سلام فياض: المجتمع المدني يحصد ما زرعته يداك

[\"???? ????. ?????? \"?????????] [\"???? ????. ?????? \"?????????]

سلام فياض: المجتمع المدني يحصد ما زرعته يداك

By : Wafa Abdel-Rahman وفاء عبد الرحمن

ترددت في نشر هذا المقال، وخفت أن يُفهم أنه اصطفاف مع الرئيس واجراءاته ضد سلام فياض، وللأمانة أنا ضد سياسات الرجلين الذين تحالفا لسنوات وأوصلانا لما نحن فيه!

لماذا ألوم سلام  فياض ولا ألوم الحمدلله؟

سلام فياض قدم نفسه صاحب رؤية ومشروع وفوق ذلك لديه أيديولوجية وفكر ليبرالي (بعيداً عن اقتصاد السوق المفتوح) يؤمن بالحريات والتعددية والديمقراطية.  في حين أن الحمدلله لم يقدم نفسه إلا موظف عمومي ينفذ ما تم خطه لحكومته من مهمات أربع ليس عليه الاجتهاد ليضيف لها مهمة خامسة. الحمدلله- رئيس جامعة عريقة- لم يطلب منه أحد أن يقدم مشروع حكم ولا وجهة نظر في طبيعة النظام السياسي ولا طبيعة الحكم.  الحمدلله جاء لاستكمال ما بدأه سلفه وتنفيذ ما يأمره به رئيسه ونقطة.

 تعود محاولات تدجين واحتواء مؤسسات المجتمع المدني منذ وضعت السلطة أقدامها في غزة وأريحا، واستمرت المحاولات متخذة شكل قوانين ولوائح تنفيذية أو قرارت ادارية، ومرة على شكل تحريض ممنهج واتهامات بالارتباط بالخارج وبالأجندات الدولية، وبالتطبيع والتخوين، ومرة على شكل تكوين جمعيات ومؤسسات تابعة بشكل كامل ومرتبطة بجهاز امني أو حزب حاكم. ولكن ذروة الانقضاض على المجتمع المدني برزت منذ الانقسام الفلسطيني 2007 ليومنا هذا.

بدأت باعلان حالة الطوارئ- من قبل الرئيس- التي كانت تعني اطلاق يد الأمن في كل مناحي الحياة، تلاها قرار- غير قانوني- لرئيس الوزراء سلام فياض بحل وتجميد أرصدة 103 جمعية خيرية، بدون المرور بالاجراءات القانونية المتبعة، وبدون قرار محكمة وأطلقت يد وزير الداخلية للتدخل في مؤسسات المجتمع المدني.

رغم هذا التغول، صمت المجتمع المدني كثيراً- قيادته تحديداً- تجاه سياسات فياض الاقتصادية والأمنية، فمن جهة حُسِب لفياض انهاء حالة الفلتان الأمني التي سادت قبله، ومن جهة ثانية كان فياض يحمل شرعية دولية ودعم دولي يحتاجهما المجتمع المدني، كما قدر المجتمع المدني لفياض قبوله لمنصب في مرحلة تاريخية سوداء رفض أي مسؤول أن يسجل التاريخ اسمه فيها، والأهم أن فياض اهتم بعقد لقاءات دورية طويلة مع قيادات المجتمع المدني، وكتاب الرأي والصحافيين، لدرجة أن تخيل هؤلاء أنهم يؤثرون في صناعة القرار- بل أنهم جزء منه-، في حين أن فياض كان يستمع لهم ويمازحهم، وفي النهاية يعمل ما يراه هو!

فياض تنازل عن سيطرته على الأجهزة الأمنية في يوليو 2011- أو أُرغم على التنازل لصالح الرئيس-، فلا يمكن لوم من جاء بعده لعدم قدرته على استعادة هذه السيطرة على تلك الأجهزة التي لم يرى فياض (أثناء سيطرته عليها وبعد فقدانه للسيطرة) من ضرر في تخصيص موازنة تتراوح بين 30-38% من موازنة السلطة لصالحها على حساب الفئات المهمشة والقطاعات الأساسية، وتحديداً الزراعة لمجتمع فلاحي، رغم الخطاب الجميل للصمود ومواجهة الاستيطان، ورغم الانتقادات التي وجهها لمجتمع المدني ولا يزال، إلا أن الاستجابة صفر!

