المجاري في مائة عام: تتبع آثار شبكة الصرف الصحي التاريخية لمدينة القاهرة

[?????? ?????? ] [?????? ?????? ]

المجاري في مائة عام: تتبع آثار شبكة الصرف الصحي التاريخية لمدينة القاهرة

By : Shehab Fakhry Ismail and Ahmed al Ghoneimy شهاب فخري إسماعيل و أحمد الغنيمي

مرت بهدوء متوقع في مارس الماضي مئوية مشروع أثر كثيراً على حياة القاهريين، ألا وهو مشروع الصرف الصحي لمدينة القاهرة، والذي تم افتتاحة في 22 مارس 1915. يتتبع هذا المقال المصور شبكة مجاري القاهرة ويلقي الضوء على تاريخها كما يتجول بصرياً بين بقاياها التي ترجع إلى عام 1915. يكشف المشروع الذي خططه وأشرف على تنفيذه المهندس الإنجليزي تشارلز كاركيت جيمس عن عدد من الإشكاليات الهامة لفهم تاريخ القاهرة في عصر الاحتلال البريطاني الرسمي (1882-1923)، فمن ناحية كان إنشاء شبكة الصرف الصحي ضرورة ملحة للحد من تأثير أوبئة الكوليرا التي كانت تفتك بمصر والقاهرة بصفة دورية خلال القرن التاسع عشر وحتى أول القرن العشرين، وبلا شك فقد أثر إنشاء المجاري إيجابياً على صحة القاهريين بشكل عام. ومن ناحية أخرى كان المشروع إيذاناً ببدء جدل محتدم عن حدود ما هو عام وما هو خاص، وعن الصحة كمسئولية الدولة ومهمة ملقاة على عاتقها، فتم تسييس مسألة الصحة في خضم تصعيد التحدي ضد الاستعمار قبل ثورة ١٩١٩. عبّر المشروع أيضا عن تنافس رأس المال ودوره في إعادة تشكيل المدن، نظراً لتكاليف المشروع الباهظة، وما سببه ذلك من تنافس حاد بين شركات المقاولات البريطانية والألمانية والفرنسية، كما عبر بشكل أوسع عن تناول مختلف من قبل الإدارة البريطانية لسياسات العمران وظهور المدينة في مصر كإشكالية بعد أن كانت في المخيلة البريطانية بلداً زراعياً بالأساس. كان إنشاء شبكة الصرف الصحي في القاهرة جزءاً من مشروع بريطاني لإدخال القاهرة في الحداثة.

يقول فيكتور هوجو في روايته الشهيرة "البؤساء" بأن "تاريخ الإنسانية ينعكس في تاريخ مجاريها"، فمثلا قارن هوجو بين مجاري باريس القديمة كمكان كانت تُنْسَج عنه أساطير بأنه خطر ومخيف، بل وكموقع لمؤمرات سياسية أو مجموعات ثورية، وبين مجاري باريس الجديدة، مجاري المهندس البارون هوسمان التي تم انجازها منذ ١٨٥٠، فهي "نظيفة، باردة، مستقيمة، وصحيحة" بشكل يعكس تصورات مهندسها عن ما يجب أن تكون عليه المدينة، بل المجتمع ككل. فتعكس المجاري الجديدة بالنسبة لهوجو هزيمة معينة لثورات ١٨٣٢ و١٨٤٨ وتشكل النظام السياسي القمعي الجديد للإمبراطورية الثانية تحت قيادة نابليون الثالث. شبكة المجاري هنا هي إحدى رموز الحداثة والسلطوية في ذات الوقت، فهي من ناحية تشير إلى التطور التكنولوجي والعلمي القادر على مكافحة الأوبئة التي كانت تفتك بالمدينة كما تبلور تغير علاقة سكان المدينة بجسدهم وبمعايير النظافة الجسدية، ومن ناحية أخري فهي جزء من مشروع سياسي قمعي.  (1)      

كثيراً ما يتم سرد تاريخ القاهرة في فترة الاحتلال الإنجليزي كحقبة "جميلة"، ولكن ما تغفله هذه السردية هي أن  جمال بعض أحياء القاهرة، بل إن حياة الرفاهية التي كان من الممكن للصفوة والأجانب أن يعيشوها في المدينة مبنية على، بل وتتطلب، وضعاً استعمارياً وطبقياً تعيش فيه الطبقات الدنيا في المجتمع ومعظمها من المصريين في أحياء فقيرة مهملة. ببساطة تغفل هذه السردية أن رفاهية الحقبة الجميلة هي الجانب الآخر لسياسة إفقار كولونيالية. من المفهوم إذاً أن تركز سردية القاهرة الجميلة على عمران الرفاهة، أي على الأحياء الجديدة الراقية مثل الإسماعيلية (حالياً وسط البلد) وبعدها هليوبوليس والمعادي وجاردن سيتي. إذا أخذنا  هوجو على محمل الجد، فكيف ينعكس تاريخ القاهرة في تاريخ مجاريها؟ بدلاً من قاهرة "الحقبة الجميلة"، تظهر الآن القاهرة كشبكة كثيفة من المواسير المترابطة، القاهرة كنظام أو كشيء كلي. بمعني آخر تظهر المدينة كحقل للتدخل  الإداري الذي يريد فهم وإعادة تشكيل والتحكم في المدينة ككل بل وفي مستقبلها، فتظهر المدينة أيضا كموضوع للتخطيط وللهندسة الاجتماعية.

