قصائد مُختارة للشَّاعر الإيطالي بيير باولو بازوليني

[???? ?????? ???? ????? ????????] [???? ?????? ???? ????? ????????]

قصائد مُختارة للشَّاعر الإيطالي بيير باولو بازوليني

By : Amarji أمارجي

قصائد مُختارة للشَّاعر الإيطالي بيير باولو بازوليني
Pier Paolo Pasolini (1922-1975) 


بيير باولو بازوليني في سطور

هو أحد كبار الفنَّانين والمفكِّرين الإيطاليِّين المثيرين للجدل في القرن العشرين، ولدَ في 5 آذار/مارس 1922 في مدينة بولونيا الإيطاليَّة، وشكَّل ظاهرة ثقافيَّة استثنائيَّة لتميُّزه في عدَّة مجالاتٍ كالشِّعر، والفلسفة، والرواية، والكتابة المسرحيَّة، وكتابة السِّيناريو، والإخراج السِّينمائي، والصَّحافة؛ وقد أظهر فيها جميعاً إبداعاً منقطع النَّظير.

كان ملاحِظاً شديد التنبُّه للتَّغيُّرات التي طرأت على المجتمع الإيطاليِّ من فترة ما بعد الحرب العالميَّة الثَّانية وحتَّى منتصف السِّتِّينات، مثيراً في أغلب الأحيان هجوماً جدليَّاً عنيفاً ومناقشاتٍ ثقافيَّةٍ حامية بسبب أحكامه الجذريَّة و نقده اللاذع فيما يتعلَّق بالعادات البرجوازيَّة وبالثَّقافة الوليدة لمجتمع الاستهلاك، كما بمعارضته لثورة 1968 الشَّبابيَّة ولزعمائها.

* * *

بدأ بازوليني كتابةَ الشِّعر في سنِّ السَّابعة بتشجيعٍ من أمِّه، وتأثَّر في مرحلة المراهقة بأعمال رامبو وكاردوتشي ودانُّونتسو وباسكولي. في عام 1942 نشر مجموعته الشِّعريَّة الأولى "قصائد إلى كاسارْسا" على نفقته الخاصَّة، وأصبح رئيساً لتحرير مجلة Il Setaccio (الغربال)، ولكن ما لبث أن فُصِل من منصبه لخلافه مع المدير الذي كان من المتحمِّسين للنِّظام الفاشي. سافر بازوليني إلى ألمانيا، حيث ساعدته هذه الرِّحلة على اكتشاف حالة الثقافة الإيطاليَّة آنذاك، وساقه ذلك إلى إعادة التَّفكير في رأيه حول السِّياسة الثَّقافيَّة الفاشيَّة، والتَّحوُّل تدريجيَّاً إلى الموقف الشُّيوعي، يقول: "إنَّ دافعي إلى أن أكون شيوعيَّاً هو صراع الأجراء الفريوليين ضدَّ كبار الملَّاكين الإقطاعيِّين".

من أهم إصداراته الشِّعريَّة "الفتوَّة الأبهى" 1954، "رماد غرامشي" 1957، "عندليب الكنيسة الكاثوليكيَّة" 1958، "روما 1950، يوميَّات" 1960، "سوناتة ربيعيَّة" 1960، "ديانة زمني" 1961، "أشعار على شكل وردة" 1964، "تجاوزٌ وتَركيب" 1971، "الفتوَّة الجديدة" 1975.