الهيمنة الأمنية لا تستوي واطلاق الحريات العامة، وهو ما يدركه أي ليبرالي صغير، الهيمنة الأمنية تعني تبرير الانتهاكات وصناعة نظام فردي –ديكتاتوري- يتناقض وخطاب بناء المؤسسات!

ولكن الهيمنة الأمنية تتساوق مع التنازل عن صلاحيات أقرها القانون الأساسي، وتتساوق مع تغييرات قانونية تطال حرية وعمل المجتمع المدني.
رغم ارتياح المجتمع المدني في الضفة لقرار الرئيس بقانون رقم (6) 2008 بشأن تعديل قانون الشركات، والذي أجاز للمرة الأولى تأسيس شركات غير ربحية، إلا أن النظام الذي جاء على شكل قرار لمجلس الوزراء رقم (3) لسنة 2010، جاء مخيباً للآمال وبعيداً عن روح قانون الجمعيات، حيث يضع الصلاحيات كافة في يد وزير الاقتصاد بتنسيب من مراقب الشركات. ورغم الاحتجاج الخجول، لم يتغير القانون!

وفي 2011، أصدر الرئيس تعديلاً على قانون الجمعيات الخيرية والهيئات الأهلية بحيث يسمح بتحويل أموال الجمعيات التي يتم حلها لخزينة السلطة، رغم ان القانون الأصلي تحدث فقط عن تحويل الأموال والمنقولات لجمعية شبيهة.
وفي 2012، صدر الرئيس قراراً بقانون لتشكيل "هيئة شؤون المنظمات الأهلية" وعين على رأسها عضو لجنة مركزية لحركة فتح، في تجاوز لصلاحيات رئيس الوزراء المنصوص عليها في المادة (6) من القانون الأساسي، وهي ليست الهيئة الوحيدة التي تم تجاوز رئيس الوزراء، ولكن الأخير تنازل طوعاً عن صلاحياته تجاهها، ليرتبك المجتمع المدني مرة أخرى، تجاه هذا الاجراء غير المفهوم، وعلاقته بقانون الجمعيات والهيئات المرجعية التي حددها القانون من وزارة الداخلية- كجهة تسجيل- ووزارة الاختصاص كجهة اشراف ومتابعة.

واليوم يكمل الحمدلله ما تم البدء فيه فيما يتعلق بقانون الشركات غير الربحية، حين صادق بتاريخ 7 يوليو 2015، على تعديل لنظام الشركات غير الربحية، وجعل مجلس الوزراء مرجعية لتحديد مصادر دعم هذه الشركات وأوجه الصرف فيها- فيما يرى المحللون أنه يستهدف سلام فياض وشركته غير الربحية بعد أن ترك مربع الحكومة وانضم لمربع المجتمع المدني، ويبدو انه سيكون من أوائل من سيدفعون ثمن التغول الجديد على المؤسسات، هذا التغول الذي أسس له أثناء حكمه!

ويبدو أن الجمعيات الخيرية والهيئات الأهلية لن تسلم من قرارات الجلسة (59) لمجلس الوزراء الحالي، الذي قرر تشكيل لجنة فنية لدراسة الإطار القانوني للجمعيات الخيرية والهيئات غير الحكومية تحت شعار تطوير قدرة وزارات الاختصاص على متابعة شؤوون الجمعيات.. يعني لن يسلم أحد من القرارات الجديدة بغض النظر عن شكل التسجيل.

ليست شماتة فبما يتعرض له رئيس الوزراء الأسبق، وليست مراجعة شاملة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي قام باتخاذها وندفع ثمنها كمجتمع مدني ومجتمع فلسطيني ككل، بل هي رسالة تحذير للمجتمع المدني الذي اختار الصمت في كثير من الأحيان، وقبِل الاحتواء في أحيان أخرى.

