عبد الرازق: برأيي إن المكونات التي تشكل المجتمع المدني المصري، وتحديداً ما هو قريب منه في قضايا الشأن العام، قضايا حقوق الإنسان، مكوناته هي موجودة أيضاً في أشكال ثانية كثيرة سياسية وإعلامية. ما أحاول قوله هو أن المجموعات التي هي داخل الحركة في بداياتها كانت هي المجموعات الموجودة في التنظيمات الماركسية والناصرية المعارضة في ذلك الوقت. ليس بمعنى أن هذه المنظمات نشأت بالضرورة كي تبقى تنظيمات معارضة، لكن أغلبهم كانوا سياسيين وإعلاميين وأكاديميين موجودين في الجامعات، ويكتبون في الصحف، وموجودين في أحزاب سياسية، وهذه الخلطة مشكلة لمجتمع مدني، بدرجة ما، ما يزال موجوداً، لو نظرتِ إلى المجموعات التي تشتغل معنا، مثلاً الباحثين والمحامين، ستجدين أن أغلبهم منخرطون في أشكال أخرى من العمل العام. بهذا المعنى أتصور أن الحركة الحقوقية، والمكونات التي في داخلها والمكونات التي هي داخلها أيضاً من أحزاب وغيرها وجامعات ومنظمات أخرى، شكلوا وعياً وأثّروا في الخطاب السياسي على مدى الأعوام السابقة ولعبوا دوراً جوهرياً، في تقديري، في صياغة شعارات يناير، وأقصد الشعارات في الشارع، والتي لم يكتبها أحد في مكان معين. وكان هذا قريباً جداً من الخطاب الذي طرحتْه الحركة الحقوقية بمكوناتها على مدى ثلاثين سنة قبل الثورة، وأعتقد أن الحركة قادرة على مواصلة لعب هذا الدور رغم كل القيود، ومن المحتمل كما قلت سابقاً أن دخولنا في مجالات جديدة، وعملنا على الخطاب الديني، سيساعد في المراحل القادمة في أن يبقى هناك نقد مبني على أفكار إنسانية، ليس بالضرورة منافسة سياسية، وسيساعد هذا في شكل واسع في المرحلة القادمة من الثورة.