تلقي زكية سالم في هذه المقابلة الضوء على الفروق الدقيقة التاريخية للنشاط الاجتماعي النسوي في المغرب. تتضمن المقابلة التالية أربعة أجزاء، بحيث يمكنكم أن تنقروا عليهما بشكل منفصل. بوسعكم أن تقرأوا أيضاً النص العربي المدوّن المرافق.
زكية سليم
أستاذة مساعدة في علم الاجتماع ودراسات النساء والجندر في جامعة رتغرز حيث تدرِّس الحركات النسوية، الجندر، العولمة، الحركات الاجتماعية، الامساواة العالمية، وما بعد الكولونيالية. تشمل اهتماماتها كباحثة العرق، والامبراطورية والاقتصاد السياسي والحرب على الارهاب، وسياسات ابتنمية، والحركات والمجتمعات الاسلامية، والشرق الاوسط والعلاقات الامريكية. إن كتاب سليم"بين النسوية والاسلام" يوضح تداخل الانظمة العالمية للحقوق والبدائل المحلية، عبر النظر في التفاعلات بين الحركات النسوية وحركات النساء الاسلاميات
مقابلة مع زكية سليم
حوارته: سامية الرزوقي
صاغها باللغة العربية الفصحى أسامة إسبر
سامية الرزوقي: شكراً لك على مشاركتك لنا في هذا البرنامج في "ستاتوس"، هل يمكن أن تحدثينا عن دورك وعن دور المرأة في النشاط السياسي، ودور المرأة في المجتمع المغربي خصوصاً في سياق المدونة والشريعة بشكل عام؟
زكية: لقد دخلت مجال البحث في الحركات الاجتماعية وخصوصاً الحركات النسائية في المغرب، هذا من زاوية النضال داخل الحركة النسائية. وكنت قد بدأت في ١٩٩٥ وأسست جمعية نسائية لمساعدة النساء كي يشتغلن ويقمن بالأعمال اليدوية التقليدية إذ لم يكن معروفات ولم تكن لديهن الإمكانية لتأمين أسواق، إلخ. هذه هي الانطلاقة التي حدثت في البداية. وأنا تربّيت في تلك البيئة التي كانت تقدّر هذا المنتوج اليدوي الذي لم يُفقد كتراث بل أيضاً كمجال ومصدر للرزق. ونحن كنا في الثمانينات وكانت المغرب متخلفة وخاصة في مرحلة برنامج التعديل البنيوي المفروض من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على معظم مجتمعات الجنوب أو ما يُسمى بالجنوب العالمي. وكنت وقتها مدرّسة في المدرسة العليا للأساتذة في فاس، وكنت أرى أن كثيراً من الطالبات كن يرجعن كي يشتغلن في الأعمال اليدوية التي كانت تقوم بها الأمهات من قبل. وكان هذا المصدر الوحيد الذي لديهم للرزق. وهذا هو المكان الذي دخلتُ منه إلى الحركة النسائية، وأعني من مجال الاقتصاد. ولهذا كان منظوري للحركات الاجتماعية والنسائية اقتصادياً أكثر مما هو حقوقي. لكن بالطبع الجانب الحقوقي يأتي فيما بعد. لأنني في الحملة التي شاركنا بها، حملة المليون توقيع من أجل تعديل مدونات الأسرة، قانون الأسرة أو مدونة الأحوال الشخصية، شاركت كموقعة وليس كمناضلة في الجمعيات النسائية التي كانت موجودة. هذه هي تقريباً الخلفية، فقد دخلت مجال الكتابة عن الحركات الاجتماعية من باب التوثيق أيضاً لهذه الحركات الاجتماعية، لأنني كنت أعتقد أن الحركة النسائية من الحركات الجديدة في المغرب العربي والتي كان لها تأثير عميق ليس فقط في دور المرأة، فدور المرأة لم يكن غائباً بل مغيباً والحركة النسائية هي التي أبرزت هذا الدور للمرأة بشكل واضح، ولذلك فإن كتاب "بين الحركة النسوية والإسلام" انطلق من ضرورة التوثيق هذه للحركة النسائية في المغرب وقد قررت المجيء