سلام فياض استقال وغادر –كعادة كل المسؤولين الفلسطينيين- ولم يعتذر للشعب الفلسطيني عن أي من سياساته ولو تحت غطاء "أنني اجتهدت وقد أكون مخطئاً" ولن يعتذر للمجتمع المدني الذي أصبح جزء منه ويدفع معه ثمن السياسات الأمنية والحلول الأمنية، ليصبح  (أي سلام فياض) نسخة من كل من سبقوه وسيأتون بعده، ولا عزاء للناس!

[نشر المقال على شبكة "نوى" ويعاد نشره بالاتفاق مع الكاتبة]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • Quick Thoughts: Wafa Abdel-Rahman on Palestinian Elections

      Quick Thoughts: Wafa Abdel-Rahman on Palestinian Elections

      On 15 January 2021, Palestinian President Mahmoud Abbas issued a decree mandating elections for the Palestinian Authority (PA) presidency and parliament, as well as the Palestine Liberation Organization (PLO) Palestine National Council, all to be held later this year. With numerous similar yet unconsummated announcements during the past decade, Palestinians are nevertheless preparing for elections in 2021 more seriously than in recent years. Mouin Rabbani, editor of Quick Thoughts and Jadaliyya Co-Editor, interviewed Palestinian analyst and General Director of Filastiniyat Wafa Abdel-Rahman to get a better understanding of recent developments and their impact on the Palestinian political landscape.

    • غزة.. مليونا جريح على أعتاب العيد

      غزة.. مليونا جريح على أعتاب العيد

      يهاتفني صديقي العزيز المقيم في رام الله "بدي أبعث عيدية لأمي في غزة، والبنك مش راضي يحول، شو أعمل؟"

      يهاتفني أخي "مريضة من غزة ستصل رام الله من المقاصد لإجراء فحوصات ولا مكان ولا تغطية لإقامة المرافقة، دبريها"

    • تركيع حماس لن ينهي الاحتلال

      تركيع حماس لن ينهي الاحتلال
        لا أخفي سرا بالقول انني اختلف مع حركة حماس منذ التأسيس، اختلفت مع ارتباطها الإخواني، وترسيم الصراع ضد الاحتلال الصهيوني على قاعدة دينية (لست مع تديين السياسة)، ولاحقاً اختلفت مع حماس "نظام الحكم"

تنظيم المخلّ بالنظام؟ الباعة المتجولون والدولة التنمويّة

 عندما أصدر الرئيس مرسي في العشرين من تشرين الثاني (من العام الماضي) مرسومه المثير للجدل والذي يقع خارج صلاحياته الدستورية، والذي قام لاحقاً بإلغائه جزئياً جرّاء ضغط شعبي هائل، وعد باستعمال صلاحياته التشريعية الإستثنائية الممنوحة له فقط في حدود مقلصة للغاية. وعندما قام فعلياً بممارسة هذه الصلاحيات، قام بذلك سريعاً من أجل سنّ قانون رقم 105/2012 وذلك في خضم ما بات يوصف –دون مغالاة- باللحظات الأكثر حسماً في تاريخ مصر الحديث. حتى المحلل السياسي الأكثر تمرّساً يمكن أن يغفر له إذا ما افترض من باب السذاجة أن هذا القانون يتعلق بالاستفتاء الوشيك على مسودّة الدستور التي أدت الى استقطاب حاد البلاد، أو أنه يتعلق بدور الجيش في الاقتصاد. إلا أن ما يثير الاهتمام هو أن قانون 105/2012 كان قد صُمم من أجل زيادة الإجراءات العقابية ضد الباعة المتجولين، فقد رُفعت العقوبة على الإخلال المنصوص في القانون رقم 33/1957، والتي كانت، حتى ذلك الوقت، تنظم عمل ما يقدر بخمسة ملايين بائع متجول في مصر؛ من شهر واحد إلى ثلاثة أشهر سجن والى خمسة آلاف جنيه غرامة بدلاً من ألف جنيه. لكن، هل كانت هذه على ما يبدو واحدة من إخفاقات مرسي اللانهائية في الأسابيع الأخيرة التي تعكس عدم تواصله بتاتاً مع الحقائق السياسية؟ أم أن هناك المزيد مما يمكن قراءته في مثل هذا القرار من حيث طبيعة علاقات الدولة والمجتمع، الاقتصاد والحيز العام في المرحلة الثورية الحالية؟

