لأن المحاكمة كانت الدليل الأول على خلع مبارك، توهمت للحظة أنه لم يزل في الحكم، وتصورت أن تتصدر صحف الصباح التالي صورة مبارك على منصة القضاء، والقاضي على المحفة في القفص. لكن 3 آب/أغسطس 2011 غير 3 ايلول/سبتمبر 2010 عندما أجرت صحيفة الأهرام مونتاجًا وضعت فيه مبارك بدلاً من أوباما في مقدمة صورة جمعتهما مع ملك الأردن ورئيس السلطة الفلسطينية ونتنياهو!
وبينما تمثل المحاكمة انتقامًا لشعب أهدرت أبسط حقوقه على مدى ثلاثين عامًا؛ فإن ظهور مبارك في القفص جاء تعويضًا للفوتوغرافيا عن تاريخها المهدور مع رئيس كرهته الكاميرا فحاول خبراء التزييف إجبارها على حب لم تعرف كيف تمنحه لرئيس تسلم حكم بلد كبير بعد ثلاثة رؤساء أولهم محمد نجيب الذي لم يُعط فرصة في الحكم تكفي لالتقاط صورة، والثاني جمال عبدالناصر الذي عشقته الكاميرا، ثم أنور السادات الذي عشق الكاميرا.
مثل كل الرؤساء الضباط في حقبة الاحتلال الوطني الآفلة، جاء حسني مبارك من أصول متواضعة؛ لذلك فهو بلا ماض فوتوغرافي. وإذا ما تجاهلنا ظهور مبارك الطيار في لقطة من فيلم شادية وكمال الشناوي `في وداع الفجر` فإن اللقطة الأولى لحسني مبارك، التي ألحت بها الصحافة على الجماهير، كانت في غرفة عمليات القوات المسلحة بصفته قائدًا للطيران. ضابط قصير القامة، لا يقال له رِبعة لأن لحم الفساد لم يكن قد تراكم على جسده بعد.
تلك الصورة كانت حجر الأساس في حائط المجد الفوتوغرافي الذي أرادت الصحافة المصرية بناءه لرئيس بلا بريق. ولم يرتفع الجدار شبرًا واحدًا؛ لأن الرئيس كان يزيل بإهماله أية لبنة يضيفها اهتمام الكاميرا.
لم يكن ولوعًا بشيء في البدء. كان عسكريًا منضبطًا لا مبدعًا، وفي كل مرة تم تصعيده كان صعود الضرورة؛ حيث جاءت ترقياته دائمًا بعد محاكمة قادة مهمين أو غيابهم في الحروب.
عندما انتهت حرب تشرين الاول/أكتوبر أحس رب الأسرة البسيط أن عليه الالتفات لمستقبل الولدين. وزار السادات طالبًا منه تعيينه سفيرًا لمصر في بريطانيا `عشان أعمل قرشين للولاد`!
ويقال إن التي عينته نائبًا للرئيس هي جيهان السادات التي سألت زوجها عقب الزيارة:
ـ كان عايز إيه، الراجل أبو دم تقيل ده؟
أطلعها السادات على مسألته؛ فقالت له إن ذلك هو الرجل الأنسب ليكون نائبًا لك: `لأنه بلا طموح` ولم تدرك أن للأقدار كلمتها التي تعلو على كل الخطط وأن `الراجل أبو دم تقيل` سيصير رئيس الضرورة بعد اغتيال زوجها.
مثلما كان مبارك بلا طموح في الواقع، كان بلا طموح في الصورة أيضًا. لم يكتنز الكثير من الصور. ولم تظهر له صورة يمكن أن تحتال على قلب بشر. وقد عيلت حيلة مفبركي الشعبية، كلما تحايلوا لخلق صورة توقع الحب في نفوس الشعب أفسد الرئيس جهودهم بدأب.
قالوا له إن حديثه مع العمال أثناء جولاته التفقدية يكسبه شعبية مرتجاة. وضعوا في يده مقصًا وعلى الأبواب أشرطة افتتاح، حتى أن بعض المنشآت تم افتتاحها أكثر من مرة. وأخذ الرئيس يتبادل الكلام مع العمال كلما زار مخبزًا أو معلفًا أو معرض كتاب، ولكنه لم يكن حوارًا حقيقيًا. كان الرئيس يلقي بالأسئلة المحفوظة كمن يتخفف من ثقل، بصرف النظر عن إجابات العامل. في إحدى الزيارات سأل عاملة عن اسمها؛ فأجابته:
ـ فوزية ياريس.