 \"\"

[ رسم هندسي لعنبر الرفع الرئيسي سنة ١٩١٢ وعليها إمضاء المهندس الإنجليزي تشارلز كاركيت جيمس]

إنشاء شبكة صرف صحي لأول مرة في أي مدينة ليس بالأمر السهل فهو بمثابة إقامة مدينة كاملة مدفونة تحت الأرض ولكنها تعكس ما فوقها، أو بالأحرى تترجم عالم المدينة الفوقي المعقد إلى مفردات قليلة: مواسير، مياه، فضلات، بلاعات، كثافة، سرعة، ماكينات رفع، مضخات، مصبات. كان المشروع في وقتها يُعد أضخم مشروع عمراني يتم تنفيذه في القاهرة أو في المدن المصرية كافة ليس فقط من حيث تكاليفه الباهظة حيث تكلف قرابة ما تكلفه إنشاء سد أسوان في ١٩٠٢، ولكنه أيضا تطلب إنتاج وتجميع معلومات دقيقة عن المدينة على نطاق غير مسبوق. فتم انتاج وتنسيق وجدولة معلومات عن الأحياء والشوارع وعن أهل المدينة والأنماط المختلفة لإستهلاكهم ومعيشتهم، كما تم رسم خرائط لمدينة القاهرة على درجات غاية في الدقة. كل هذا كان خطوة ضرورية لإعادة إنتاج المدينة والتدخل في "وظائفها الحيوية" بطرق جديدة أكثر قدرة على السيطرة على المدينة وعلى مستقبلها.      

رحلة إلى آثار شبكة الصرف الصحي

شبكة المجاري هي تكنولوجيا معقدة في الإخفاء، بالتعريف هي شيء لا يتعامل معه ساكنو المدن بشكل مباشر، فهي عالم معظمه تحت الأرض، أما ما فوقه فلم يره أو يتعامل معه الكثيرون. يتتبع هذا المقال المصور آثار، أو بالأحرى حطام وبقايا مشروع الصرف الصحي للقاهرة كما قامت بإنشائه الإدارة البريطانية عام ١٩١٥. بتعبير آخر، يرصد هذا المقال إحدى بقايا مشروع التحديث البريطاني للقاهرة. مثل البواكي أو محطات القطار أو المستشفيات، عبرت مباني شبكة الصرف الصحي بأشكال مختلفة عن الأساطير الجديدة التي تخلقها الحداثة.  

بدأت تتبع آثار مجاري القاهرة باستخدام أول خريطة لشبكة الصرف الصحي للمدينة، وهي خريطة صنعت للمشروع أثناء تنفيذه عام ١٩١١، فالمشروع جزء من رسالة دكتوراه أقوم بتحضيرها عن تطور القاهرة العمراني في فترة الاحتلال البريطاني. منذ سنوات، لفت نظري موقع محطة الرفع الأساسية للمشروع في ما كان يسمي ب "كفر الجاموس" وقدرت أنه هذا ما كان يطلق على منطقة عين شمس حالياً حينما كانت بالأساس أراض زراعية على الحدود ما بين محافظتي القاهرة والقليوبية. بعدها بفترة نجحت باستخدام برنامج لنظم المعلومات الجغرافية في تحديد موقع المحطة بدقة، فبدت بالفعل موجودة في عين شمس على امتداد شارع الأربعين وبمحاذاة خط سكة حديد لنقل الجنود. ذهبت إلى موقع المحطة وبمجرد المشي حول سور المحطة لفت انتباهي مساحتها الكبيرة وأنها محاطة بالعمارات السكنية التي يظهر طوبها الأحمر مثل الكثير من العمارات في الأحياء الشعبية. ثم ظهر من خلف السور عنبر الرفع القديم وتأكدت تماماً أنني في المكان الصحيح، وإلا فماذا يفعل هذا المبنى القديم ذو الطراز الإنجليزي الصناعي داخل أعماق عين شمس؟!  لم أستطع يومها الدخول إلى أرض المحطة ونصحني أمن المحطة بالذهاب إلى مقر الشركة في شارع رمسيس للحصول على التصاريح اللازمة للدخول. (2)     

\"\"

[عنبر الرفع الرئيسي بمحطة كفر الجاموس من أعلى إحدى العمارات المجاورة، وتظهر في الصورة مدخنة العنبر حيث كانت ماكينات الرفع تعمل بالمازوت كما يظهر على اليسار برج مياه تبريد الماكينات. تصوير أحمد الغنيمي]

مقر الشركة بشارع رمسيس: محطة رفع مياه الأمطار

ذهبت إلى مقر شركة الصرف الصحي بالقاهرة الكبرى للحصول علي التصاريح السالف ذكرها، وبمجرد العبور من السور إلى داخل المقر ترى على اليمين مبنى ملوناً بالأحمر والأبيض على الطراز الإنجليزي يقف في تباين واضح عما حوله. كان المبنى في المشروع الأصلي عنبراً مخصصاً لرفع مياه الأمطار وصبها في النيل إذا زادت الأمطار عن حد معين. في عام ١٩١٠، حينما كان المشروع قيد المراحل الأولية للتنفيذ، حدثت بالتوازي أزمة حول نقاء وطعم مياه الشرب في القاهرة، تم على إثرها تغيير نظام المجاري للنظام الموحد حيث تصب مياه الشوارع ومخلفات البيوت والمنشآت في نفس المواسير بحيث لا يصل أي مصدر تلوث لمياه النيل. ولكن في حالة الأمطار الشديدة تعتبر مياه الشوارع نقية بما يكفي لصبها في النيل.

