الغالبية الساحقة من الكاشانيّات يولدن في كاشان، بالطبع. لكن «كاشان» التي أتحدّث عنها هنا بغداديّة الروح والجسد. ولدت في بغداد في سجن النساء في أواخر الأربعينيّات. لم تكن ولادتها عسيرة لكنها كانت بطيئة، استغرقت شهوراً طويلة. ركعت أمها فيها أمامها كل صباح، بصبر من نذرت نفسها لصلاة لا تنتهي. ركعت تسحبها بيدين متعبتين شيئاً فشيئاً إلى هذه الدنيا. دون أن تعاونها قابلة ولا ممّرضة أو طبيب. لم تتوقف لشهور طوال إلا لاستراحة قصيرة عند الظهر، تغيب أثناءها لتأكل وجبة بسيطة، ثم تعود بعدها وتنكب على الجسد الطفل حتى يأمرها الحارس أن تتوقف بُعيْد المغرب. فتمس وجه ابنتها بحنو كأنها تودّعها قبل أن تعود هي والأخريات اللواتي كن يعملن في تلك القاعة إلى زنازينهن. بعض الأمّهات كن يغنين بصوت خافت أو يشاكسن بعضهن البعض حين يكون الحارس بعيداً. أما أمّها هي فكانت تعمل بصمت حجريّ معظم الوقت. وقلّما عرفت الابتسامة طريقها إلى وجهها. في الأسابيع الأولى كانت كاشان صغيرة جداً لا تبصر ولا تفقه شيئاً. ولم تتضح لها ملامح أمّها إلا عندما اتضحت ملامحها هي. ملامحها التي لا تختلف عن آلاف الكاشانيات. لأنهن جميعاً سليلات عدد محدود من النقوش وتنويعات معروفة تم تداولها منذ القرن السادس عشر. فم الأم صغير كحبّة كرز وعيناها شهلاوان تحت حاجبين كثيفين. بشرتها بلون الحنطة وشعرها الأسود مخفي خلف إيشارب شذري اللون. يؤطر وجهها الحزين الذي مرّت على خده الأيمن سكّينة تركت فيه أخدوداً. السكّينة التي التقطتها الأم من الأرض بعد تلك الطعنة وزرعتها في صدر الرجل الذي ظل يعذّبها لسنين وأسكتته إلى الأبد. لكن ثمن صمته كان باهظاً وعمر حريتها كان قصيراً؛ أقل من أربع ساعات.
الأسطة الإيراني العجوز الذي جيء به وزملائه من إيران ليشرف على تدريبهن، والذي اختارها بنفسه بعد امتحان أجراه، كان يتجوّل كل يوم متفقداً سير العمل ويقف أمام كل كاشان ويتأمّل أو يبدي ملاحظاته. ابتهجت حين امتدحها أكثر من مرة متمتماً «بَه بَه، خيلي خوب» و«خيلي قشنگ خانِم.» وبعد شهور شبّت قامة كاشان حتى أخذت تضاهي قامة أمها التي لم تعد تتقرفص أو تركع، بل تجلس على كرسي. وأخذ الزهو يكبر في قلبها وهي ترى تقاطيع كاشانها البكر وأطرافها تكتمل والخطوط الملونة تصافح بعضها البعض. تلتقي وتفترق وتمر بالأشكال الهندسية التي توزعت بانتظام داخل الإطار المستطيل. حين اكتملت آخر خصلة من خصلات كاشان وقفت أمّها أمامها منبهرة بما صنعته يداها. مررتهما على جسدها وقبّلتها في أكثر من موضع وشمّتها كما كانت أمّها تشمّها عندما تبوسها. فهي تعلم أنها لن تبصرها ثانية أبداً.
في اليوم التالي طواها رجلان وربطاها في أكثر من موضع بحبل وحملاها ووضعاها في مخزن في السجن بانتظار اكتمال الأخريات. وشكّوا فيها دبّوساً ليثبت ورقة كتب عليها «كاشان/١/١٩٤٩.» وبدأت الأم العمل في اليوم التالي على كاشان أخرى ستفارقها حالما تكتمل.