* * *

في حقيقة الأمر، لم يكن بازوليني إلا شاعراً. مسرحه، ورواياته، وأفلامه لم تكن إلا قصائد محوَّرة إلى صياغاتٍ أخرى، إلى لغاتٍ أخرى. لقد كان الشِّعر ملتحدَه النِّهائيُّ والأساسي، يقول: "كلُّ أفلامي أخرجتها كشاعر". بدأ بازوليني تقلُّبات مراحله الشِّعريَّة بلغةٍ مستلهمَةٍ من قراءاته المصفَّاة والمنتخبة بدقَّة، وتحديداً كبريات الملاحم الشِّعريَّة، فما بين "قصائد إلى كاسارْسا" و"الفتوَّة الأبهى" يحاول بازوليني صياغة لغة شعريَّة تكون في آنٍ واحدٍ متَّحدةً بالواقع ومنبجسةً من أصول القصِّ الشِّعريِّ القروسطيِّ والمسيحيِّ. أمَّا ابتداءً من "عندليب الكنيسة الكاثوليكيَّة" فإنَّه يتقصَّى في شعرِه الجوهر المعقَّد والمتناقض للحقيقة، مواصلاً الصُّعود نحو الضِّياء الغامض للتَّاريخ، لكن محافظاً في الوقت نفسِه على أفكاره المتمحورة حول النَّقاء، والكلَّانيَّة، والاتِّحاد المرعب مع العالَم. بعد ذلك، وعلى الأقل من مرحلة "ديانة زمني" فصاعداً، يعمد بازوليني إلى "تدنيس" قصيدته بنبرةٍ تبشيريَّة، مصحوبةٍ بنقديَّةٍ عنيفةٍ وغاضبة، وبنغمةٍ خطابيَّة؛ وفي أشعار هذه المرحلة نجده يحاول إعلاء صوت الغنائيَّة المتَّصلة بالأحوال الوجدانيَّة للآخر، بجوهر الطَّبيعة، وبوحدة المزيج بين الواقع اليوميِّ والحقيقة المطلقة للشِّعر؛ وتبدو هذه المرحلة، على تقدُّمها، تجريبيَّةً أكثر من سابقاتها، لأنَّها مدفوعةٌ بعنفٍ شعريٍّ يسخِّر فيه بازوليني كلَّ طاقته التَّهديميَّة واندفاقه الدَّموي، ولذلك ما من شكلٍ شعريٍّ واحدٍ أو ثابتٍ أو اعتياديٍّ ههنا. في مراحل أكثر تقدُّماً، ومع تفاقم إحساسه بالمرارة والقنوط، يعود بازوليني إلى واجب إنجاز ذلك التَّوازن الباهر والهش بين الواقع والشِّعر، مصرَّاً على الطَّبيعة الخطابيَّة والتَّحليليَّة والمنطقيَّة لكتاباته، ومعيداً بغضبٍ إلى نقطة الصفر طموحه المتمثِّل بتسامي الشِّعر، وهذا ما نجده في "أشعار على شكل وردة"، وكذلك في "تجاوز وتركيب" العمل الذي حمل فيه بازوليني الشِّعرَ إلى ما وراءَ الشِّعر، جاحداً ومناقضاً حلمه الخاص الذي ابتدأه في "الفتوَّة الأبهى".

* * *

كان موته مشابهاً لأعماله ومغايراً له. مشابهاً: لأنَّه كان قد صوَّر، في أعماله، أوجهَ البؤس والوحشيَّة، ومغايراً: لأنَّه لم يكن البتَّة واحداً من شخصيَّاته؛ إنَّه ولا شكَّ وجهٌ مركزيٌّ في ثقافتنا، شاعرٌ دمغَ حقبةً كاملة [...]، يقول ألبرتو مورافيا.

في الليلة التي بين الأوَّل والثَّاني من تشرين الثَّاني/نوفمبر من سنة 1975 قتِل بازوليني بطريقةٍ وحشيَّة، دهساً بسيَّارته الخاصَّة ولعدَّة مرَّات على شاطئ أوستيا قرب روما، ونُسِبتْ الجريمة إلى شابٍّ متشرِّدٍ آنذاك، وتقول رواياتٌ أخرى إنَّ قتله كان بسبب شيوعيَّته وخروجه على الكنيسة.

النُّصوص

(1) من مجموعة "الفتوَّة الأبهى" 1954

إهداء

إلى فسقيَّة الماء في بلدي.
لا ماء في الأرض أطرى من ماء بلدي.
إليكِ يا فسقيَّة الحبِّ البدائيِّ.

رقصةُ النَّرجِسيِّ

بنفسجٌ أنا ونَغْتٌ،
أنا الإعتامُ والصُّفرةُ في جسد.

