ثار مقال نشره الصحفي الأميركي نيكولاس كريستوف في صحيفة النيويورك تايمز بعنوان "أيها الأساتذة، نحن بحاجة إليكم"، جدلاً في الأوساط الثقافية والأكاديمية الأميركية وذلك بسبب تناوله لموضوع حساس ومهم يتعلق بواقع الدراسات الأكاديمية في أميركا. والنقطة التي يطرحها كريستوف هي أن الأكاديميين في أميركا منفصلون عن الواقع ويعيشون في علبهم الفكرية التخصصية وما من جسور بينهم وبين الجماهير العامة، وأنهم غير قادرين على الاستشفاف، وأحد الأمثلة على ذلك أنهم لم يستطيعوا التنبؤ بالربيع العربي. والسبب في ذلك هو أن اعتماد الباحثين على البناءات النظرية لم يكن مفيداً في عملية التنبؤ بالاضطرابات.
يضيف كريستوف أنّ بعض أذكى المفكرين حول المشكلات المحلية والعالمية هم أساتذة جامعيون ولكنّ معظمهم غائبون عن النقاشات الكبرى الجارية اليوم، والسبب في ذلك هو تنامي النزعة المعادية للفكر في أميركا، وازدهار نزعة التخصص الجامعي وسياسة "انشرْ أو يُقْضى عليك"، المتعلقة بالتثبيت، مما يقتضي من الأكاديميّ أن يخصص كلّ وقته للبحث وتأليف الكتب من أجل الارتقاء الأكاديمي. وقد شيّد هذا التخصص حاجزاً، وأدى إلى احتقار الثقافة الأكاديمية للتأثير والجمهور، وقامت المملكة الأكاديمية بتسوير نفسها عبر صدور قرار يمنع الأساتذة من إنشاء مدوّنات شخصية خاصة بهم، غير أنه تم التراجع عنه مؤخراً. فضلاً عن ذلك، إن الأساتذة الذين ينشدون التثبيت يجب أن يعتمدوا نثراً طناناً معقداً وتُنشر أبحاثهم في مجلات مجهولة وفي مطابع الجامعة لإبقائهم بعيدين عن الجمهور. وكانت النتيجة، كما قال مؤرخ هارفارد جيل ليبور، جبلاً كبيراً من المعرفة الممتازة محاطاً بخندق عريض من النثر المقيت.
ماذا عن الأساتذة في العالم العربي؟ لا شك أن معظم الأساتذة بعيدون عن هموم الناس وغارقون في ميشيل فوكو وجاك ديريدا وآلن باديو وآخر صرعات الفكر الغربي، أو محلياً في الشعر الجاهلي أو الأموي أو العباسي إلخ ومنفصلون بشكل كامل عن الأحداث المحلية والعالمية، أي أنهم نرجسيون استعلائيون يعيشون في أبراجهم الأكاديمية، لا تعنيهم دراسة التخلف التاريخي لا من قريب ولا من بعيد، ولا الظلم الواقع على المرأة، ولا ارتفاع البطالة المذهل، ولا انفجارات النعرات الطائفية، ولا بلوغ سيل الاستبداد الزبى، ولا يهمهم إن تحول الطالب إلى ببغاء، ولا يعنيهم الأمر إن أخذ شهادته وبدأ تشرده على درب البطالة. ناهيك عن أنهم ينشرون أبحاثاً نظرية (على قلّتها) تدور في فلك الغياب الكلي عن الواقع.