إلى الولايات المتحدة الأميركية وأدخل في نطاق برنامج الدكتوراه بعد أن كنت أستاذة في الجامعة، وكان لدي شهادة دكتوراه من قبل ولم أكن محتاجة لشهادة جامعية بل كنت محتاجة كي أعبّر أو أن أبلّغ باللغة الإنكليزية. وهكذا فإن هذا المنطلق ظل نسائياً وتنظيمياً، ولكنه أيضاً سياسي وتاريخي. وكنت أرى هذا الدور دوراً عميقاً جداً، ودوراً غيّر المعطيات على أرض الواقع بالرغم من أنني كنت أطّلع على معظم الكتابات. وقد لعبت الحركات النسائية في دوراً المغرب العربي، وخصوصاً في المغرب لأن المغرب كان آنذاك هو المنطلق إلى المغرب العربي لأن الظروف في تونس والظروف في الجزائر لم تكن تسمح آنذاك بأن تتنظّم النساء أو يتأطّرن، وكان التأطير يتم في المغرب، وكنا ندعو السيدات من تونس، جمعيات من تونس وجمعيات من الجزائر ومن موريتانيا لحضور مؤتمرات كانت تنظمها الحركات النسائية،والحركة النسائية في المغرب وخصوصاً الجمعية الديمقراطية والاتحاد العام النسائي، وكانت هذه تنظم اللقاءات داخل المغرب لأن الظروف في الجزائر لم تسمح بذلك، وخاصة في ظل الحرب الأهلية، وفي الوقت الذي كان فيه النظام التونسي لا يسمح بأي تنظيم مستقل عن النظام. في المغرب كان هناك نوع من الانفتاح على هذه المجالات. كان هناك نوع من الانفتاح السياسي خصوصاً بعد الأزمات السياسية في الثمانينات. وفي التسعينات كان هناك نوع من التفتح ولعبت النساء دور مهماً جداً، ففاطمة المرنيسي لعبت دوراً مهماً جداً في استقطاب مجموعة الرعاة الذين كانوا متواجدين في المغرب والناس الذين في الخارج، الذين يقومون بتمويل الإمكانيات لأن النساء يوثقن بالكتب.
فتلك الفترة كانت مهمة جداً بالنسبة للمغرب العربي، في إطار مغاربي للتنظيم. الآن بعد هذه المقدمة الطويلة التي أعددتها عن الحركة النسائية، أنا الآن أرى ذلك الدور لها في علاقته مع الحركات الاجتماعية الموجودة حالياً في المغرب. وكنت أرى العلاقة مع حركة ٢٠ فبراير مثلاً لأنه في إطار البحث الذي نقوم به الآن عن حركة عشرين فبراير في الكتاب الذي أقوم بتهيئته الآن حول الربيع العربي مع الأستاذة فرانسيس هاسو، لدي في هذا الكتاب تصوري الخاص حول ما يتعلق بالمغرب وحركة عشرين فبراير في المغرب لأن الجميع نظر إلى حركة ٢٠ فبراير بأنها لم تستطع تغيير أي شيء على أرض الواقع أو في سياسة الدولة، رغم أن الحركة لم تقل أبداً إنها تدعو إلى تغيير النظام لكن كان يُنظر إليها بأنها حركة فاشلة ولا تأثير لها. إن البحث الذي أعمل عليه الآن حول حركة عشرين فبراير هو أن الحركة النسائية لم تقم بحركة عشرين فبراير. وهذا مأخذ كبير يأخذونه على الحركة النسائية، أي كان هناك قطيعة بين الحركات الموجودة من قبل والحركة الشبابية الآن، أي ٢٠ فبراير. بالنسبة لي كنت أرى أن الحركة النسائية أثرت بعمق برؤية حركة عشرين فبراير وفيما يتعلق بدينامية الجندر، والعلاقات بين الذكر والأنثى، فيما يتعلق بدور المرأة، والاعتراف بدور المرأة كقيادية الآن وليس كمجرد عضو فحسب في حركة عشرين فبراير بل كقيادية في الحركة. وهذه مسألة لمستُها أنا كثيراً في بداية حركة عشرين فبراير، لمستُ أن الشابات والشباب كانوا يعملون بطريقة متساوية فيما يتعلق بتحمل المسؤوليات