أجسُّ بالعين المغبوطةِ
نغتَ صدريَ الكمِد
وبهاءَ ضفائري التي تشعُّ بفتورٍ
في شمسِ الضِّفَّة.

بنفسجٌ أنا ونغتٌ،
أنا الفحمُ والوردةُ في جسد.

أرصدُ البنفسجة التي تبرقُ
ثقيلةً وطريَّة في الضَّوء-
ضوءِ بشرتي المخمليَّة
المكنونةِ في ظلِّ توتة.

بنفسجٌ أنا ونغتٌ،
أنا اليبوسةُ والطَّراوةُ في جسد.

البنفسجُ يجدلُ ضوءَه
على خاصرتَي النَّغتِ الصَّلبتين،
ومعاً يتمرأيان في البخار الأزرق
لماء قلبي الضَّنين.

بنفسجٌ أنا ونغتٌ،
أنا البردُ والدِّفء في جسد.

مطرٌ على التُّخوم

ها أيُّها الفتى، هي ذي السَّماء
تمطرُ على دفء بيوتاتِ بلدِك،
وفوق وجهك الذي من وردةٍ وعسل
يولدُ الشَّهرُ ملبَّداً بالغيم.

الشَّمسُ المعتَّمةُ بالدُّخان،
تحت غصون التُّوت،
تلهبُكَ- وعند التُّخوم
أنت وحدَك مَن يغنِّي الموتى.

ها أيُّها الفتى، تتضاحكُ السَّماء
فوق شرفاتِ بلدِك،
وعلى وجهك الذي من دمٍ ومَوْجِدة
يموتُ رائقاً الشَّهرُ.

الفتوَّة الأبهى

مخمورِين قليلاً، في اللياحِ الأوَّل للفجر، يغنُّون،
مناديل حمرٌ مشدودةٌ إلى الحناجر؛
يغنُّون، وبأصواتٍ بُحٍّ يأمرون بليتراتٍ أربعةٍ من النَّبيذ
وبقهوةٍ للفتيات، اللائي يبكين الآنَ صامتات.
أقبلي، يا قطارات، واشحني هؤلاء الفتية الذين يغنُّون
بقمصانهم الإنكليزيَّة وفانلَّاتهم البيض.
أقبلي، يا قطارات، واحملي الفتوَّةَ بعيداً بعيداً
لتنقِّب عبر العالَم عمَّا هو مفقودٌ هنا.
خذي عبر العالَم، يا قطارات، أولاء الفتية المقصيِّين
عن الوطن، إلى حيث لن يضحكوا بعد اليوم أبداً.1

(2) من مجموعة "رماد غرامشي" 1957

رمادُ غرامشي2

I
ما هو بأيَّاريٍّ هذا الهواءُ المرمَّد
الذي يصيِّرُ هذه الحديقة الغريبة المعتِمة3
أكثر إعتاماً، ويُبهِرها

بالبرقِ المعمِّي... لكأنَّ السَّماءَ،
فوق العِلِّيَّاتِ المصفرَّة، زبَدٌ
من أشباه دوائر هائلة تبرقعُ الآنَ

التواءاتِ نهرِ تِفِرِهْ، والجبال الفيروزيَّةِ
جبالِ لاتْسيو... صمتٌ
قاتلٌ، وجافٍ جفاءَ أقدارِنا نفسِها، يسفِكُهُ

بين الأسوار العتيقة هذا الأيَّارُ الخريفيُّ.
فيه ترتسمُ ترميدةُ العالَم؛
ووسط خرائبه تكمنُ الخاتمة

خاتمةُ العقدِ الذي تجلَّى فيه الجهدُ العميقُ
والسَّاذج، جهدُ إصلاحِ الحياة؛
كذلك ثمَّة السُّكون، مُنتِنٌ وعاقرٌ...