\"\"     

[ عنبر رفع مياه الأمطار داخل مقر الشركة. تصوير أحمد الغنيمي]

محطة كفر الجاموس (عين شمس)

عبر طرق كثيرة مرسومة بعناية ستصل حتماً إلى هنا فضلات كل ساكني القاهرة، فهذه هي محطة رفع كفر الجاموس وهي محطة الرفع الرئيسية في المشروع الأصلي، ومن هناك يتم ضخ الصرف الصحي للمدينة بأكملها عبر ماسورة رافعة طولها ١١.٧ كم في اتجاه المصب النهائي، أي محطة تنقية ومزرعة الجبل الأصفر. تصل الفضلات إلى عنبر الرفع بكفر الجاموس عن طريق وسيلتين أساسيتين. الأولى إذا كانت قادمة من أي حي بين الظاهر وبولاق شمالاً والسيدة عائشة شرقاً ومصر القديمة جنوباً، فيتم رفعها عبر مضخات صغيرة  (عددها الإجمالي ٦٣) إلى ماسورة الميل الأساسية المتجهة إلى كفر الجاموس، والتي كما يشير اسمها تدفع مياه الصرف الصحي فقط عن طريق ميل الماسورة. أما الأحياء الجديدة نسبيا في الشمال الشرقي مثل العباسية والقبة وهليوبوليس والزيتون والحلمية والمطرية فكانت تصب مخلفاتها في ماسورة الميل الأساسية مباشرة. وقد تغيرت هذه التفاصيل كثيراً مع التعديلات التي طرأت على شبكة الصرف الصحي منذ أواخر العقد الثالت من القرن العشرين.    

من الملاحظات المدهشة الاهتمام الشديد بجماليات مباني ومنشآت الصرف الصحي في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين والذي لم يكن بأي حال مقتصراً على تجربة الصرف الصحي في القاهرة. فمثلاً، اهتم البارون هوسمان كثيراً بجمال مجاري باريس لدرجة أنه كانت هناك رحلات في عربات مخصصة داخل المواسير والغرف الكبيرة تحت الأرض، وحتى الآن يوجد متحف مخصص لمجاري باريس. (3) أما في لندن فيحتوي عنبر رفع شبكة المجاري الأولى التي تم إنشاؤها تحت إشراف المهندس جوزيف بازلجيت في ١٨٦٥ على كم كبير من الزخارف التفصيلية ذات الأسلوب الأسباني المغربي (Moorish) هذا إلى جانب الاهتمام الشديد بجمال المبنى من الخارج، والذي تحول أيضا إلى مزار سياحي. (4) أما في محطة كفر الجاموس، فلك أن تتخيل فخامة العنبر من الداخل بمجرد النظر إلى بواباته ونوافذه وما تبقى من القيشاني (البلاط). يعكس هذا الاهتمام بجماليات مباني الصرف الصحي الرغبة في إظهار شبكة المجاري كمكان نظيف وآمن لتفنيد فكرة أنه مكان خطير وبعيد عن مراقبة الدولة، إلا أن الأمر لا يخلو من سخرية ما، فكيف لأماكن تجمع ومرور براز مدن بأكملها أن تكون بمثل هذا الطابع الجمالي المتحفي؟! ولماذا يُمنح هذا الطابع المتحفي لأماكن لا يدخلها جمهور حقيقي؟!   

 \"\"

[ عنبر الرفع من الداخل: العنبر لا يعمل حاليا وكما يتضح من الصور فالمبنى مهجور تماماً باستثناء ورشة صغيرة. تصوير أحمد الغنيمي] 

\"\"

[ داخل عنبر الرفع. تصوير أحمد الغنيمي] 

\"\"

[ داخل عنبر الرفع. تصوير أحمد الغنيمي] 

\"\"

[ تظهر الدقة والعناية في تشييد العنبر حتى بعد عشرات السنين من عدم استخدامه. تصوير أحمد الغنيمي] 

\"\" 

[ عنبر الرفع من الخارج. تصوير أحمد الغنيمي]

\"\"

[ صورة أخرى لعنبر الرفع من الخارج. تصوير أحمد الغنيمي]

محطة تنقية ومزرعة الجبل الأصفر، الخانكة

لهذه المزرعة - التي كانت مملوكة من قبل شركة الصرف الصحي - تاريخ طويل يرجع إلى قبل إنشائها. فمن الأساس، وجود مزرعة تابعة لمصلحة ثم شركة الصرف الصحي ليس بالأمر البديهي. في الحقيقة ترتبط فكرة المزرعة بتاريخ فكرة إعادة تدوير الفضلات أو الحلم الطوباوي بأن التقدم التكنولوجي سوف يتيح للبشرية أن تسد حاجتها الغذائية فقط من "مخلفاتها" دون عناء أو عمل حقيقي. ظهرت الفكرة بوضوح بين السان سيمونيين والاشتراكيين الطوباويين في فرنسا في القرن التاسع عشر حيث ذهب بيير لوروا مثلا أنه في وقت قريب سيصير بالإمكان ميكنة عملية تحويل البراز إلى مواد غذائية وبذلك تكون البشرية قد أبطلت إلى الأبد أطروحة مالتوس عن الزيادة السكانية، إن لم تكن قد أبطلت مفاهيم العمل والقيمة التي تعمل بها الرأسمالية ككل.(5) كما انتشرت فكرة مشابهة ولكن ذات طابع أكثر "عملية" في انجلترا في العصر الڤيكتوري، حينما بلغت الثقة في العلم والتكنولوجيا ذروتها كعلاج للإشكاليات الاجتماعية والسياسية. تقول الفكرة إن التقدم التكنولوجي الأوروبي سيحول دون ألا يكون لكل الموارد الطبيعية نفع. التكنولوجيا هنا ليست فقط تنتج كثيراً ولكنها تنقذ المخلفات من لانفعيتها، فهي تحولها إلى قيمة وإلى سلعة داخل نظام التراكم الرأسمالي. ارتبطت هذه الفكرة بالإمبراطورية حيث تمت إعادة فهم الاستعمار كواجب أخلاقي أوروبي تجاه كلٍّ من "الحضارة" والطبيعة، فهو يحمي موارد الطبيعة من أنماط الاستخدام غير المسؤولة "لمن هم أقل تحضراً" ويستغلها بشكل رشيد وفعال. كما ارتبطت الفكرة بكتابات تمجيد المهندسين وبتدشين أخلاقيات العمل والهمة والاعتماد على الذات تحت مسمى "مساعدة الذات" (self-help) التي عبرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عن وجهة نظر طبقة الرأسماليين الصناعيين في كيفية تقليل اللافائدة الاجتماعية وفي كيفية تحسين الإنسان من نفسه وحده، بعيداً عن السياسة وتحت كل شروط الرأسمالية. أي بمعنى آخر: "لا تترك نفسك تتحول إلى مخلفات بلا فائدة".(6)