في كل النواحي، حتى في مواجهة وحشية الشرطة، ولم يكن يقلن نحن بنات أو يرجعوهم إلى الخلف. وفي نطاق التنظيم أيضاً. بالنسبة لي كنت أرى أن الحركة النسوية كفكرة، أعني حقوق المرأة والمساواة التي قبلنا بها، لعبت دوراً مهماً في تأطير البنيات الفكرية، وأعني حركة عشرين فبراير، رغم أننا نرى أن دور المرأة انحسر قليلاً الآن في حركة عشرين فبراير، لكن المساواة كفكرة في البداية كانت من منطلقات حركة عشرين فبراير، أي أن الرجال والنساء مستاوون في كل شيء. وقد تطرقتُ في البحث الذي كتبته عن حركة عشرين فبراير إلى الفرق بين الفكرة والتطبيق. وكان من المهم أن الشابات والشبان اكتشفوا أن العلاقة بينهم ليست علاقة بين تابع ومتبوع بل قائمة على المساواة. إن الإشكال مطروح ولكن في البنيات الفكرية لم تكن مسألة المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات مطروحة في البداية كمشكلة بل كمسلمة. التأثير الذي رأيته أيضاً هو أن هناك مجالات خلقتها الحركة النسائية لأن الحركة النسائية هي الحركة الوحيدة التي كانت في بداية السبعينات وهي غير الحركة النسائية ما بعد الاستقلال. بالنسبة للتي في بداية السبعينيات الانطلاقة الكبرى كانت في الثمانينيات والتسعينيات حتى عام ألفين. كانت هذه هي الحركة الوحيدة التي مشت في المغرب عبر العقود ما بعد الاستقلال،وهذا أثر كثيراً في الخطاب السياسي على مستوى وسائل الإعلام التي كانت مضطرة للكلام على هذا الموضوع بكثرة لأن الحركة كان لديها حضور قوي جداً. وهذا الحضور القوي خلق عدة مجالات للحركات الشبابية الموجودة حالياً في المغرب ومنها حركة عشرين فبراير. لأن الشباب صاروا يتحدثون عن مجموعة من الأشياء وقد تركوا ذلك الباب مفتوحاً، وهو أصلاً كان مفتوحاً، لأن أكبر مظاهرة حدثت في الشوارع بعد الاستقلال في المغرب هي ضد ومع قانون تعديل المدونة والذي كان داخل إطار مشروع مجتمعي مكتمل ولم يكن فقط تعديل مدونة بل على مستوى حقوق المرأة والذي وضعه سعيد السعدي في ذلك الوقت حين كان وزيراً مكلفاً بشؤون الأسرة. ففي 1997 كان هناك مشروع، المشروع الوطني لدمج النساء في التنمية. إذاً لم يكن على مستوى القانون الخاص بالأسرة بل كان دوراً شاملاً لتحسين وضعية المرأة في كل المجالات. إذاً كانت هذه المظاهرات موجودة، واحدة في الرباط عام 2000 وواحدة في الدار البيضاء نظمها الجانب النسائي مع عدة جمعيات حقوقية وناس عاديين ليس لهم انتماء سياسي أو حزبي ولا داخلين في الجمعيات. أما المظاهرة الأخرى فقد نظمها الإسلاميون في المغرب وحدثت في الدار البيضاء. إذاً هذه هي المظاهرات التي حدثت على مستوى الشارع ولم نر في المغرب بعد الاستقلال ما هو أضخم منها، وتتعلق بقضية المرأة. إذاً بوسعنا القول إن التظاهر في الشارع أسست له الحركات النسائية في المغرب والحركات الإسلامية أيضاً. ما قصدته أنهم فتحوا مجالات للشباب كي يكونوا موجودين. لم يكن هناك عنف أو دم لكن هذا ساعد في أن الشباب وجد هذه المجالات مفتوحة. هذه إذاً كانت الصلة بين الحركات النسائية والحركات الشبابية الموجودة الآن، أي أن المجال كان مفتوحاً، والخطاب السياسي كان موجوداً، وطريقة النقاش والحوار حول قضايا المرأة كانت موجودة في