شابَّاً كنتَ، في شهر أيَّارَ ذاك
أيَّامَ كان الخطأ معنىً آخرَ للحياة، في ذلك الأيَّار الإيطاليِّ
الذي كان، على الأقلِّ، يضفي على الحياة جذوةً؛

كنت يا غرامشي، وأنتَ الأقلُّ طيشاً وأوفر صحَّةً
مِن سائر آبائنا - لا أسمِّيك أباً، بل أخاً
متَّضعاً- قد بدأتَ ترسمُ بيدك النَّحيلة

المثالَ الأعلى الذي يريق نورَه
(لكنْ ليس لأجلنا: فأنتَ ميِّتٌ، ونحن كذلك
موتى، معكَ، في هذه الحديقة

المبلَّلة) على هذا السُّكون. منهيٌّ أنتَ،
أفلا ترى؟ أن تستريحَ إلَّا في هذا المقامِ
الغريب، منفيَّاً فوق ذلك. ضجرٌ

جليلٌ يحوِّطُك. وحدُه
الرَّجعُ الخاملُ لانطراقِ السَّنادين يبلُغُك
من وُرَشِ ضاحية تِسْتاتْشو، النَّاعسة

آناءَ الشَّفق: حيث بين السُّقُفِ البائسة، وكُوَمٍ
مِن صفائح فولاذٍ عارٍ، وحديدٍ متآكل،
يُتِمُّ صانعٌ سقيمٌ نهارَه، مدندناً،

فيما تختتمُ السَّماءُ، مِن حولِه، إمطارَها.

II
بين العالَمَين4، تقومُ هدنةٌ،
لا مكان لنا فيها. علينا أن نختارَ ونتكرَّسَ... أمَّا الموتى
فلم يبق لهم، بخلافِ صوتِ هذه الحديقة

النَّبيلة والمغِمَّة، صوتٌ آخرَ يلطِّفُ،
بخداعٍ متعنِّتٍ، [ظلَّ] الحياةِ الباقي في موتهم.
في أطواق المدافنِ الحجريَّة لا تفعلُ

رقوشُ العلمانيين المدنِّسة شيئاً
سوى أنَّها تبوحُ بما بقي من مصيرهم،
على تلك الشَّواهد الرَّماديَّة،

القصيرة والمهيبة. ها عظامُ الأثرياء،
أثرياءِ الأممِ العظمى، لا تزال ملتهبةً بهُياماتٍ
لا لاجمَ لها، نقيَّةٍ الآنَ

مِن كلِّ شنار؛ وهي ذي تخفقُ، كأنَّها لم تندثر يوماً،
تهكُّماتُ الأمراء، واللوطيِّين، الهاجعةِ أجسادهم
داخلَ المرامدِ، وقد صارت إلى الأبدِ

رماداً مذرَّى، منقوصَ الطُّهرِ كما من قبلُ.
ههنا، صمتُ الموتِ يوالي
الصَّمتَ اللطيفَ، صمتَ الرِّجال الباقين

رجالاً، وصمتَ المللِ الذي، في قلبِ المللِ الحدائقيِّ،
يتحوَّرُ خفيةً: المدينة التي،
بحيادٍ، تعزلُه5 وسط البيوت المتهالكة

والكنائس العديمةِ الرَّحمة، تجرِّدُه
بذلك من ألقِه. أرضُه
الطَّافحة بالقرَّاصِ والبقول، تُطلِقُ

سروَها النَّحيل، وذلك البللَ الأسودَ
الذي يبقِّعُ الجدرانَ حولَ
هَوشاتِ بقسٍ شاحبٍ، إذ يخمدُها

المساءُ الملطِّفُ في شميمِ طحلبٍ
عارٍ... [كذا تُطلِقُ] سحلبيَّاتها الهشَّة
عديمة الرَّائحة، حيث بنفسجيَّاً

يهوي الغروبُ، مع ارتعاشةِ نعناعٍ،
أو تِبنٍ عفِنٍ؛ فيما الليل بارتجافِ أعمى
يلجُ، هادئاً، مثلَ توطئةٍ موسيقيَّة،

قلبَ الحزنِ النَّهاريِّ. ضارٍ
هو المُناخ؛ عذبٌ هو، بين هذي الجدران،
تاريخُ الأرضِ التي ترشحُ منها