كانت مزارع الصرف الصحي في العالم هي إحدى التطبيقات العملية لهذه الأفكار، فقد قدر كاركيت جيمس أن المزرعة الملحقة بمحطة تنقية الجبل الأصفر والمقامة على مساحة تزيد عن ٣ آلاف فدان سوف تقوم على الأقل بتغطية كل تكاليف الصيانة الدورية اللازمة للمشروع عن طريق الري بمياه الصرف الصحي المعالجة. وقد تم بالفعل تشكيل لجنة زراعية (جلس بها أحد أكبر خبراء الزراعة العلمية الإنجليز) لبحث مايمكن زراعته هناك في ١٩١٢. بعد احاطة المزرعة بسور من مصدات الرياح مثل أشجار الكافور والكازورينا، استمرت المزرعة في إنتاج الموالح بل والبيكانز (Pecans) حتى قرار وزير الزراعة السابق أمين أباظة لسنة ٢٠٠٩ بمنع الزراعة بمياه الصرف الصحي سواء المعالجة أو غير المعالجة. ومنذ هذا القرار عصفت بالمزرعة الخلافات بين وزارة الزراعة وشركة الصرف الصحي كما اتُهم الفلاحون المستأجرون بالري بمياه الصرف الصحي غير المعالجة وبزراعة محاصيل غير ملائمة.

أخيرا، هل كان اختيار موقع مصب الصرف الصحي بجوار كلٍّ من سجن أبو زعبل ومستشفى الخانكة للأمراض العقلية محض صدفة؟ هل يمكننا النظر إلى هذه البقعة كمنفى؟ وكأن المجتمع  يلفظ في مكان واحد ما يعتبره أخطاراً على النظام الاجتماعي والبيولوجي أو ربما أيضاً لاوعيه وما يريد أن ينساه - فضلات وخارجين عن القانون وخارجين عن معايير المجتمع للسلامة النفسية.

 \"\"

[ عنبر محطة توليد الكهرباء التابع لمحطة تنقية ومزرعة الجبل الأصفر. تصوير أحمد الغنيمي] 

\"\"

[ لوحة داخل عنبر توليد الكهرباء. "وزارة الأشغال العمومية/مجاري القاهرة-محطة الكهرباء/تم افتتاح هذا المبنى وتشغيل الماكينات في ٢٢ مارس ١٩١٥/من قبل إسماعيل سري باشا/ وزير الأشغال العمومية/ونائب وزير الخارجية مردوك ماكدونالد/والمهندس المشرف كاركيت جيمس/ومهندس المحطة لويد/المقاولون/الماكينات: ساير وكولي، القاهرة/المباني: فيرجارا وبودروكو". تصوير أحمد الغنيمي]

\"\"

[ بداية مزرعة الجبل الأصفر حيث تظهر أشجار مصدات الرياح. تصوير أحمد الغنيمي] 

\"\"

[ صورة لأحواض الترسيب الأصلية لمحطة التنقية تظهر فيها إحدى ماكينات الكشط الأصلية التابعة للمشروع ومكتوب عليها "وليام فارير ليميتد/مهندسون/لندن-برمنجهام". تصوير أحمد الغنيمي]

 

[فيديو: تنظيف لوحة عنبر توليد الكهرباء]

خاتمة

يأتي هذا المقال بمناسبة مئوية مجاري القاهرة، لكنه ليس احتفاءً مطلقاً بهذا المشروع، وأرجو أن أكون قد وفقت في توضيح بعض الإشكاليات الاجتماعية والاقتصادية التي رافقت المشروع قبل وأثناء تنفيذه. ما أود أن أقوله هو أن تشكل القاهرة كمساحة لتدخل السلطة تكنولوجياً ومعرفياً تم جزئياً من خلال مشاريع مثل هذه وغيرها من المشاريع الكبرى، بطرق رسمت مستقبل المدينة ومستقبل صراعاتها وعلاقة القاهريين بالسلطة وبأجسادهم.

قررت بمناسبة المئوية تتبع ما تبقى من مشروع المجاري الأصلي بدلا من فقط الكتابة عن تاريخه، واستنطاق ما تبقى من هذه المباني لتتحدث عن تاريخها، فأخذتني الرحلة إلى عين شمس والخانكة وكان من المدهش أن أرى بالفعل المنشآت التي قرأت عنها كثيراً، بقايا مشروع التحديث البريطاني. رأيت هذه المنشآت في مناطق لا يذهب إليها الكثير من القاهريين غير سكانها إلا لتقضية أعمال أو ربما لزيارة أهل أو أقارب، وأكد لي هذا أن المدينة مدهشة بالفعل على الرغم من الصعوبات التي يروق للكثير من القاهريين الشكوى منها.

 

 هوامش

1 Victor Hugo, Les Misérables, translated by Isabel Hapgood (New York: Thomas Crowell & Co., 1887), Volume 5, Book Second: “The Intestine of Leviathan.”

[2] أخص بالشكر المهندس يسري كامل رياض، مدير عام قطاع المشروعات بشركة الصرف الصحي بالقاهرة الكبري، والمهندس عادل حسن زكي رئيس قطاع المشروعات الذي صرح لي بالدخول في محطات الشركة التاريخية والتصوير فيها.

[3] Donald Reid, Paris Sewers and Sewermen (Harvard University Press, 1993). 

[4] Paul Dobraszczyk, Into the Belly of the Beast: Exploring London`s Victorian Sewers (Spire Books, 2009).