كل وسائل الإعلام، في الجرائد والتلفزيون والراديو، كل شيء كات يتناول هذه المسألة أي تعديل المدونة سواء كان معها أو ضدها وكانت المسألة تُناقش في المقاهي وفي الدور وفي المدارس والأقسام. إذاً كانت كل هذه المسائل مطروحة وهذا شيء مهم جداً. نذكر هذا في الخطاب السياسي وكيف أصبح الخطاب ممكناً، ليس فقط ممكناً بل طاغياً في كل الأمكنة. إذاً ما أريد قوله هو أن الشيء الإضافي الذي كنت أراه في حركة 20 فبرايرهو مشروع المساواة بين الشباب والشابات. إن الشيء الذي أضافوه أنهم لم يطرحوا فقط المساواة بين الرجل والمرأة بل مسألة العدالة الاجتماعية، وكنا نرى أن هذه القضية مهمة جداً، لأننا في الحركة النسائية، وأتكلم الآن كمناضلة نسائية أكثر مما أتكلم كمثقفة أو باحثة اجتماعية. كحركة نسائية لم نطرح مسألة العدالة الاجتماعية بالعمق الذي طرحته به حركة عشرين فبراير. نحن كنا نطرح مسألة المساواة، وكان لي رأي فيما بعد وكذلك انتقاداتي للفكر الليبرالي وللطريقة التي كانوا يتحدثون بها عن المساواة، وهذه أشياء لا نقدر عليها الآن. إذاً ما أود قوله هو أن حركة ٢٠ فبراير طرحت مسألة العدالة الاجتماعية، وهذه قضية أكبر وأخطر وأعمق من مسألة المساواة بين الجنسين، لأن مسألة المساواة بين الجنسين تبقى مسألة قانونية وتعديل القانون يحل هذه المشكلة. وبالبنسية للتعاطي مع القانون والذهاب إلى المحكمة والحصول على طلاق كان شيئاً مستحيلاً، لكن حُلَّ جزء من المشكلة، وليست هذه هي المشكلة المطروحة الآن، ولكن حين نتكلم عن المشكلات الاجتماعية نتكلم هنا عن أشياء أعمق وأخطر من مجرد تعديل القانون لأن العدالة الاجتماعية لا تُحلّ بتعديل القانون، العدالة الاجتماعية تُحل بعدالة، بعدالة بالمعنى الصحيح للكلمة على كل المستويات، لأن الطرح طرح اقتصادي، وكان هذا هو المنطلق في البداية، والطرح الاقتصادي يعني التكلم عن تساوي الفرص، لكن كان هناك غياب الوضوح في كل شيء، فلم نكن نعرف كيف نحصل على وظيفة ولماذا وكيف، إلخ. ولم نكن نعرف كل هذه الأشياء لأنه لم يكن لدينا وضوح، كما لو أننا نعيش خارج القانون، الذي من المفترض أن يحمينا لكن لا يمنحنا حقوقاً، ولماذا تطبق القوانين عليك ولا تطبق علي كأنني أعيش خارج القانون. إن حركة عشرين فبراير جعلتني متفائلة رغم أننا الآن لا نستطيع القول إننا كنا حركة، كنا فكرة، وما زلنا حتى الآن رغم أننا لم نكن حركة كما رأينا في بداية الربيع العربي. وفكرة ٢٠ فبراير فكرة تعتنقها مجموعة من الأشخاص، ربما حتى دون أن يعرفوا. وأعتقد أن هذه هي الفكرة التي رأيتها الآن لدى السيدات والأشخاص الذين خرجوا من أرضهم التي عاشوا فيها قروناً والتي مُنحت لهم من طرف الدولة والدولة نفسها التي منحتهم الأرض أخذتها منهم وأخرجتهم والمسألة مطروحة منذ مارس. لماذا أولئك الناس واقفون مع هؤلاء الناس، لأنهم هم الناس الذين كانوا في إطار حركة ٢٠ فبراير وهم أشخاص وليسوا جمعيات، إذاً أرى أنا أن الفكرة لا تموت، قد تكون حركة والحركة تستمر ولكن الفكرة التي تبنتها أو تلقتها الحركة تبقى. وهذا ما أراه رغم وجود عدة مشاكل ولم يكن التفاؤل موجوداً كما هو الأمر في بداية انطلاقة الربيع العربي، لكنني ما أزال حتى الآن أرى أنها