إن ثورة 25 يناير، والثمانية عشر يوماً الصاخبة في ميدان التحرير والمسيرات والاحتجاجات العملاقة والاعتصامات التي تلتها والتي اجتاحت البلاد منذ ذلك الوقت، قد أدت الى أكثر من مجرد إسقاط حسني مبارك. فهي تطرح تحديات لهؤلاء الذين خلفوه. الثقافة السياسية الجديدة التي نشأت في صحوة هذه الثورة، كانت قد أبرزت في المقام الأول، الحسّ الفردي والجماعي للمطالبة بالحرية. وعليه فقد قامت بتغيير ممارسات وإدراكات حول الحيز العام. فقد قام النظام التقليدي للحفاظ على الأمن في الحيز المديني المصري، معززاً بكل من قانون الطوارئ المشهور وحضور بوليسي مكثف في الشارع والجدران العالية المنتشرة حول المجمعات السكنية المسوّرة ومراكز التسوق، بإرهاب المواطنين لوقت طويل وحدّ من قدرتهم على استملاك الحيز العام. سواء كانوا نشطاء يدفعون للتعبئة ضد النظام أو كانوا عشاقاّ يبحثون عن لحظات حميمية سريعة، أو فقراء يأملون بلحظات من الراحة من شقائهم اليومي الطاحنّ؛ فقد مُنع المصريون جسدياً من الوصول إلى الحيز العام. الإحساس بالقوة الكامنة الذي تم الحصول عليه أثناء الخروج الى الشوارع على مدى العاميّن الماضيين لم يتمكن من إلغاء حكم السيطرة بالكامل ولكنه بالتأكيد أدى الى ما بات يسميه الكثيرون "إعادة الاستيلاء" على الحيز العام. لا يمكن بعد اليوم تقييدالملايين التي اختبرت الحرية عبر الخروج الى الشوارع للتظاهر، للتناقش وتبادل الأفكار مع رفاقهم من المواطنين الذين لم تتح لهم فرصة التلاقي علناً من قبل، من قبل النظام القمعي ذاته، على الأقل ليس بشكل تام.

إلا أن إكتشاف فرص وموارد جديدة عادة ما يؤدي إلى معارك على الملكية والاستحقاق. لذلك فالمقدرة على إستعادة الحيز العام سرعان ما خلقت نقاشات حادة حول أحقية الوصول لهذا الحيز، من يتوجب إقصاؤه وما هي قواعد التواصل التي يجب اعتمادها بين المواطنين من ذات الدولة. الفئات السياسية المتحاربة قدمت مثالاً لهذه المعركة الجديدة في حملاتها للمطالبة بنسب مواقع تجمّع معينة لها، وعلى رأسها ميدان التحرير الذي بات موقعاً أيقونياً. وكان رسم كاريكاتوري تم تناقله بشكل واسع على الفايسبوك بعد الصدامات بين القوى المعارضة والمؤيدة لمرسوم مرسي الرئاسي حول استعمال ميدان التحرير كبؤرة الزلزال لحملاتهم الشعبية لتعبئة الجماهير، قد عكس هذا النزاع بشكل كبير. ويقترح الرسم الكاريكاتوري مجموعة من القواعد "لجدول ميدان التحرير"، حيث يتم حجز أيام السبت والإثنين والأربعاء لمؤيدي السلفيين والأخوان المسلمين، بينما تُحجز أيام الأحد والثلاثاء والخميس للثوار. وأخيراً فإن يوم الجمعة قد تم تحديده للصيانة والتنظيف وتبادل أسرى "الحرب". إلا أنه، ومنذ 25 يناير 2011، تعدّت المعارك حول ملكية واستحقاق الحيز العام إلى ما هو أكبر من الصراعات الدائرة بين القوى السياسية المتحاربة. الإمكانيات الجديدة لاستحقاق الحيز العام أحيت مخاوف مجتمعية متأصلة وخطوط تماس بين مجموعات اجتماعية وسياسية مختلفة. واحدة من الأمثلة الأكثر صلة بهذا التماس كان السؤال حول حضور المرأة في الحيز العام والمضايقات المتكررة التي عانت منها خلال وما بعد الثورة. الحالات الأخرى التي أثارت قلقاً متواصلاً تتعلق بمكان مجموعات مهمشة أخرى مثل "أولاد الشوارع" والباعة المتجولين.