ظلّت كاشان جاثمة في ظلام المخزن لشهر وضعوا أثناءه أخريات مثلها إلى جانبها وعندما أصبحن عشرحمّلوهن إلى شاحنة صغيرة أخذتهن إلى محل لبيع السجّاد في سوق دانيال. أمضت شهرين هناك حتى أعجبت بها سيدة كانت تبحث برفقة زوجها عمّا يزين بيتهما الجديد. وكذب البائع بشأن نسب كاشان ولم يقل إنها بنت بغداد، بل أصرّ على أنه استوردها من إيران. أضافت المرأة إليها اثنتين أخريين وكان نصيب كاشاننا غرفة الضيوف وظلت فيها سنين طويلة لا تتحرك فيها إلّا في بداية كل صيف حين يأتي نفّاضوا الزوالي ليحملونها هي والأخريات ويهزونهن لنفض الغبار. ثم يلفونها ويربطونها بقطع قماش ويضعونها خلف الأثاث أو في غرفة أخرى بانتظار عودة البرد. لكن أول مرة جاء فيها نفاضو الزوالي خافت وظنت أنهم استغنوا عنها أو أنها ستقبع في الظلام إلى الأبد. لكنها اعتادت هذا في السنين اللاحقة وأخذت تستمتع بسباتها الطويل. فتنام وتحلم بالخراف التي أعطتها خصلاتها. تراها ترعى على سفوح جبال بعيدة يهشّها راع تحت سماء حانية وشمس تحجبها بين الحين والآخر غيوم تدفعها الريح برفق. وتحلم كاشان بوجه أمّها وبعينيها.
ستقرر سيدة البيت فيما بعد أن تنقل كاشان إلى غرفة الجلوس «الهول.» وسيلعب عليها أطفالها الأربعة ويتخيلون الخطوط التي تعبر نقوشها شوارع لسياراتهم. ويرون الأقواس والدوائر الصغيرة ساحات تستدير فيها السيارات ويجلسفيها المارة. سيسقطون فتات طعامهم أو قطرات الشاي بالحليب ومشروبات أخرى على وجهها. حتى بقع الدم أحياناً. وستغضب السيدة وتنهرهم كلما فعلوا ذلك. سيستلقون على كاشان ويضعون وسادات تحت رؤوسهم ليكونوا أكثر قرباً من التلفزيون حين يشاهدون أفلام الصور المتحركة أو فيلماً طويلاً. سيكبرون ويتزوجون وينتقلون إلى بيوت جديدة وسيلدون. لكنهم سيظلون يزورون بيت العائلة مع أولادهم في المناسبات والأعياد.
ستبهت بعض ألوانها وستعلو وجهها تجاعيد خفيفة، لكنها ستحتفظ برونقها. وستتذكر السيدة، التي ستصل إلى سبعينيات العمر، بين حين وآخر، ذلك اليوم الذي اشترتها فيه. وتسأل زوجها إن كان يتذكّر وهما يجلسان وحيدين أمام التلفزيون. وستجئ حرب وأخرى وستخاف على أولادها وأحفادها، كعادتها، وتطلب منهم أن يجتمعوا في بيت العائلة الكبير لكي لا يقتلها القلق في ليلتها الأولى. وسينام بعض أحفادها على فرش تطلب منهم جدتهم أن يضعوها على كاشان. وستختنق كاشان، لا من ثقل أجساد الأطفال الذين ناموا عليها، فهم أخف من الطيور. بل من ركام البيت الذي سينهار عليهم ويُسْكتهم إلى الأبد. وسيخيّل لكاشان أنها تبصر وجه أمها تبكي عليهم وعليها.
مقطع من رواية بعنوان «فهرس» تصدر هذا الشهر عن دار الجمل.*