كانت أفكاراً، وتلك الأفكار تبناها أشخاص وآمنوا بها، وهم الذين نراهم الآن في الشوارع، ونراهم الآن يتبنون حالات أولئك الأشخاص، السيدات اللواتي تعرضن للاغتصاب وتعرضن للتعذيب أو السيدات اللواتي تعرضن للتشريد بين عشية وضحاها وفقدن كل شيء، وهؤلاء الأشخاص هم الذين نراهم الآن على مستوى الميدان، كي يشتغلوا ويبحثوا عن وسائل كي يساعدوا، وهؤلاء الأشخاص لا يعرفهم المرء لأنهم ليسوا مؤطرين لا حزبياً ولا سياسياً، لا ينتمون لجمعيات والقضية بالنسبة لهم قضية بحث شخصي وليس مسألة جمعية
سامية: تحدثت عن تغيرات الحركات النسائية في السبعينيات والثمانينيات، وكيف تغير الوضع، وقلت إن حركة عشرين فبراير أبقت الباب مفتوحاً، وتحدثت عن التغيرات الاجتماعية والسياسية، هل التغييرات هي من ناحية اختلافات الأجيال، أم تتعلق بتغيرات النظام المغربي، أو تغيرات الوضع السياسي الاقتصادي من السبعينات حتى الآن، وكيف أثر هذا على النشاط النسوي، أو النشاط بشكل عام في المغرب؟
زكية: هذا السؤال مهم لأن هناك عدة زوايا يرى منها الناس ما حدث في المنطقة العربية، وفي المغرب بصفة خاصة. وأتحدث الآن بتعميم أكبر، أعتقد أن التغييرات التي حصلت حول ما يسمى بالحرب على الإرهاب، لكن لم تكن هذه الزاوية التي ندخل منها، لكنني أبغي الدخول الآن، أعتقد أن ما حصل في الحرب على الإرهاب، وخاصة بعد الحرب الأميركية على العراق، والإشكالات المتعلقة بصعود القاعدة، والإشكالات المتعلقة بعولمة الخطاب حول الإرهاب، وعولمة الاختراقات الكبرى لحقوق الإنسان بدافع الحرب على الإرهاب، أدى كل هذا إلى خلق عدة أشياء. خلق أولاً نوعاً من التمرد على الأوضاع السياسية، ولم يكن لهذا التمرد مظهر واحداً بل عدة مظاهر أحدها هو التطرف والمظهر الآخر هو تعميق الرؤيا والخطاب والنضال حول مجال إشكالية حقوق الإنسان. طبعاً في المغرب، لعبت الدولة المغربية والحكومة المغربية دوراً مهماً في ما يتعلق بالسياسة الأميركية للحرب على الإرهاب، إذاً نحن كنا داخل إطار الحرب على الإرهاب ليس كمؤسسات دولة فقط بل أيضاً كمواطنين. ما سأقوله هو أن هذا الإحساس بالقهر رأيناه في عدة مظاهر لكن أحد هذه المظاهر هو الموسيقى مثلاً وكان هذا من مجال اهتمامي بعد الكتابة وتتعلق بمجال الهب هوب والراب، ففي هذا الغناء كنا نرى تمرداً على هذا الواقع، كنا نرى هذا التمرد في الراب وفي الأغاني. وكما تعرفين إن الراب في المغرب هو من أقدم الفنون بالمقارنة مع المنطقة العربية، وكان يتجلى في هذا الراب التمرد على الأوضاع كأوضاع اجتماعية وأوضاع سياسية وكقهر وظلم. وأرى أن الحرب على الإرهاب زادت أكثر من نقاط الضعف لدى الحكومات الموجودة وجعلت الكثير من الشباب يتمردون على الخطاب الإسلامي وعلى خطاب الدولة، لذلك إن المسألة لم تكن رجوعاً إلى مسألة العدالة الاجتماعية التي تحدثت عنها. إن العدالة الاجتماعية هي جزء من الخطاب، وهذا نابع من مسألة الإحساس بالقهر والإحساس بالظلم الذي مورس على هذه المجتمعات. إذاً في الثمانينيات المسألة التي كانت مطروحة وشعرنا بها مباشرة هي غياب الفرص، وخاصة فرص العمل، لأن الناس بعد الاستقلال لم يكتسبوا الخبرة، أي تحصلين على دبلومات لكن لا يكون عندك خبرة، وكان هناك