\"\"

[الصورة من صفحة "منتديات الشاب كول" على الفيسبوك]

 

منذ الأيام الأولى للثورة، توافد الباعة المتجولون إلى ميدان التحرير حيث خلقوا إقتصاداً محلياً مزدهراً زود ملايين المحتجّين الذين ارتادوا ميدان التحرير لاحقاً بوجبات خفيفة ومشروبات بأسعار معقولة. سواء كانوا عائلات أو مجموعات من الأصدقاء الذين جاؤوا للانضمام للاحتجاج أو للتمتع بالإحساس بالحرية والتفاؤل الناضح من الميدان أو كانوا من المقاتلين المستميتين الذين جعلوا من ميدان التحرير بيتاً لهم، فإن كل هؤلاء اعتمدوا على الباعة المتجولين بدلاً من القهاوي والمطاعم المكلفة في وسط البلد في القاهرة. مع الوقت، إنضم اليهم المزيد من الباعة الذين يبيعون مختلف البضائع وسرعان ما تناثروا جميعهم على أرصفة وشوارع كامل منطقة وسط البلد.

فور سقوط مبارك، شرع الجيش والحكومات المتعاقبة في حملة لإخلاء ميدان التحرير، ليس فقط من المحتجين وإنما أيضاً من الباعة. كان الهدف من هذه المحاولات حفظ النظام العام في الشوارع والأهم من ذلك استعادة صورة الدولة القوية "ووقار" المجتمع المصري، الذي يعتبره هذا المنطق مهدداً نتيجة إحتلال الحيز العام. ونادرة هي الحالات التي لا تؤدي بها الإزالة القسرية إلى تصادم عنيف، يعتبر فيه الباعة و"البلطجية" (غالباً ما تم خلط/استعمال الاثنين بالتبادل) بكونهم الملامين على العنف. جهود سلطات الدولة لإخلاء الباعة من التحرير والشوارع المحيطة شكّلت جزءاً واحداً فقط من حملة شاملة طويلة الأمد تمتد لكافة أطراف البلاد لقمع الظاهرة، والتي يعزو إليها الناس مواطن الشر بما في ذلك الفوضى في الشوارع وأزمة المرور والإخلال بالقانون وعلاوة على كل هذا "تشويه" المظهر الحضاري المصري. يدعم أصحاب المحال التجارية والطبقة الوسطى من سكان المدينة مثل هذه الجهود. فبالنسبة لأصحاب المحال التجارية، من الواضح أن الباعة يشكلون مصدر تهديد لهم لأنهم يبيعون بضاعة بأسعار معقولةعند عتبات محالهم. بينما يرى سكان الحارات التي تقطنها الطبقة الوسطى في المدينة الباعة المتجولين كتهديد لأنهم يعيقون انسياب حركة السير ويسّدون الأرصفة مما يجعل تنقل المارة بسهولة أمراً مستحيلاً. وهناك أيضاً بُعد آخر "أخلاقي" متعلق بشعورهم بالقلق الذي يثيره الفقر وعدم النظام المتجسد بالباعة المتجولين. ومن نافل القول، أنه لا يمكنه عزو السبب الحقيقي للزحمة المرورية الخانقة في القاهرة وفوضى الشوارع وإلقاء اللوم في ذلك على الباعة المتجولين. وإنما نجد تلك الأسباب في غياب نظام ناجع ومعقول للمواصلات العامة، وفي شبكات الشوارع الرديئة، وفي أخطاء كبيرة في التخطيط المديني ونظام رأسمالية المحاسيب. على أية حال، فسكان المناطق المرفهة في مصر عازمون على القضاء على حضور الباعة المتجولين "غير الحضاري" والمهدد أخلاقياً، موظفين لذلك كل التبريرات. عليه، فهم يدعون الشرطة بشكل متكرر حيث يرونها حليفهم الطبيعي في حماسهم ضد الإخلال بالقانون وانعدام النظام، وذلك لقمع الباعة المتجولين ومنعهم من العمل في أحيائهم.