[5] Reid, Paris Sewers and Sewermen, chapter 5. See also Dana Simmons, “Waste Not, Want Not: Excrement and Economy in Nineteenth-Century France,” Representations 96:1 (Fall 2006).

[6] Michael Adas, Machines as the Measure of Men: Science, Technology and Ideologies of Western Dominance (Ithaca: Cornell University Press), Chapter 4. See also Timothy Cooper, “Peter Lund Simmonds and the Political Ecology of Waste Utilization in Victorian Britain,” Technology and Culture 52:1 (January 201

المشهد الاقتصادي في حيفا قبل سقوطها

منذ حوالى منتصف القرن التاسع عشر بدأت فلسطين تشهد، كبقية بلدان حوض البحر المتوسط الشرقي، تحولاً اقتصادياً كبيراً. فقد ازدادت العلاقات التجارية مع بلدان أوربا الغربية، التي ساهم فيها استخدام البخار لتسيير السفن مما جعل التجارة عن طريق البحر أسرع وأقل تكلفة. وساهم تطبيق النظم الإدارية العثمانية الجديدة، التنظيمات، في زيادة الأمن والنظام مما ساعد على تأمين التجارة. أحدث كل هذا أثراً بعيد المدى على السواحل الشرقية لحوض البحر المتوسط وأخذت المدن الساحلية في النمو والازدهار بشكل كبير.

مع أن هذا التحول الاقتصادي كان عاملاً مركزياً في تطوّر حيفا الجديدة، إلا أن نموها وتطورها سارا ببطء شديد، مقارنة بتطور يافا وبيروت. ولم تدخل هذه المدينة طور النمو السريع إلا في أوائل القرن العشرين. وقد كانت السياسات الاستعمارية البريطانية والسياسات الاستيطانية الصهيونية أحد الدوافع وراء تطور النمو السريع للبلد كما كان لها أيضاً إسقاطات جديّة، إيجاباً وسلباً، على المكانة الاقتصادية للسكان العرب في المدينة.   

مدينة حيفا 

تقع مدينة حيفا على الشاطئ الجنوبي لخليج عكا، وتنتشر على سفح جبل الكرمل. ويمنحها موقعها الجغرافي ميزة سهولة الوصول الطبيعي إلى الريف: فإلى الجنوب يؤدي السهل الساحلي في اتجاه يافا، إلى الجنوب فلسطين ومصر، ومن الشمال، يصلها بعكا ومنها إلى لبنان، ومن الشرق، يمنحها السهل المحصور بين جبال الكرمل الساحلية وهضاب الجليل ممراً إلى مرج ابن عامر، ومنه شرقاً، عبر وادي الأردن، إلى مناطق زراعة القمح في حوران بسوريا. ويعزز ميناء حيفا الطبيعي، الأفضل على الساحل الفلسطيني، موقعها الجغرافي.

 

وقياساً بمدن فلسطين الرئيسيّة الأخرى؛ القدس ويافا ونابلس وعكا، تعتبر حيفا مدينة حديثة نسبياً. فوجودها في موقعها الحالي، يعود إلى منتصف القرن الثامن عشر، عندما هدم ظاهر العمر، حاكم عكا، خلال 1764- 1765، الضيعة القديمة - حيفا العتيقة- التي كانت تقع على بعد ميل ونصف ميل من الموقع الحديث، ونقل سكانها، نحو 250ً شخصا، الى الموقع الجديد الذي أحاطه بسور دفاعي.

دخلت حيفا مرحلة النمو السريع في أوائل القرن التاسع عشر، عندما جرى بناء فرع للسكة الحديدية الحجازية، وصل بينها وبين الخط الرئيسي الممتد بين دمشق والمدينة المنورة. وأصبح ميناؤها ميناء رئيسياً لاستقبال الحجاج الى مكة، وخاصة لتصدير القمح، وكان بذلك يخدم مناطق داخلية واسعة كحوران وشمال شرق الأردن، بالاضافة الى المناطق الوسطى والشمالية لفلسطين.

تدل معطيات سنة 1880 على أن كمية المنتوجات الزراعية المصدّرة عن طريق الميناء قد فاقت كمية البضائع المصدرة من ميناء عكا.  كما وساهمت سكة الحديد في زيادة ملموسة على اتساع النشاط التجاري في المدينة وكذلك وجود إدارة السكة الحديدية فيها ساهم في وجود مشاغل ومراكز أعمال الصيانة.

كما رافق هذا الازدهار اتساع المناطق الزراعية الداخلية المرتبطة في حيفا وتحولت المدينة إلى مركز للتسويق واستيراد وتصدير المنتوجات الزراعية. وإبان الحكم العثماني أنشئت حول محطة السكة الحديدية مناطق تجارية اشتملت على حوانيت ومخازن.

حيفا في زمن الانتداب البريطاني  

احتل الإنجليز حيفا عام 1918 وشكّلت الخمس عشرة سنة الأولى من الانتداب البريطاني مرحلة حاسمة في نمو المدينة وتطورها، واتضح للإدارة البريطانية أن منطقة خليج حيفا ذات أهمية تفوق نطاق البلاد، واستخدم الخليج كقاعدة عسكرية للإمبراطورية البريطانية كعمق استراتيجي لقناة السويس وكرابط بحري وبري بين حيفا وبغداد.

وقد بذلت حكومة الانتداب خلال هذه الفترة، جهداً خاصاً لتطوير المدينة، عكست سياساتها وتطلعاتها السياسيّة. فكانت حيفا مقر حاكم لواء الشمال وتحولت بسرعة إلى مركز حكومي لشمال البلاد أجمع، وكذلك كان في حيفا مقر المكاتب الحكومية الأولى كغرف التجارة والجمرك. ودخلت حيفا فترة ازدهار اقتصادي كبير جلب إليها الآلاف من السكان الجدد الباحثين عن الرزق.  كما وساهم كل هذا في جذب المستثمرين لإنشاء المشاريع فيها.