أرضٌ أخرى؛ عذبٌ البللُ الذي
يستدعي آخرَ؛ بينا تَصدى
- مأنوسةً وآتيةً من انفساحاتٍ

وخطوطِ أفقٍ حيثما الغابات الإنكليزيَّة تتوِّجُ
بحيراتٍ تائهةٍ في المدى، وسطَ مروجٍ
خضراء كما بليارٍ فُسْفوريٍّ، أو كما

الزُّمرُّد: "وأنتِ أيَّتها الينابيع..."-
الابتهالاتُ الورعة...

IV
فضيحةُ أن أناقض نفسي، أن أكون
معكَ وضدَّك؛ في الضَّوءِ
معكَ بالقلب، وضدَّكَ في ظلمةِ الأحشاء؛

خائناً نهج أبي6
- في الفكرِ، كما في شُبهةِ فعلٍ-
أعرفُ أنِّي مشدودٌ إليه بحميَّةِ الغرائز؛

بالشَّغف الجماليِّ ذاتِه؛
أنا المفتونُ بحياةٍ بروليتاريَّةٍ
سبقتْ وجودَك، لا ديانة لي

إلَّا في بهجتها، لا في كفاحها الممتدِّ
ألف عامٍ: في فطرتها، لا
في وعيها؛ وحدها القوَّة الفطريَّة

للإنسان، تلك المفقودة من المشهد،
ما يمنحها7 نشوةَ الحنين،
والبرقَ الشِّعريَّ: وسوى ذلك

لا أعرفُ ما أقول، إلَّا ما قد يكون إنصافاً،
لا إخلاصاً، وحبَّاً
نظريَّاً، لا تعاطفاً موجعاً...

فقيرٌ أنا، بين الفقراء، مثلهم
أتعلَّقُ بآمالٍ مُهينة،
ومثلهم أصارعُ لكي أحيا

يوماً بيوم. لكنْ، في وضعي المكئب،
وضع المحرومِ من الميراث،
أنا هو المالكُ: وملكيَّتي هي الأعظم

بين التَّرِكاتِ البرجوازيَّة8، بل هي
الحقيقة المطلقة. ويقيناً، مثلما أمتلك أنا التَّاريخَ،
فالتَّاريخ بدورِه يمتلكني؛ إنَّني مستنيرٌ به:

ولكن، ما نفعُه الضِّياء؟

(3) من مجموعة "عندليب الكنيسة الكاثوليكيَّة" 1958

ترنيمةٌ ليليَّة

ساكنٌ أنا سكونَ الموتى:
أحدِّق في السَّرير المنكبِّ
على أعضائي، وفي المرآة
التي تتأمَّلني باستغراق.

لا أحسنُ صَهرَ جليدِ
الكربِ، مثلما مِن قبلُ،
بالبكاءِ في قلبِ الأرضِ
ولا في قلبِ السَّماء.

لا أحسنُ ادِّعاءَ الهدوء
أو الحياد أو سواهما
من الجساراتِ الشَّبابيَّة،
لا أكاليل الآسِ ولا النَّخيل.

فيا أيُّها الإله الثَّابتُ الذي أكره
اجعل حياةً أخرى بعدُ
تنبثق من حياتي
وسيَّان عندي شكلُ الانبثاق.

سطوعٌ

آه أيَّتها الغبطةُ، الغبطةُ، الغبطة...
ألا زال ثمَّة غبطةٌ بعدُ
في هذا الليل اللامعقولِ
المعَدِّ لنا؟

