عصفورية "إلى الأبد"
سماء.. محض سماء محفوظة في علبة سردين، دون أن ينقطع نفسي وأنا أتفرج على الدلفين الخارج من المرآة التي أقف قبالتها. خذ المكان الى آخره، لن ينفع المكر لحظة تفسير الجمال الغريب للوحشة، أو حتى تلك الأحابيل التي يقتضيها التعبير البسيط لتلك الحدود الطفيفة بين الظل وصاحبه. ولطالما كنت طالباً فاشلاً في مادة الجغرافيا، وكثيراً ما كنت أضحك وأنا أتملى صورة ملتقطة من إحدى المركبات الفضائية لسطح الأرض، منسحراً بتلك الأخاديد المرسومة، حيث لا فواصل لخيط الألم الذي يرشح من قعرها سوى مساحة الأزرق التي يفرضها لون المحيط ولم ينفع معي كتاب الأطلس لأحسن مقدراتي في تملي الخرائط والحدود والمباني الرسمية وبعض الكتيبات التي كانت تفسد عليّ متعة تملي المغيب المرفوع بإبهام لا مرئي. خذ المكان الى آخره، وقِف كأنكَ الشاعر أمونوس على لسان كافافي وهو يرثي بلا هدنة الممالك المقدسة.
أنت ذاتك الطفل الذي كنت ذات يوم وهو يؤدي التحية في الباحة المبلطة بالصقيع، وليس ثمة من يعثر على تفسير حاسم لامتثال الدمى لعمود عليه خرقة. خرقة وحسب، صدقناها ونحن نمضغ الهواء بأسنان لبنية على إيقاع النشيد الصباحي الأزلي، قوته النفاذة كانت تكبل أي قدرة على الهرب من قلاع الأبد ومنجزات الجوع وحشرات الوهم التي تئز في الكتب. وكمثل أسراب مهزومة نفلت الى أحلامنا التي نتف ريشها، بلا حركة في مقدورها أن تحمي حفلات الإعدام هذه . ولأتذكر تماماً من أي نوع كان فرط العجز ذاك، فرط القسوة، والرعب الذي كان يدور تحت جناحي الوطواط ذي المهابة ومالك العناصر الأزلية والذي باسمه كانت الشمس وحياتنا وأقفيتنا تدور.
روزنامة العتمة، حذاء التاريخ الضخم، والوشاح المرمي على الزمن المحلول في حركة يديه المائلتين على الحشود التي أتت من القرى والجرود وسهوب العالم السفلي لتشرد تحت شرفته وتنسى قليلاً مشهد الغروب الملقى على طقم أسنانه. كل هذا البذخ الذي لا مفر منه لم تحجبه السحنات المرمي عليها ألف سوط وكأنها جلد مدبوغ بعلامات قيامية، ومتعة أن تظل هكذا كما هي مصبوب عليها ماء الورع وطاعة أشبه بقشعريرة لازمة تقبع في عالم خفي. أهم شيء منسي تلك الأدراج التي لم يكتشفها أحد، تلك الحوليات الباهرة.. النائمة تحت الجلد لقدرة شخص واحد أن يحول شعباً الى جالية مرمية في صحراء عليها أن تبتسم كلما مالت صورته الحاذقة في أماكن أعياده الرومانتيكية ستجد حشود الصفوف الأولى وهي تتأمل المحتفى به الجالس على المنصة، شخصيات الاستهلالات الخارقة، الصفوة المعروفة التي شقّت طريقها الى قدميه بعرق الجبين، وحشود أخرى تضمر في قلبها شيئاً وتنطق شفاهها بشيء غيره، عمياء هزيلة ومنسية تصفق للهواء ولطبول الموسيقى الوطنية والتي بانفعال ستتلاشى أمام فاصلة الخطاب في فمه الذي يحيل الجنة الى منجم فحم، والقهر الى فضيلة، وشجرة السرو الى منصة إعدام سرية، والأجساد الممدودة على سرير الحب الى هيكل سيارة محروق آنذاك، ربما يمس الأرض وينزل كي يجتاز المدينة بجزمة لم ينزل عليها ضوء الشمس بعد، شبه شفاف وهو يمر بين رصيفين يرد على التلويحات بطوق نجاة، ثم يختفي فجأة ليختفي معه ذاك التناسق المصنوع بقدرة رجال الحرس، وكاميرات التلفزة المحلية التي ستنقل وعلى الهواء صدى المأثرة التي لا بد منها من دون أن تنسى أخذ آراء الشعراء والروائيين وعلماء الآثار والمؤرخين والفلاسفة والممثلين والطباخين في الأوتيلات والنائمين في الحدائق حول تلك الملحمة التي هزّت أصداؤها أركان المعمورة السبعة من يجرؤ أن يغيّر شكل التحية ساعة انصرافه الذي لا مفر منه أو ذاك الامتنان الخفيف الذي تمتلكه النظرات مع هدير جوقات الشرف. ولمزيد من سعة الخيال المهووس لن ينزل عن شرفته حتى يأذن الملاك الجاثم على كتفه اليمنى للنهار أن يفل، ثم يرمي على السكارى ظل اليد التي لوّحت كل هذا الوقت من دون أن يشعر صاحبها بالعطش أو الجوع أو الحاجة الى تفريغ المثانة المقدسة. ببطء سيغادر المصطبة، والصور المتلاشية تحت قدميه لأجساد دوختها البلاغة والنقاط التي كانت توحي بانتهاء يوم الحشر، لكن لا مناص من إتمام العرض بكامل شخوصه المتضورة من السعادة بين ديكورات مسرحه الجوال وتصرّ أنها ما زالت على قيد الحياة.