جاء قانون مرسي المذهل كخطوة يائسة في معركة طويلة الأمد للتخلص من الباعة المتجولين. فعلى سبيل المثال، في مارس/آذار 2011 قامت قوات من الجيش والحرس المدني بإخلاء باعة متجولين بالقوة من ميدان رمسيس وإعتقال الكثيرين منهم، فيما قُدِم بعض منهم للمحاكمة لاحقاً حيث حوكموا في المحاكم العسكرية. مؤخراً، وتحديداً في أوكتوبر/تشرين الأول 2012، لقي بائع فاكهة شاب يبلغ من العمر 22 عاماً حتفه في صدامات عنيفة خلال هجوم شنته قوات تابعة للشرطة في محاولة منها لتطهير دوار الجيزة من كل الباعة. الأمر الذي أدى الى احتجاج نظمه زملاؤه الباعة أمام مكتب المدعي العام مطالبين بالاقتصاص من المسؤول.

هذه المعركة المستمرة ليست بالجديدة أو الفريدة والخاصة بمصر وحدها. ولكنها شكلت جزءاً متكاملاً من بناء وعمل الدولة التنموية منذ الخمسينيات والستينيات في أغلب الدول النامية. روجت الدولة التنموية عند الأمم المستقلة حديثاً، والنظام الإقتصادي الذي دعمها في النصف الثاني من القرن العشرين لمشروع تحديث يعتمد على العقلانية والنجاعة والتكنولوجيا ووسائل الإدارة الغربية، بالإضافة إلى النظام. بناء على هذا، فقد اعتبروا الإقتصاد غير الرسمي والباعة المتجولين في صلبها كنقيض لمشروع الدولة ووجودها. الباعة المتجولون جسدوا كل ما هو مخالف للحداثة: عدم النجاعة، الفوضى، والطفيلية وعدم الانضباط. صورة المدن غربية الطراز الحداثية وحسنة التخطيط كانت مهددة بفعل ربطها بالفقر والإخلال بالقانون والفوضى التي يخلقها باعة تقليديو الملبس والعمل. الباعة تجولوا في الشوارع، ولم يكن لهم أماكن تجارة ثابتة ولم يتبعوا أي قانون، كما يقضي بذلك المجتمع المتحضر والحداثي.

وضع زاغموند باومن إصبعه على جوهر الحداثة بوصفه إياها بـ "النظام كهوس". لقد عمل النظام، قبل أي شيء، كمحرك جوهري في إعادة إنتاج نظام إقتصادي سائد. في نظام رأسمالي حداثي، فيما تعمل الشركات الكبرى وفقاً لأسس سلم الإقتصاد، فإن الشركة وحتى رجال الأعمال الصغار ولكن المنظمين- يُعترف بهم كشركاء وعملاء للحداثة لكونهم يتلائمون ضمن نموذج عماده تمركز الانتاج والتوزيع. أما الباعة المتجولون، فهم لا يدفعون الضرائب ولا يحفظون السّجلات كما ويستحيل إدراجهم في المؤشرات الاقتصادية العامة مثل مؤشر الناتج المحلي الإجمالي؛ عليه فهم مضّرون للتخطيط القومي الإقتصادي. والأكثر أهمية من ذلك، فإن الشركات والمؤسسات التجارية الكبرى تكرس الدوّر التنظيمي للدولة لإدارة علاقات الإنتاج، حيث تزود الدولة بكونها"رأسمالي جماعي مثالي" الشروط السياسية المسبقة لعملية تراكم صحية عبر السيطرة على علاقات رأس المال لصالح منافع رأسمالية.

