مات الجلبي فقامت الدنيا ولم تقعد حتى الآن، وبعده، بالصدفة، أو بحكم القدر، مات عبد الرزاق عبد الواحد. ولا أدري أهي مصادفة أن يجمع القدر بين موتين متنافرين حد البغضاء، كما لو أن العراقيين على موعد دائماً مع التباغض والتنافر حتى في تقييم موتاهم؟ في قصة الجلبي إثارة خاصة؛ فالرجل الثري المتعافي حد التخمة كان قد أغلق باب غرفته وراءه ليصحو ميتاً. هكذا ببساطة مات الجلبي! ابنته، تمارا ألجلبي، تقول الأخبار، إنها قد اصطحبت معها فريقاً طبياً للكشف والتأكد أن أباها قد مات ميتة ربه. ولا إضافة، حتى الآن لا خبر عن ذلك الفريق، وماذا كتب وقال عن موت الجلبي! ولأن الحكايات تتوالد عن بعض، فقد انصرف الناس عن حكاية الموت ذاته إلى حكاية دفنه في ضريح الإمام الكاظم. هل انتهت القصة، أشك؛ في قصص الرئيسة لراوي بغداد الأهم "فرمان" تبدأ الحكاية من نهايتها، من الموت ذاته. منطق السرد يفترض دائماً توفر أية قصة أو مدونة سردية على حوافز ومثيرات، وبظني أن حياة الجلبي، بل نمط ونوعية شخصيته تتضمن قدراً كبيراً من حوافز السرد، وهي التي تفترض أن نفيد كثيراً منها في إثارة السؤال الأهم: هل مات الجلبي أم قتل؟ إذن، ليس الموت سوى حافز أول للسرد والكتابة. لنتذكر، هنا، أن أربعين عاماً لم تكف لنسيان، أو تغييب التساؤل الأهم عن مصرع الشخصية الأبرز في الشعر العالمي الشيلي بابليو نيرودا، الذي تسرب حكومة بلاده الآن أنه قد قتل. إذن، الموت ليس نهاية القصص دائماً، وربما أبداً. لكن هل تبدو قصة موت الجلبي وحياته حكاية تستحق السرد، وأن تصبح حكاية أولى في طوفان الحكايات في بلاد الحكايات الرئيسة، أظن الأمر كذلك، بل إنه هكذا مؤكداً؟! الببلوغرافيا المتاحة، حتى الآن، عن الجلبي تجعل منه قصة رئيسة برأسها، يكفيه أنه كان وراء إزاحة قصة الديكتاتور من حياتنا، بل أنه، كما يروي مناصروه، كان وراء تأليف ستمائة قصة، ويزيد، في المدونة السردية العراقية مما أصدره الكتاب العراقيون بعد موت الرقيب. طوفان الحكايات هذا ما كان له أن يحصل لولا مغامرة الجلبي، أن تقنع رعاة البقر باحتلال البلاد، فانها قصة لا أتفه منها، أن تزيح الديكتاتور وقصته؛ لتحل، مكانها، قصة البرابرة المحتلين، فإنه المدخل الأهم للتاريخ في بلاد متخمة بفائض التاريخ ذاته. هل لأجله شغل الناس أنفسهم بقصة الجلبي وموته، ربما، فمن لا يملك قصة، أية قصة، عن حياته، يجاهد لامتلاك غيرها! لكن الجلبي قد مات، تاركاً وراءه الأسئلة المثيرة حول موته وحياته مما سيكتب عنه كثيراً.