تركيز على المدن في ما يتعلق بسياسات الدولة، أما البوادي والمناطق الأخرى فلم تحظ بذلك، فالمدن هي التي حظيت بالاهتمام وكذلك الموظفون المدنيون المرتبطون بالدولة أما القرى فلا، وبدأت المشاكل مع جيلنا في الثمانينيات الذي حصل على الشهادات الجامعية، إذ لم يكن هناك إمكانية لتأمين عمل. إذاً هذه هي البدايات التي كانت لدينا والحركات التي وُجدت كانت تتمحور حول العاطلين عن العمل، وكانت هناك الحركة النسائية لكن حركة العاطلين عن العمل كانت ولازالت من الحركات المهمة جداً التي جلبت مباشرة الاحتجاج إلى الشارع لأنها بدأت من الشارع وكان الاحتجاج في الشارع على الدوام. إذاً كان الشارع موقعاً للاحتجاجات في الثمانينات حول مشاكل معينة ومحددة، مثلاً: تعديل المدونة، الحصول على عمل، ما نراه الآن احتجاجات ليست منظمة كما حصل في الثمانينيات والتسعينيات لكنها ما تزال موجودة لكنها احتجاجات مبعثرة، أي تحدث في عدة مجالات وعدة مناطق، ويمكن أن نقول في جميع المناطق، أي مغطية للتراب الوطني، ورغم أنها لم تظهر بكثرة إلا أن جلّ هذه الاحتجاجات كانت تقوم بها النساء. وإذا ما عدنا إلى مسألة العدالة الاجتماعية كان هناك إحساس بحقوق الناس كالتأمين الصحي، وفي الحصول على الدعم من مؤسسات الدولة، وقد شهدنا عدة احتجاجات قامت بها النساء ، وثمة فرق عما جرى سابقاً وهو فعلاً أن التكنولوجيا الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي أبرزت عدة احتجاجات كان من الممكن ألا يراها المرء في الثمانينات. وهناك أشياء لم تكن في السابق موضوعاً للاحتجاج لكنها صارت كذلك لأن هذه الحركات الاجتماعية لم يكن لها دور في تغيير النظام بشكل عميق، لكن دورها كان طرح خطاب الحقوق والمواطنة بمعنى أنا مواطن ومن حقي أن تُلبّى حقوقي وأن أحصل على عمل لدى الدولة أو لدى شركة، وهذا شيء مهم لو فكرنا فيه لأننا كنا نتكلم عن الليبرالية الجديدة وعن العولمة وعولمة الاقتصاد الحر التي تنطوي على معان خطيرة بالنسبة للناس في المجتمعات لأننا نرى الآن حتى في أوربا مظاهرات كما في إيطاليا الآن والمظاهرات في أسبانيا وكلها مظاهرات ضد الاقتصاد الحر، ونحن بدأنا بهذا، وأعني بنحن الجنوب المعولم، فقد فهم الناس أن غياب مؤسسات الدولة وغياب دور الدولة يعني أنك معرض لأن تعمل وألا تعمل، معرض لأن تعمل ولكن بدون أن يكون لديك تغطية صحية، ويمكن أن تعمل ولكن لا يوجد عدالة اجتماعية، إذا كان لديك وظيفة مع الدولة فهذا يعني امتلاك الأساسيات والحصول على راتب تقاعدي. كانت حركة المعطلين تشكل بداية بالنسبة لنا في المغرب لمعارضة السياسات الليبرالية الجديدة ولعبت دوراً كبيراً في جعل الدولة تؤمن الوظائف والخدمات. وكان الحل الوحيد أمام الدولة هو دمج المعطلين داخل القطاع العام رغم كل المفاوضات التي جرت بينهم، قالوا لهم اتركوا القطاع الخاص، القطاع الخاص لن يخدمكم، فقالوا لهم نحن لا نبغي القطاع الخاص، بل نبغي وظيفة مع الدولة. إذاً المطلوب من قبلهم هو أن تلعب الدولة دورها كدولة أي أن تخدم المواطن وأن تؤمن فرص العمل للناس. هذه بصفة خاصة الأدوار التي أرى أن الحركات الاجتماعية قد لعبتْها والتي ربما لم يُنظر إليها بالطريقة التي نظرنا إليها بها.