احتلت حيفا موقعاً متقدماً في خطط البريطانيين والصهاينة، على حد سواء، إذ كانت لطبيعة خصائصها المتنوعة جاذبية ذات أبعاد متعددة، وهو ما جعلها نقطة انطلاق هامة في المخطط الاستعماري الاستيطاني داخل فلسطين. وقد تحولّت المشاريع الاقتصادية والصناعية منها على وجه الخصوص منذ منتصف العشرينيات إلى جزء من البرنامج الصهيوني بعد أن أيقنت الحركة الصهيونية أن العمل الزراعي وهو الركيزة الأساسية في الفلسفة الصهيونية، لم يكن ناجحا اقتصادياً ولا قادراً على اجتذاب الطبقة الوسطى من يهود أوربا الشرقية. وقد ألحقت المنظمة الصهيونية لجنة استشارية بدائرة الاستيطان المديني للتعبير عن السياسة الصناعية الصهونية الرسمية ولممارسة الضغط على الإدارة البريطانية لاتخاذ إجراءات مواتية لتلك السياسة. وقد أرغمت الحكومة، على دعم الصناعة اليهودية وحمايتها بأسلوب هيمن على العلاقات مما شكل نمطاً خاصاً في العلاقات البريطانية اليهودية ساد خلال فترة الانتداب.

يشهد حجم الاستثمار وكبر المصانع اليهودية التي أنشئت فيها على هذا التحول، فقد أقيمت في سنة 1922 "المطاحن الكبيرة" بالقرب من محطة السكة الحديدية التي سهلّت الوصول إلى مناطق الغلال. وقد كان هذا التحول أحد الدوافع لإنشاء مصنع "شيمن" لإنتاج الصابون ومنتجات الزيت عام 1924 في حيفا. كما وشهدت المدينة إنشاء محطة قوة كهربائية سنة 1925 زاد من سرعة اتساع البنية التحتية الصناعية في المدينة.

وقد دل الإحصاء الصناعي في سنة 1928 على أن أكبر مصنع في البلاد هو مصنع "نيشر" للاسمنت وشكلت الحجوم الاستثمارية فيه حوالى ربع رأس المال المستثمر في حيفا عامة، وكان حجم إنتاجه حوالى 12 % من حجم الإنتاج الصناعي في المدينة، ونسبة القوى العاملة فيه كانت 12% من مجموعة القوى العاملة في الصناعة في حيفا.

بالإضافة إلى المنشآت الصناعية اليهودية، شهدت المدينة إنشاء مصانع عربية كبرى، وصل عدد العمال فيها إلى أكثر من ألف عامل . فعلى سبيل المثال كان هناك معمل السجائر والتبغ لصاحبه الحاج طاهر قرمان وشركائه، ديك وسلطي، حيث وصل عدد العمال فيه خلال السنة إلى حوالى 300 عامل. وكان عدد العمال فيه يصل في مواسم التبغ إلى حوالى 700 عامل وحجم الإنتاج 65% من حجم الإنتاج الكلي في البلاد. وكانت هناك أيضا شركة سلوم وناجية لإنتاج التبغ والسجائر، وعدد العاملين فيها يتراوح بين 50-70 عاملا.

\"\"

وكان هناك شركة الكرتون الوطنية في حيفا، لصاحبها جبور- كركبي- الياس عمل فيها من 100-150 عاملاً. وشركة الكرتون لصاحبها الحاج طاهر قرمان التي وصل عدد العاملين فيها إلى أكثر من 100 عامل وحجم إنتاجها إلى حوالى 30،000 علبة سجائر في اليوم. 

وكان في حوزة عائلة قرمان مصانع أخرى، فكان في حوزة سبع قرمان مصنعان؛ الأول لتصنيع منتوجات الزيت مواز لمصنع "شيمن" اليهودي والثاني لصناعة الورق. كما كان هناك مصنع عربي حديث لإنتاج مواد البناء، البلاط والطوب والأدراج يملكه المجدلاني. كما شهدت المدينة مصانع إضافية، أقل حجماً مثل مصنع إنتاج المسامير والمعادن، مصنع الأسرّة الحديدية، شركة السجائر والتبغ لصاحبها ميقاتي، ومقشرة للأرز، مطاحن قمع، صناعات كيماوية ومعمل لتقطير المشروبات الروحية.

\"\"

وهكذا وخلال العقد الأول من الانتداب البريطاني، نجحت حيفا أن تصبح المركز الصناعي الحديث في البلاد, وقد دلت معطيات إحصاء الصناعة لعام 1928 أن نسبة العاملين في حيفا في القطاع الصناعي بلغت نحو 16% من مجموع العاملين في الصناعة في البلاد كافة. وأن نسبة حجم الإنتاج الصناعي في حيفا حوالى ال 25% من مجموع حجم الإنتاج الصناعي في البلاد. كما أن نسبة عدد المشاريع في حيفا وصل إلى حوالى 40% من مجموع المشاريع التي أحصيت في البلاد. 

النشاطات التجارية في حيفا

إن النشاط التجاري في حيفا، توسع بسرعة في بداية القرن العشرين، بالترابط مع تطور الاقتصاد الزراعي المتجه نحو التصدير، وقد استجاب القطاع التجاري للسكان العرب المحليين لمؤثرات التحديث. وأنشئت عدة محال تجارية كبيرة واشتهرت في تلك الفترة محلات بوتاجي والتي امتدت فروعها إلى طبريا ونابلس والقدس ويافا. كما واشتهرت ايضا محلات زحلان-زعبلاوي وعكاوي، ومليكيان وكانت لهم فروع مختلفة في أماكن مختلفة في المدينة.