ـ اتجوزت؟
ـ لسة يا ريس.
ـ عال، عال، وعندك قد إيه عيال؟
في زيارة أخرى أصر الرئيس على إجراء حوار مع شخص يقف أعلى ماكينة عملاقة في أحد المصانع:
ـ انت بتعمل إيه عندك؟
ولأن من كلفوا الشخص بالوقوف هناك في ملابس العمل، لم يتوقعوا أن يتطلع الرئيس إلى فوق ويدير معه هذا الحوار؛ فقد ارتبك الشخص، وقال:
ـ بشتغل يا ريس.
ـ أيوه، قل لي، بتشتغل إيه فوق كده؟
ـ أمن ياريس.
هكذا لم تعش له صورة في الوضع قائمًا مع العمال طوال سنوات من التنقل المستمر بين مواقع الإنشاءات كما لو كان ملاحظ أنفار لا رئيس دولة. وعندما تضعضعت قواه واقتصرت مقابلاته على زواره من الرؤساء اكتفى بالوضع قاعدًا. وكان المصورون مأمورين بعدم التصوير من زاويته. وكانت المقابلة التي تتم في الصباح لا تصل إلى دور الصحف إلا في المساء قبل الطبع بدقائق. ساعات الرتوش على الفوتوشوب كانت تزيل التجاعيد وتقلب صفرة الوجه حمرة، لكن زاوية التصوير كانت تجعله يبدو أقل من ضيفه دائمًا.
عاش الرجل في الواقع حذرًا هيابًا من التغيير؛ فتحولت سنوات حكمه إلى جمود مطلق أدى إلى الثورة. وفي مظهره كان لديه ذات الحذر؛ فظلت صوره الملونة أسيرة الألوان الصريحة التقليدية، بعيدًا عن المغامرات اللونية التي تحتاج إلى ذوق رفيع. اختبأ في البدلة الكحلية والقميص اللبني أو الأسود مع الأبيض، حتى عندما وصلت الرفاهية إلى حد كتابة اسمه على خيوط النسيج، كانت البدلة الكحلية تبدو عادية ولا يمكن اكتشاف فخامتها إلا تحت ميكروسكوب.
لم يختزن الكثير من الصور مع الأسرة في بداية حكمه عندما كان مجرد موظف بدرجة رئيس جمهورية، أي أنه لم يمتلك الرؤية الاستراتيجية حتى على صعيد الصورة، ولم يحتط بعدد كاف من الصور الجماعية يبرر اشتراك الأسرة في حكم مصر!
الصورة المشهورة له مع أسرته كان يرتدي فيها البدلة نصف الكم السفاري، القادمة من تراث التقشف السوفييتي، وكان فيها الولدان شابين. لم يرهم المصريون أطفالاً كأبناء عبدالناصر. لكن إزاحة الأولاد من كادر الصورة أطفالاً لم يضمن له منعهم وأمهم من العبث بكرسي الحكم كبارًا. لم يكن راضيًا عن التصاقهم بكرسيه، ولكنه صار أعجز من أن يمنعهم، ولم يغير عقيدته الفوتوغرافية تجاههم، وظلت صوره معهم قليلة بوصفهم كادحين مثله، وبالكاد اقتنع أن العظمة إن كانت تليق ببيته؛ ففي جيل تال.
هكذا كانت فرحة مبارك بالحفيد `محمد علاء`. حقق مولده انسجام الجد مع حلم الجدة الامبراطوري. وهناك صورة شهيرة للولد على كرسي يليق بملك وحوله الجد والجدة والأب والعم. صورة تجافي بفخامتها التاريخ الفوتوغرافي المتواضع لتلك الأسرة وتتصل مباشرة بألبوم العائلة الملكية المصرية.
لم يعد الرجل الكبير يفارق حفيده. وبينما جلس جمال على حجر والده عنوة ليغتصب عجلة قيادة مصر، كان مبارك يضع محمد على حجره مختارًا وسعيدًا، يترك له عجلة قيادة السيارة والطائرة.
ارتدى الصبي ثياب الفارس والطيار، ولكن القدر شاء أن يرحل محمد صبيًا وكان رحيله الخسارة الأولى الموجعة لرجل اعتاد أن يكسب من دون أن يلعب، ثم كان الاستلقاء في قفص الاتهام الخسارة النهائية.
وفي لقطة الإصبع في الأنف داخل القفص استعادت الفوتوغرافيا كل ما فاتها من بريق في صور رجل بدأ بلا ألق وانتهى بلا ظل.
* مقال لعزت القمحاوي عن القدس العربي