* * *
هو الذي يكره شبيهه في المرآة، وربما يشهر مسدسه نحوه ويصوّب، ثم يربت على كتف مرافقه ويطلب منه أن يعثر على أحد الكتبة ليدوّن سيرة العائلة التي نزل من قفطانها، وأن يبسط قدر استطاعته الحبر ذا الفعالية العمياء أثناء الكتابة عن مباني الفراغ التي شيّدت في عهده، كي تنفتح الشهية على الاستعارات التي ستمنح المؤلف حظوة ومنازل ومرافقين ونساء روسيات في تلك الأيام في الأيام ذاتها، كل العناوين تؤدي إليه، وباسمه سيقص الشعب شريط الحرير قبل أن يدخل الى سرير الزوجية، وباسمه سيضحك على الآخرين كي ينفذ بالوبر المتبقي على المؤخرة والبلاد المفتوحة على التصفيق تشبه مصعداً كهربائياً معطلاً في صحراء، ولإصلاح العطل لا بد من شريطة حمراء ومقص وضفاف من المسؤولين عن رعاية الخراب والروماتيزم ونشرات الأخبار الرئيسية. سيعبر موكبه بسرعة الشهاب، منخطف اللون داخل كابينة الليموزين، تلفه كآبة حزيرانية بعد الخطبة التي حسبها العراة دهراً ملجوماً بلثغته التي ظنوا أنها نوع من السخاء الرباني وبالتفاتة منه سيدخل الجميع غرفة عنايته الفائقة، وبصبر وأناة سينعزلون عن هواء العالم ـ إلاّ هواءه ـ محميين بعصمته وتعاليمه التي حولتهم الى فصل من فصول حكايات الجن، وسيرة أعداد غفيرة غير لازمة إلا لاحتفالاته القدرية. جماهير تحت الطلب. فئران تجارب الحتمية التاريخية التي أنجبته ثم أرسلته في طرد بريدي مسجل من زواريب الثورة والسيرة الحسنة ليقود هذه الكائنات على متن السفينة الأسطورية الى الثكنة الموعودة التي لا ضرع فيها ولا زرع سوى نجوم الظهر التي تلتمع على الأكتاف، ولوحة كبيرة له، رسمها أحد رسامي الثكنة وهو يغرس السرخس على المريخ، أصبح منه نسخة في كل بيت، كشكل من رفاه العيش والاحياء بنظر ثاقب يعرف ما الذي يدور حتى في أذهان الجواميس.
سيتعذر أن تشم رائحة إلا رائحته، حتى في العزلة العميقة سيتراءى كملاك الموت، مباغتاً، يخرج من الأدراج والكتب والقواميس ووسائد النوم. في هذه المسافة يشرف عن كثب على تحركات العوام، معلقاً أبناءهم بأسلاك النحاس كي يروا لون السماء أوضح من أي وقت مضى، مهنئاً إياهم عبر الراديو وبعض الوسائل المرئية باستمرار إطلالته على مستعمرة الهشيم وبميلانه سترتسم الطبيعة على هواه، حتى الحيوانات ستركن في ملكوته وهو يسوق الجميع في نزهة إحسانه وعطاياه. أما الذين سيعترضون على وجهات نظره الكثيرة فسيتحولون الى وقود غاز لمصابيح مسيرته التي ازدهر في ظلالها صناعة السلالم والميكروفونات والمسلسلات التاريخية وقصص أبو زيد الهلالي. أما اسم الشهرة الذي اخترع له فقد أصبح تقليداً يومياً، والأمل المجاني الوحيد الذي لا غنى عنه تلك الإغفاءة تحت جنح النصب التذكارية التي بنورانيتها تحيل الفاقة الى ترف لا تخطئه العين، مسحتها البرونزية تسبغ سحنته بشحوب يخفي سر الرجل الذي حط رحاله بلا استئذان وبمساعدة قانون الجاذبية استطاع أن يربط مصيره بكرسي، مع الزمن حوله الى سرير عائلي عصي على الاختراق وبالغ السرية لكثرة الشيفرات التي عليك تجاوزها. سينقل الأعمار الى دهر آخر، وحين يخرج عن طوره ربما تنام في البيت لتفيق في استانبول متخيلة. وعن طريق الخطأ ستذهب الى الصحراء كي تحرس الغبار ومكبات القمامة والخردة والكتب التي تمجد نزوله على العرش ومعه ثلة من التابعين لأفكاره التي ساهمت مساهمة فعالة في زيادة مشافي وعيادات الأمراض العصبية، وبلا ضغينة ستتوحد هذه المشافي لتصبح مشفى واحداً ممتلئاً بالعقلاء والأرائك النظيفة المجهزة للحفلات التنكرية التي يقيمها المعنيون للترويح عن النفس، في كوريدورات متداخلة لا نهاية لها.