إننا لا نستطيع أن نلتمس العون من الأكاديميين الذين لدينا في القضايا العامة، إذ تخلو الصحف والمجلات من معظمهم، ولا يوجد مراكز أبحاث كي يتفرغوا ويبحثوا فيها، ولا يوجد منح كي يؤلفوا أبحاثاً ميدانية، ولا يشترطون إتقان لغات أجنبية كي يظل الطالب مواكباً للتطورات المعرفية. وهذا يعني أن واقعنا غير مدروس من قبل أبنائه، وأن جامعاتنا متوضعة في سياق تجهله. وإذا ما أخذنا سوريا كمثال سنجد أن الباحثين الغربيين درسوا موسيقاها وطبخها وماءها وسياستها، وطوائفها، وأدبها وفنها التشكيلي ومسلسلاتها التلفزيونية ودبكتها الشعبية، واقتصادها ومافياتها، وإسلامها المتطرف والوسطي، لم يُترك مفصل من مفاصل سوريا إلا ودُرس وكُتب عنه في الجامعات الأميركية. وقد كُتبت مؤخراً أبحاث ميدانية عن التركيبة الطائفية والديمغرافية للحارات الدمشقية والحلبية، إلخ حتى لقد تشكّل جيش من الباحثين الأميركيين والأوروبيين، الذين إذا ما دعيتهم إلى مؤتمر حول سوريا فإنك لن ترى نقصاً في أي موضوع قد يخطر على بالك، وفيه تستطيع أن تفكك سوريا إلى ملايين الخلايا، وسترى أن هناك باحثين مشغولين بهذه الخلايا، ولكن السؤال الذي يجب أن يُطرح هنا هو: ماذا يعني أن تكون باحثاً متخصصاً بسوريا؟ من يقرأ كتبك التي تؤلفها بالإنكليزية عن سوريا؟ ولماذا تتدفق على الباحثين المنح كي يدرسوا سوريا ولبنان والعراق واليمن ومصر والمغرب وإلى ما هنالك من دول عربية؟ ما الجدوى من هذا؟ لماذا يدفع الغرب هذه المبالغ لكي يحصّل هذه المعارف؟ هل تتعلق المسألة بتعميق الاكتشافات في الميادين النظرية الأنثرويولوجية والسياسية والسوسيولوجية وغيرها؟ أم هي مرتبطة بإنشاء منظومة استشارية تتحول إلى بعد وظيفي لدى السياسي؟ هل تتعلق بالتثبيت وبالرقيّ الأكاديمي أم بامتلاك الآخر معرفياً تمهيداً لامتلاكه سياسياً واقتصادياً؟ أم هي خيار شخصي للباحث الذي يقع في هوى البلد الذي يدرسه؟ أم أن المسألة أعمق من كلّ هذا؟
إزاء هذا الحجم الهائل من الدراسات عن بلداننا ماذا يفعل الأساتذة العرب؟ بل من الأفضل أن نقول ما الذي فعلوه؟ وهل هم من يستحق اللوم أم الجامعات التي يعملون فيها؟
والسؤال الجوهري الذي يجب أن يُطرح هو أين كتب باحثينا المحليين التي تفككنا وتشرّحنا وتغوص في مكبوتاتنا ومخاوفنا وتحمل مشاعلها في كهوفنا السيكولوجية وفي متاهات تراثنا؟ أين مناهج البحث المبتكرة محلياً؟ وما نفع الجامعات إذا لم ترق إلى مستوى تلبية هذه الحاجة؟
لقد وُلد نوع من الاستكانة في الجامعات حوّلها إلى قابلة بالوضع القائم، ودخل الأساتذة والطلاب في لعبة التكيّف مع الواقع التعليمي فيها.
إن الأكاديميين العرب يتحملون جزءاً من مسؤولية التردي المعرفي وذلك لأنهم قبلوا أن يكونوا موظّفين، ولم تكن لدى معظمهم قضية يناضلون من أجلها كي يطوروا التعليم. كان هناك من يناضلون دفاعاً عن أفكار وانتماءات أكثر مما يناضلون لتطوير مؤسساتهم وتحصيل انتصارات حتى ولو كانت صغيرة، ولم تُثر قضية التعليم على الرغم من أنها من أهم القضايا العربية إلا في مؤتمرات شكلية تنفيعية.
إن الأساتذة العرب الذين نتابع نتاجهم الفكري يعيشون خارج العالم العربي، أو حصّلوا ثقافتهم الأكاديمية خارج الوطن العربي ويلقحون معارفهم من مصادر غير محلية، غير أن الذين انخرطوا في المجابهة الثقافية في الداخل لم يكونوا أكاديميين بل كانوا مفكرين من خارج الجامعات، كانوا روائيين وشعراء ومسرحيين وصحفيين ورسامين وموسيقيين أكثر مما كانوا أساتذة.
قد تكون المسألة في أميركا أعقد من ذلك، غير أن المسألة عندنا خارج النقد وخارج الجدل. ذلك أن الدوائر الثقافية العربية لم تقم بحوار نقدي مفتوح حول الجامعات العربية، وحول دور الأكاديميين في الجامعة وخارجها، في ما يتعدى البحث الأكاديمي إلى أن يكونوا مفكرين أذكياء منخرطين في النقاشات الكبرى حول مسائل إشكالية محلية وعالمية.
إذا كانت صيحة نيكولاس كريستوف في نهاية مقالته هي "أيها الأساتذة، نحن بحاجة إليكم"، لا يسعنا سوى أن نقولها بطريقة مختلفة:"أيها الأساتذة العرب، أين أنتم؟"