سامية: ما الفرق بين القطاع العام والقطاع الخاص لدينا في المغرب؟ في الدول العربية نرى التغييرات النيوليبرالة كيف تُطبق وكيف تكون القطاع الخاص كشيء خارج من النظام. فمثلاً نرى أشخاصاً كانوا مسؤولين ووزراء وأصبحوا شخصيات مهمة في القطاع الخاص. كيف الناس داخل هذه الحركات وخاصة لدى المعطلين يفرقون ما بين القطاع الخاص والقطاع العام؟ مثلاً كيف نعرّف دور العائلة الملكية في القطاع الخاص في المغرب، كيف ترين أنهم يفرقون بين هذه القطاعات؟
زكية: من تقصدين الذين يفرقوا؟
سامية: أقصد المعطلين. ثم إننا نرى أن أشخاصاً مهمين في الحكومة يلعبون دوراً كبيراً في القطاع الخاص؟
زكية: هذه مسألة تُدعى في المغرب "الخوصصة"، وتدعى في المشرق الخصخصة، وهي التي ساعدت في تحويل ممتلكات تملكها الدولة لأشخاص في الدولة نفسها، الذين كانوا مديرين للمكاتب التي كانت كلها تابعة للقطاع العام وأصبحت تابعة لأشخاص معينين. إذاً المشكلة هي عولمة النيوليبرالية، والتي كان جزء منها هو خلق قنوات تضامنية ما بين البرجوازية الموجودة في دول الشمال وبين البرجوازي الصاعد الموجودة أو التي خُلقت في دول الجنوب فهي لم تكن موجودة بل أُنشئت. أنا لا أقول إن المعطلين لم يعرفوا هذه المعادلة ولكن ما أقوله إن المعطلين ساهموا كثيراً في الحد نوعاً ما من تسريع الأمر، وهم الذين بدأوا في الثمانينات وكانوا دوماً كل عام وكل نهار وكل يوم أمام البرلمان يقولون نحن لا نريد القطاع الخاص بل نريد الدولة. إذاً هم ساهموا إلى حد كبير في الحفاظ على شيء من ممتلكات الدولة رغم أنهم لم ينظروا إلى الأمور هكذا، لكنني أنا شخصياً كنت أرى بأنهم ساهموا كثيراً لأنهم الأشخاص الذين لم يغادروا الشارع، وكانوا دائماً فيه، ودائماً كان هذا طلبهم، أن يخدموا في الدولة، في قطاع التعليم أو في الجامعات مع الدولة، وأن يخدموا كمهندسين مع الدولة أو دكاترة مع الدولة، وهذا يعني أن الدولة ستبقى دوماً قائمة كدولة لكي تخلق مناصب شغل في القطاع العام. إذاً لا نقول إنهم لم يعرفوا هذه المسألة، وهذا من صميم التعريف للنيوليبرالية والخصخصة،فما الذي يُخصخص؟ إنه ما ينتمي إلى القطاع العام. ومن يمتلك هذه الإمكانية؟ إنهم الذين
يسيطرون على القطاع العام.
سامية: برأيك لماذا لم يكن هناك تضامن ما بين حركة المعطلين وحركة عشرين فبراير، وكنا نراهم في نفس الشارع ويستخدمون نفس الشعارات أمام البرلمان نفسه، لم يكن هناك تضامن بل على العكس كانوا يبعدون بعضهم رغم أن المطلب مشترك وهو مسألة المساواة، فبرأيك لماذا؟
زكية: أعتقد أنه كما ذكرت في بعض كتابي وما كتبته عن حركة ٢٠ فبراير هو أن الحركة النسائية بنت قضيتها على الجانب الحقوقي، والجانب الحقوقي يحتاج إلى مؤسسات الدولة كي تحميه. بمعنى أن الحركة النسائية بنت، خصوصاً في التسعينيات، مطالبها على أساس تغيير مجموعة قوانين، ولكن تلك القوانين كانت دائماً تحتاج إلى تغيير وما يقوم بتغيير القوانين هو الدولة، ولهذا كان للملك دور رئيسي في الحركة النسائية وحتى في الحركة الإسلامية، بحكم أن الملك لديه أدوار دينية، وثم لديك الحالة الخاصة وهي دور الملك كوسيط ما بين مجموعة من الفعاليات ومجموعة من الفاعلين السياسيين، إذاً هذه الوساطة الموجودة في الدستور في المغرب هي التي أعطت للحركة النسائية نوعاً من الضمان فيما يتعلق بعدم طغيان جانب على الجانب الآخر، والمقصود هنا هو الجانب الإسلامي، أي جانب حركات الإسلام السياسي، أي عدم طغيان جانب منهما على سياسة الدولة. لذلك حركة ٢٠ فبراير كحركة كانت تنادي بالتعددية فقد كان هناك تعدد مشارب سياسية وحزبية وغيرها والتي هي بالنسبة للحركة من مكوّنات المجتمع المغربي. إذاً الحركة النسائية لم تقبل مسألة التعددية بما فيه الاشتغال مع الحركة الإسلامية ودائماً كان هناك تخوف في الحركة النسائية من طغيان جانب الإسلام السياسي على مطالب أي حركة اجتماعية مهما كان نوعها.