ان ارتفاع مكانة حيفا كمركز صناعي وتجاري جذب اليها أصحاب مصانع عرب من المدن الداخلية بهدف انشاء مراكز لتسويق منتجات المصانع في المدينة. وأقام الحاج نمر النابلسي مركزاً تسويقياً في حيفا لمنتوجات الصابون المصنعّة في نابلس. كما فعل ذلك فؤاد سعد الذي نقل ألى حيفا مركز تسويق الزيت المنتج في رامة الجليل.

كما انشأ العرب في حيفا عدة مبان تجارية كبيرة، مثل عمارات عزيز الخياط والتي أنشئت بهدف استخدامها كمقر للشرطة والبريد وكذلك لتأجيرها كعيادات طبية ومكاتب محامين وغيرها.

 

قطاع التجارة الخارجية

قبل سنة 1920ً، سيطرت على التجارة في حيفا، وخصوصا تجارة الحبوب، عدة عائلات قوية، استمدت دخلها من ملكية الأراضي في المرج والقرى الزراعية حول المدينة، وكثيراً ما كانت هذه العائلات منخرطة مباشرة بالتجارة. أما في حالات أخرى، فقد قام معتمدون محليون لشركات أوربية أو لوكالات شحن، بجمع السلع القابلة للتصدير. وقد كان العقد الأول من الانتداب البريطاني مرحلة حاسمة من الناحية التجارية لسكانها العرب.

 ففي حين كانت تجارة الحبوب هي الفرع المركزي للتجارة العربية في حيفا، ساهمت السياسات الاستعمارية والهجرة الاستيطانية اليهودية في تقويض هذا الفرع. فكان لفرض ترتيبات الضرائب الجمركية على حدود فلسطين ـ حوران وقرار الإدارة البريطانية منع تصدير القمح واللحم، وكذلك سياسة شراء الأراضي اليهودية في المرج، والتي شهدت انتقال الكثير من القرى العربية المنتجة للحبوب الى أيد صهيونية. بالإضافة إلى تحويل محاصيل هذه المستعمرات الجديدة، وخصوصاً القمح،إلى أن تباع مباشرة إلى مطاحن الغراند مولان الصهيونية. كان لكل هذا أثر كبير على الاقتصاد التجاري الفلسطيني المحلي.

لم تقف المجموعة العربية مكتوفة الأيدي تجاه هذه التغييرات، فقد استنكرت العملية اللجنة التنفيذية لمؤتمر حيفا 1921 وعبر المؤتمر عن مخاوفه من أن الجماعة التجارية العربية بأسرها، ستعاني من منافسة الصهاينة الأغنياء، ومرت السلطات البريطانية على هذه الاعتراضات مرور الكرام. فضلاً عن هذا، كانت هناك محاولات قلة من ذوي التوجهات السياسية والاقتصادية لتأسيس مجتمع اقتصادي عربي. وقد وضعت جمعية التطوير الاقتصادي العربي خطة شاملة لمواجهة هذه الأوضاع، من خلال اقامة اتحادات مهنية وعمالية، وتأسيس بنك عربي، وبناء مستودعات مضمونة عربية. ولكن وبسبب شح المصادر التمويلية العربية انحصرت إنجازات الجمعية في التعبير عن استنكار سياسة حكومة الانتداب التي شجعت خطط النمو اليهودية.

بالإضافة إلى كل هذا، بدأت عدة محاولات تجريبية مبكرة لتنويع التجارة لدى المجموعة العربية. ووسع بوتايج ميليكيات وحنوش وزحلان وزعبلاوي أعمالهم من خلال التوجه إلى وكالات محلية لبعض المصانع الأوربية وبضائعها. وظهر عدد قليل من الوكالات الأخرى العامة المتخصصة عادة في صنف من الواردات مثل المأكولات والآلات ومواد البناء. وقد تبنت الشركات العربية الأكبر تقنيات حديثة من التسويق الأوربي مماثلة لتلك التي أدخلها المستوطنون. وفي نهاية العشرينيات، تغيرت الحياة التجارية والاقتصادية للمجموعة العربية في حيفا وتركزت أغلبية ميادين التجارة في ثلاث فئات رئيسية: المأكولات، السلع المنزلية والشخصية، والمواد الخاصة بصناعة البناء. 

إن ازدياد الاستيطان الأوربي في حيفا وعدم قدرة السوق العربي التقليدي على منافسة رؤوس الأموال اليهودية التي تدفقت إلى المدينة، بالإضافة إلى إدارة بريطانية منحازة إلى الحركة الصهيونية سببوا تراجعاً مستمراً في الأوضاع الاقتصادية للمجموعة العربية في حيفا وكان من الصعب على طبقة التجار العرب أن تراكم نجاحات في ظل الأوضاع الاقتصادية التي سادت في حينه. 

استثمارات القطاع العام وازدهار فرع البناء

جذب الازدهار الاقتصادي في حيفا عموماً هجرة عربية ضخمة، هذا بالإضافة إلى ازدياد في الاستيطان اليهودي في المدينة، الأمر الذي أدى إلى تطور النشاط العقاري الذي بدأ يوفر حبل نجاة لكثير من مصدري الحبوب الذين وجهوا اهتمامهم نحو استيراد مواد البناء.

 كما وساهمت استثمارات القطاع العام كثيراً في اتساع فرص العمل في المدينة. وساعدت الحكومة والبلدية باستثماراتها في إنشاء قاعدة لتغييرات في البنية التحتية والمباني في البلد، وقد ألح اتساع مناطق السكن في المدينة على شق طرق جديدة، وتوسيع شوارع قائمة وحفر قنوات وأعمال أساسية طويلة المدى، مولتها البلدية. وقد أنجز قسماً كبيراً من أعمال البلدية مقاولون وعمال عرب.