السطوة وحدها هي التي تدفعه لكسر لمعان الخواتم في الفجر، وقدماه تغتسلان بمياه سدوم. ولن يعتقه النظر حين يجلس على الأريكة ليفقه الازدحام والأصوات الحائرة داخل مربعات الإسمنت المكوّنة من ضرورات العيش ومشاجب للذكريات والألبسة القليلة ومن دون أن يكشف وجودها أحد، بالكاد، هنا حيث بلا جدوى سيأخذها في كل منعطف بالعصي المنهالة والدم وقوائم الحديد المتدلية كشجرة عيد الميلاد طوال أكثر من عشرة قرون مرت كان ثمة حنين الى تلك اللمسة المفقودة لفخامته التي صنع بها المعجزات وخطف الى مستودعات بناها في العراء آلافاً من الذين حاولوا أن يشرحوا له معنى حلول الظلام من دون إعارة انتباه الى ردة فعله التي أظهرته متعدد الخصال وهو يحتمي وراء نظارته السوداء قادراً على إخفاء ندوب أعماقه التي يسكن فيها قطيع من الذئاب الجائعة ولا يحيطها سور، هكذا وبغتة سيتخلص من أعدائه بسورات غضب لم تخالجها لحظة تبكيت ضمير، ومن حينها كل الصور التي التقطت له صافي الذهن، وسحنة يبدو عليها رداء الطمأنينة مثبتاً بمسامير فولاذية مع قليل من سعار المكر الذي يحيط بالعينين الحذرتين اللتين لم تكونا لتثقان بأحد حتى لو كشط لحمه عن عظمه، لم تظهره نادماً أو يغطيها أي من علامات الأسف لن يمنح عقله ما يكفي من الشرود أو الراحة، إذ ليس ثمة إثارة أكبر من البحث عن المجاهل التي يختفي فيها كل من بقي له عين ترفّ نحو ضفة أخرى من العالم. ومن دون أي تردد سيطلق عليها أوصافاً دراماتيكية تمنح لأي كان من أتباعه حق محاكمتهم أو جلدهم لطرد القوى الشريرة من أجسادهم واعتبارهم آفات يجب التخلص منها، ولن تنفع التوبة مهما كان شكلها حتى ولو شرب أحدهم إكسير الشرف الذي هو عادة قديمة يمارسها الموالون لصاحب الاقليم الأبدي.
وفي إحدى ظهوراته السنوية على الرعية الطائعة سينفجر من الضحك الواضح للعيان الذي كان يرافق تصفيقه الحار إثر مديح أطلقه عليه حارس برلمان العدم خلال إلقائه خطبة بمناسبة عيد الجلوس. ثم يتزاحم المتزاحمون على المعاجم وكتب الأساطير لينتشلوا منها أحداثاً وأسماء تاريخية يلصقونها بمقامه مع إطلاق العنان للمخيلة العاطفية التي ستغزو أيضاً القلوب وجدران الشوارع والدكاكين وأعمدة الكهرباء وأسلاك الهاتف السلكي واللاسلكي بنعوت تدفع الزائر الغريب ليظن نفسه أنه في السند نائماً على بساط الريح.
فوق هذه التخوم سيبني صرحه اللفظي ـ غطاء امبراطورية حاشيته المبتهلة التي لا تنفك تعطي الدروس والعبر حول أهمية طأطأة الرؤوس، وإصاخة السمع لقصص الحروب التي خاضها في ساحات قتال مقطوعة عن أي درب ولا يعرف أحد عنها شيئاً. بهذه الأعمال المسرحية الخالدة سيخطف الأبصار، ويفرض الهيبة، ويحسب له ألف حساب.