ثم كانت هناك مسألة الخوف من تعويم حقوق المرأة في إطار شعارات يمكن أن تكون شعارات فضفاضة وغير قابلة للتحقيق على المدى القريب. إذاً هذا هو التخوف الذي كان موجوداً من عدة نواح: أولاً الخوف من سقوط مؤسسات الدولة التي تحمي إلى حد ما بعض الحقوق، ثم ضرورة وجود هذه المؤسسات التي كانت ضمن شرعنة حقوق المرأة من الناحية القانونية الصرفة، ثم الخوف من طغيان جانب الإسلام السياسي، ثم النقطة الثالثة هي دور الملك. إذاً في الوقت الذي كانت فيه حركة عشرين فبراير، وخاصة بعد أن شهدنا سقوط بعض الأنظمة، وأعني بعض رؤوس الأنظمة، لا الأنظمة، كان هناك خوف من المجهول. ثم كانت هناك مسألة مهمة يجب أن نذكرها هو أننا تكلمنا في البداية على الأجيال، أي على أجيال مختلفة، وتحدثنا عن الفرق بين أناس في الخمسينات من عمرهم والستينيات وأشخاص عمرهم في العشرين والتاسعة عشر. ولم نكن نغض الطرف عن هذا الفرق ما بين هذه الأجيال، ومعظم الناس الذين تحدثت معهم في حركة ٢٠ فبراير كلهم متخرجون من مدارس الدولة. فأن شخصياً لم ألتق مع أي شخص متخرج من مدرسة خاصة، كل من رأيتهم أتوا من جامعات الدولة. وهناك موضوع آخر لم تذكريه ولم أذكره أنا هو الحديث عن فشل المنظومة التربوية، كانوا يتكلمون أن النظام فاشل وأن التعليم العمومي لا يملك قيمة وأنه لا يخرّج إلا الفاشلين، إلخ لكنني رأيت أن جلّ أعضاء حركة ٢٠ فبراير تخرجوا من نظام التعليم العمومي وليس من التعليم الحر، وهناك شيء آخر أعتقد أنه مهم وهو أن كلهم كانوا منخرطين في الجامعات وكانوا ناشطين داخل الحركات الحقوقية النضالية وخصوصاً الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وقال لي كثير من الذين تحدثت معهم أنهم كانوا يتابعون الجمعية المغربية لحقوق الإنسان وما تقدمه. إذاً كان هناك تربية حقوقية موجودة، لكن الشباب انخرط أيضاً في تلك الجمعيات الحقوقية، وكذلك كان هناك تأثير البعثات الغربية والأوربية الثقافية الموجودة في المغرب. وقد لعبت أميركا دوراً يتعلق بتأطير الشباب بإطار ما يُسمى بالديمقراطية، في إطار ما يُسمى مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط، والتي قدمت مجموعة من الإمكانيات للشباب كي يسافروا إلى أميركا ويلتقوا بأشخاص هناك، أي نوع من التفتح على الثقافة الديمقراطية الأميركية والتي لعبت دوراً أيضاً في أن الشباب لم يكونوا فقط منغلقين على أنفسهم في المغرب بل كان لديهم اتصالات مع شباب آخرين خارج المغرب، وهناك الذين لم يولدوا في المغرب ومع ذلك هم ناشطون داخله بالرغم من أنهم يعيشون في أميركا ولديهم ثقافة أميركية لأنهم دخلوا المدارس الأميركية، إلخ ورغم ذلك لديهم حضور على مستوى نضالي داخل المغرب.
سامية: شكراً زكية سليم لوجودك معنا