ساهمت مشاريع حكومة الانتداب في توسيع فرص العمل في حيفا، إذ بادرت الحكومة وقررت عام 1927 تنفيذ عدّة أعمال، منها أعمال تعميق وبناء مخازن في الميناء، وفتح فرع للشركة الكيماوية  I.CI. في المدينة، وتوقيع عقد إرساء أنبوب النفط كركوك - حيفا وبناء مطار كبير في المدينة. وبالتالي ازداد عدد سكان حيفا بشكل كبير، مما ساهم في ازدهار فرع البناء الأمر الذي جذب أيدي عاملة عربية ووسع من أعمال مقاولي البناء العرب.

\"\"

قطاع النقل  

ومع هذه التغييرات وتطور حيفا التجاري والصناعي، اتضح أن النقل سيكون خط تجارة مربحاً، بالرغم من أنه يتطلب الكثير من رأس المال. وقد حاولت بعض الشركات التجارية الراسخة في السوق مثل بوتاجي، التحول إلى النقل، منذ سنة 1921. أما خدمات الباص والتاكسي، التي انشئت منذ منتصف العشرينيات، فكانت ملكية منفصلة تابعة إما لشركات أو تعاونيات عربية أو يهودية، وكل شركة خدمت أحياء مجموعتها السكانية الخاصة. فهدار كرميل، على سبيل المثال، امتلك شركة باصات خاصة. فيما سيطرت عائلات عربية معينة، مثل سلباق، وارملي، وفستق وكلداوي على خطوط أخرى للباصات.

\"\"

 

تطور حيفا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي 

كانت نقطة التحول الأساسية في تطور حيفا شروع حكومة الانتداب في مشروع بناء الميناء في المدينة وكان ذلك عام 1929. ولأجل ذلك أقيمت في عتليت كسارات حديثة لاستئصال الكتل الصخرية الكبيرة وقد اشتغل في أعمال التحجير هذه وتحميلها ما يقارب ألف عامل وكذلك عمل مئات العمال في بناء الميناء. وبعد تدشين الميناء في نهاية تشرين الأول 1933 بقي العمال في المدينة حيث عملوا في أعمال مختلفة. وساهم الميناء الجديد في ازدياد عدد السفن الراسية في حيفا وزاد كذلك بشكل ملموس كمية البضائع التي تمر في الميناء.

وتشير المعطيات الرسمية أنه منذ 1930 تحول ميناء حيفا إلى ميناء البلاد الرئيسي. وكان للعمّال العرب النصيب الأكبر من أعمال الميناء في الثلاثينيات.  وقد ساهم هذا المشروع في تطوير مرافق اقتصادية دولية مثل شركة I.P.C  وشركة VACUUM OIL  و SHEKK وقد عمل في هذه المجالات أعداد كبيرة من العمال العرب. إذ وصلت نسبة العمال العرب في هذه الشركات إلى حوالى 94% من مجموع العمال.

استمرت القاعدة الصناعية بالتوسع بشكل كبير في هذه السنوات، إذ تظهر نتائج إحصاءات رسمية من عام 1965، بأنه بين1930- 1947 أقيم ربع المصانع التي أقيمت في حيفا وضواحيها وقد عمل في هذه المصانع حوالى 50% من مجموع عدد العاملين في الصناعة في تلك السنوات.

هذه الأسباب، بالإضافة إلى دوافع استيطانية صهيونية، كان لها دور في استمرار ازدياد عدد السكان العرب واليهود في حيفا الأمر الذي ولد ضغطاً على مصادر الاستخدام في المدينة ولكن البناء المكثف لدى المجموعتين أدى إلى توفير فرص عمل في القطاع العام، والقطاع الدولي ونجح في امتصاص هذه الزيادة.  كما ساهمت في توسيع الاستثمارات في فرع البناء الخاص فساهم هذا الفرع في اتساع النشاط الاقتصادي في حيفا.

كما كانت منشآت القطاع العام التي استمرت البلدية في تنفيذها عاملاً إضافياً في تشغيل المئات من العمال، حيث احتلت حيفا المرتبة الثالثة بعد تل أبيب والقدس من حيث حجم المصاريف المنفقة في إنشاءات القطاع العام.  

حيفا المتبدلة

تشير هذه المراجعة السريعة للمشهد الاقتصادي العربي في حيفا قبل سقوطها إلى أن عوامل سياسية تركت أثرا كبيراً على النشاط الاقتصادي للعرب في مدينة حيفا. فحين شهدت المدينة بدايات تطور اقتصادي تجاري واجه العرب في حيفا تقييدات حقيقية نجمت عن اهتمام المشروع الصهيوني بالمدينة وسياسات استعمارية بريطانية حامية للمشروع الصهيوني فيها. وقد ساهم كل هذا في تقويض التطور الاقتصادي العربي وحصره في بنية اقتصادية تقليدية. ففي حين شجعت السياسة البريطانية إقامة مشاريع صناعية رأسمالية معينة يهودية تماماً، ساهمت سياساتها في إعاقة نمو اقتصاد عربي متطور وحصره في الصناعات الصغيرة. وفي حين احتفظ العرب بأفضلية في سوق المفرّق والمشاريع ذات الكثاقة العمالية كالبناء والمقالع، بدأ العمل اليهودي يتسلل إليه بالتدريج، الأمر الذي أضعف وزن العرب مقارنة بما كان قد تمخض في القطاع اليهودي.  

[تم نشر صيغة مختلفة من المقال في مجلة "مالكوم"]

[مصدر الصور أرشيف الباحث الفلسطيني جوني منصور]


هوامش

استندت هذه المقالة بالاساس على المراجع التالية:

١- صيقلي، مي، حيفا العربية 1918-1939، التطوّر الاجتماعي والاقتصادي. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، (1997).

٢- يزبك، محمود، الهجرة العربية الى حيفا في زمن الانتداب: دراسة تاريخية اقتصادية، سكانيّة اجتماعية. الناصرة: مكتبة القبس، ( 1988).