على أية حال وبالرغم من جهود الدول المستقلة حديثاً لدمج الإقتصاد غير الرسمي في منظومة مرتبة والقضاء على البيع في الشوارع، إلا أن كلاهما، أي الإقتصاد غير الرسمي والباعة- قد تابعا الإزدهار بمعزل عن الدولة في البلدان النامية. إن الفشل في التنظيم المركزي، والقطاع الخاص غير المتطور وحقائق إقتصادية أخرى في هذه الدول عنت أن القطاعات الأكثر تقليدية مجبرة على تقديم الحلول والرد على احتياجات الملايين المقصيين من مشاريع الحداثة؛ الاحتياجيات التي فشلت الدولة التنموية ذاتها بتلبيتها. هذا صحيح الآن في القرن الواحد والعشرين كما كان صحيحاً في العقود الأولى للاستقلال. لكن القطاع غير الرسمي يستمر بتوفير الوظائف لهؤلاء الذين يدخلون سوق العمل في كل عام والذين تنعدم أمامهم فرص العثور على عمل في القطاع الرسمي.

تغير معنى التنمية إلى حد كبير على مر العقود، وتغيرت ومعه أيضاً تعريفاتها وتوجهاتها التي تم توظيفها من قبل الحكومات الوطنية. التحولات في معنى التنمية كانت قد واكبت دائماً الإحتياجات المتزايدة للنظام الإقتصادي العالمي. بناء على ذلك، فإن الكثير من الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي اضطرت الى تغيير افتراضاتها المبكرة عن التطور والسياسات المتبعة لتحقيق التمنية، وذلك بناء على تطور الإقتصاد العالمي. إلا أن التناقض الآن يكمن في أن الاحتياجات الأخيرة للنظام الرأسمالي العالمي أدت الى مأسسة عمليات من اللارسمية. فالتغييرات في هيئة منظومات التصنيع وفي قطاعات أخرى قد ولّدت منطقاً إنتاجياً جديداً. على سبيل المثال، يعتمد "خط الإنتاج العالمي"، على الإستعانة بشبكات من المصادر الخارجية، بالإضافة الى التعاقد الهرمي ومرونة سوق العمل. هذا النظام على أي حال، ينتج بشكل ثابت المزيد من الإستغلال في العمل، رواتب متدنية، شروط عمل غير آمنة والمزيد من عدم التوازن الوظيفي.

إن النقد المترتب عن هذا التطور وتأثيره على حياة الملايين من الفقراء على المستوى العالمي، حدا بالمؤسسات المالية الكبرى لابتكار سياسات تعزز فعلياً المزيد من أشكال "اللارسمية" من أجل تحسين نصيب هؤلاء العاملين ضمنها وذلك بمساعدة تدخل الدولة. السياسات النيوليبرالية المعززة من قبل "إجماع واشنطن" والمؤيدة بكل طاعة من قبل الجنوب العالمي، بما في ذلك مصر، تقوم، الآن –للمفارقة- بتعزيز مبادرات متواضعة عبر قروض صغيرة وغيرها من برامج التدريب والإقتراض باعتبارها حجر الزاوية المساند للاقتصاد. نتيجة لذلك فإن السياسات المنبثقة عن المؤسسات الإقتصادية إتجاه الإقتصاد غير الرسمي، تهدف إلى "تنظيم" القطاع ولكن ذلك بهدف تعزيزه وليس القضاء عليه.