لكن ماذا بشأن قصة عبد الرزاق عبد الواحد، أبي خالد، شاعر الديكتاتور، وهو ذاته من ألزمنا المعلم صغاراً بحفظ قصائده المادحة لمن وضعت صورته أمامنا في الصف الدراسي، متى كان ذلك؟ أظنه قبل انتصاف الثمانينيات. كان السفاح قد ترك شبح ابتسامة على وجهه، وهو ينظر إلينا، نحن الطلبة، واحداً بعد آخر، ربما ليتثبت من أثر الكلمات الصاخبة المادحة بهستيرية مسعورة علينا، لا أظن أن تلك النظرات قد تمكنت من الفصل بين أصناف شتى من الهستيريا: الخوف من المعلم، حاد المزاج، المنفعل دونما سبب معلوم، والذي يحمل بيده عصا وهو يردد أمامنا كلمات الشاعر، فيما كانت تجتاحنا هستيريا البرد القارس، برد الثمانينيات الذي أشعلت لأجله، ربما، نيران حرب طاحنة. الآن أتذكر وجه المعلم الغاضب لأمر لم افهمه حتى الآن، وأنا اختلس النظر، بين رجفة وأخرى، للوجه الباسم في صورة السفاح. كان المعلم، عفواً، الشاعر يجلدنا بكلماته الواصفة لبطش ممدوحه، فيما كنا، على الأقل، كان هذا شأني، التفت يميناً ويساراً بحثاً عن معنى تلك الكلمات. المعلم الغاضب كان يجهد نفسه ليشرح لنا معنى القصيدة. ولم أفهم، حتى الآن، تلك القصائد المشبعة بتوصيفات الوجوه المخيفة عندنا، بالضبط لم أفهم كيف يمتدح "الرئيس" بأوصاف السفاحين وقطاع الطرق. صورة السفاح هي بالضبط ما كان يرسمه الشاعر الفحل، كما كتب أحدهم اليوم في أحدى صحف البلاد بعد ليلة واحدة من موت الشاعر. إنها صورة "الشقي"، بالتأكيد! كان السؤال على طرف لساني؛ لولا الخوف، خوفي من المعلم وهو يلوح أمامنا بعصاه، وحاجتي الجامحة للدفء، أن اسأل المعلم ان كان الشاعر يعرف "بهجت" الشقي، بسكينه الصغيرة المخبأة براحة يده اليمنى، وهو يقترب منا، نحن الصغار، ثم ونحن نفر منه، من وجهه المرعب؛ إنها، بالضبط، الصورة التي أجاد الشاعر في رسمها، صورة الشقي هي ما كان أمامنا. الآن أفهم أن الشاعر كان ملزماً بصورة ممدوحه. وهي صورة لا أظن أن أحداً غيره قد نجح مثله في إجادة رسمها. آلاف الشعراء ممن وقف يوماً، أو أياماً عديدات، أمامه، وبعضهم كان على رأس المؤسسة الثقافية المسيرة للثقافة والأدب في البلاد، قد أفلح فيما أفلح به عبد الرزاق. نعم، عبد الرزاق عبد الواحد وحده من نجح في توصيف ورسم صورة طافحة بالخوف والرهبة عن السفاح المرعب! هل لأجله بالغ "صدام حسين" في تكريمه ومنحه العطايا، أظن؟ إنها صورة خاصة للقاتل السفاح التي لا يجوز لغيره أن يتصف بها. هكذا ستخبرنا سجلات الأمن أن البعثيين قد أنهوا، والى الأبد، قصص الشقاوات من سرديات البلاد. وهي صورة ستقف عندها، بظني، أجيال وأجيال من الباحثين والمثقفين العراقيين خاصة والعرب. وليس غريباً، من ثم، أن لا تخرج الصورة المقترحة للديكتاتور العربي عما رسمه عبد الرزاق عبد الواحد، حتى بعد أن سقط حكم الديكتاتور في غير بلاد عربية؛ فإن الراجح أن الصورة المرسومة، لم تبتعد، للآن، عن مخيلة الشاعر وهو يتأمل سفاح البلاد. ومن الغريب حقاً، بعدها، أن يطالب قسم كبير من مثقفي البلاد راسم الصورة بعد سقوط الديكتاتور، أن يعتذر عما بدر منه؛ فالشاعر الظافر لا تهمه مطلقاً أخلاقية ما رسم وتاثيراته؛ إنما هو، وهو الأهم عنده، مخترع الصورة المثلى للسفاح، بل إنه مخترع قصة الديكتاتور ذاتها. فهي القصة التي ستشغل الجميع، القتلة قبل الضحايا، حكاماً ومحكومين، عرباً وأجانب، وفي النهاية سيأتي راعي البقر المنهمك بقصص المهاجرين وبلاده الظافرة ليورطنا، من جديد، بقصة مماثلة بمنطق النهايات المفتوحة؛ فلا نهاية للقصة الجديدة، لا الموت، موت الجلبي مثلاً، يوقفها، ولا تشتيت قصة الديكتاتور باقتراح أنماط جديدة من القتلة، فرانكشتاين مثلاً، سيعيدنا للأصل الحكاية.
للأسف لا توفر بلادي تلك النظرة المتفحصة للأمور، ففي سياق آخر كتب ماركيز "عشت لاروي"، وكتب نيرودا على غلاف مذكراته "أعترف أني قد عشت"، فيما تقول العجائز عندنا "عشتو"، وهو منطق الساخرين من الهزيمة، من بلاد تكاد تموت ففيها النكتة الطافحة بالظفر. عندنا الآن، فقط، منطق المتناطحين الطامحين لامتلاك منطق القص ذاته. وأياً كانت القصة المروية: قصة الديكتاتور أم قصص رعاة البقر؟ فان للمؤلف، كذلك، قصته الشخصية، وقصة بلاده.