في سياق مصر طالما اكتسب "التنظيم" دائماً معنى مختلفاً وذلك حسب من يتحدث عنه. ففي الوقت الذي يعتبر تشكيل نقابة للعمال بمثابة سلاح عظيم ضد الاستغلال، إلا أن الطريقة التي يفهم بها المسؤولون المصريون "التنظيم" تختلف بشكل كبير عن تلك التي يفهمها العمال. فبالنسبة لدولة مثل مصر، فإن تنظيم العمل لم يتعلق أبداً بلجم قوة التفاوض الجماعية للعمال، وإنما بتنظيمهم في هيئات قابلة للضبط. في حالة الباعة المتجولين، عنى ذلك تنظيم ظاهرة فوضوية ولكن أيضاً حتمية. وفقاً لهذا المنظور يتم التسامح مع الباعة المتجولين طالما يحتلون مكاناً محدداً، وعليه فيمكن موضعته، إقصاؤه والسيطرة عليه. مؤخراً، قامت كل من نقابة المهن التجارية سوية مع وزارة المالية والإتحاد العام لنقابات عمال مصر المعروف بفساده، بمسح لكافة الباعة المتجولين على صعيد وطني في محاولة منها لتنظيمهم. في الأسابيع الأخيرة، طالب إتحاد الغرف التجارية المصرية الحكومة بتخصيص سوق أسبوعية محددة في مناطق معينة وذلك من أجل "دمجهم في كيان الدولة الرسمي".

حاولت الحكومات المتعاقبة، بما في ذلك تلك التي كانت في فترة حكم مبارك، إبعاد الباعة المتجولين عن مركز القاهرة إلى مدن تابعة لها تقع على أطرافها مثل عبور، وستة أوكتوبر، والشيخ زايد وسلام. مع شبكة المواصلات العامة الضعيفة التي تربط هذه التجمعات السكانية الهانشية (مثال هائل على فشل التخطيط المديني)، فإن النقل يشكل حكم إعدام يحاول كل الباعة تجنبه.

من جهة أخرى، فإن الباعة المتجولين تواقون لتشكيل نقابة عمالية، وعلى الأقل تنظيم صفوفهم جماعياً ضد مضايقات الدولة، وفساد الشرطة والحماية من الاحتيال. وكان أحد باعة القاهرة المتجولين قد أخذ على عاتقه مبادرة للضغط لتشكيل إتحاد عمال مستقل، وتمكن من جمع أربعة آلاف توقيع من باعة من مختلف المحافظات. إلا أن إقامة إتحاد مستقل واجهت الكثير من التعقيدات من قبل وزارة العمل، ويأتي هذا كجزء من استراتيجية حكومات ما بعد مبارك لتوقيف تطور المئات من الاتحادات المستقلة، والتي ازدهرت في فترة ما بعد سقوط مبارك. أسوة بغالبية الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي، المسؤولون المصريون اضطروا للعمل وفقاً لإملاءات المؤسسات المالية العالمية والتي صممت سياستها بشكل يدعم مصالح نظام رأسمالي عالمي. ومع ذلك، فإن بيروقراطيات هذه الدول هي أقل مرونة من الرأسمال العالمي فمسؤولو الدولة يلاقون صعوبة في تعلم خدع جديدة والتخلي عن العادات القديمة. لذلك ما تزال الدولة المصرية ملتزمة باللقضاء على الباعة المتجولين الذين يمثلون تهديداً لحفظها للنظام، ذلك في الوقت الذي تصرح سياساتها الرسمية بدمجهم كشركاء في التطور. ومن نافل القول، أن أياً من توجهات الدولة بالنسبة للتعامل مع "مشكلة" الباعة المتجولين لن تكون ناجعة، ففي تجريم قطاع ما غاية في الأهمية لسوق العمل وللسياسيات الاقتصادية الحكومية الرسمية، بدون طرح بدائل، لن تكون هناك نجاعة ولا حكمة. وفي النفس الدرجة، فإن إحتواء وتنظيم الباعة المتجولين عبر ابعادهم عن قلب المدن وإعادة موضعتهم في الهوامش المدينية بأمل تحويلهم إلى غير مرئيين، يعمل بعكس الأسباب التي تقف وراء نجاح القطاع غير الرسمي، وتلك مرونته، لارسميته وقدرته الجسدية على التنقل. حاولت الدولة التحديثية التي تعتمد التنموية منهجاً، في مصر وفي أماكن أخرى، حاولت جاهدة ملائمة الواقع الإجتماعي في إطار متخيًّل؛ إطار أتقصى مواطنيه وهمشهم بشكل ممنهج. لم ينجح هذا في الماضي، ولن ينجح الآن أيضاً.

[نشر المقال على "جدلية" باللغة الإنكليزية وترجمته حنين نعامنة إلى العربية]