(4) من مجموعة "ديانة زمني" 1961

الثَّراء

يتقدَّمُ بضعَ خطواتٍ، رافعاً ذقنه،
لكن كما لو أنَّ يداً
تضغط رأسَه إلى أسفل. وفي تلك الحركة
البسيطة والمجهَدَة، يقف جامداً، مسلَّماً به
بين هذه الجدران، في هذا الضِّياءِ
الذي يرهبه، وكأنَّه
هو ما يشوِّشُ، بخسَّةٍ، صفاءَه...
يطوفُ، تحتَ الدِّعامةِ المقشورِ ملاطُها،
بجمجمته الدَّقيقة، فكَّاه
الحليقان فكَّا صانعٍ. وهو ذا، على الأقواس العِقديَّةِ
الملتهبة، فوق الدَّغشِ الذي منه طُرِد،
يتحرَّك، ويقذفُ بالنَّظرات المرتابة التي لحيوان:
ثمَّ يسدِّدُ لهنيهةٍ نحونا، هو المُهانُ لجرأته،
عينيه المتَّقدتين: ثمَّ مجدَّداً إلى الأعلى... الشَّمس
على امتداد الأقواسِ تشتعلُ من جديدٍ،
بنقاءٍ غير مسبوق، من الأفقِ اللامرئيِّ...
نفخاتٌ من لهبٍ تبثُّها الزُّجاجيَّات
لتدبغَ الجدارَ عند الغروب، فيما تتقصَّاها في فزعٍ
تلكما العينان اللتان يتسيَّدهما الحشدُ،
ولم يكن يثني الرُّكبتين، داخلَ الكنيسة، ولم يكن
مطرقَ الرَّأس: ومع ذلك
ورعاً كان انبهارُه، تحت دفقاتِ الضَّوء النَّهاريِّ،
بالصُّوَرِ التي ينفثها ضوءٌ آخرُ في الفضاء.

أذرُعُ المهتاجين تلك، تلك الأظهرُ
المعتَّمة، ذلك الشَّواشُ مِن جنودٍ خضرٍ
وجيادٍ بنفسجيَّة، وذلك الضِّياء
المصفَّى الذي يحجِّبُ كلَّ شيءٍ
بصِبغاتٍ من ذرورِ الغبار: ألا إنَّها العصفُ،
ألا إنَّها المقتلة. العينُ المُهانةُ تَمِيزُ
الرَّسَنَ من الوشاحِ، والتَّوشياتِ من العُفر؛
الذِّراعَ الفاقعَ الزُّرقة الذي يرتفعُ
ليَذبحَ، من الذِّراعِ الكستنائيِّ الذي يتَّقيه
منطوياً؛ الحصانَ الذي يرتدُّ في حِرانٍ
من الحصانِ المطوَّحِ الذي
يرفسُ الجمعَ المنزوف.

لكنَّ العينَ تنحدرُ إذَّاكَ من هناك،
تائهةً، إلى جهةٍ أخرى... تائهةً، تَثبُتُ
على الجدارِ حيث تكتشفُ
جسدين معلَّقين، كمثل كونَين،
الواحد قُبالَةَ الآخَر، في شبه ظلٍّ مترَفٍ...
فتىً غِرٌّ أسمرُ، خفيفٌ
في أسماله الغليظة، وهي،
هي، الأمُّ البسيطة، المرأة الرَّصينة اللامُشعِرة،
مريم. في الحال تعرَّفتْها تلكما
العينان الشَّقيَّتان: عينان عذبتان،
لا تَبيْنان في استكانتهما. وليس المساءُ الذي
يتأجَّجُ في تلال أرِتْسو النَّاعسة
هو ما يحجبهما... بل هو ضياءٌ-
آه، حتماً ليس بأقلِّ عذوبةً
من هذا الضِّياء، بل أسمى- ينسكبُ
من شمسٍ مسوَّرَةٍ حيث كان الإنسان
إلهيَّاً، فوق هذه السَّاعة الواهية، ساعةِ التَّطويباتِ.

ضياءٌ ينسكبُ، أخفضَ فأخفض،
فوق ساعةِ التَّهجاعِ الأوَّل، أوَّلَ الليلِ
الذي، فِجَّاً وبلا نجومٍ، يطوِّقُ
قسطنطينَ، خارجاً من حدودِ الأرضِ،
تلك التي فتورُها صمتٌ سحريٌّ.
الرِّيحُ هدأتْ؛ بضعُ نفخاتٍ شائخةٍ منها
لا تزال تطوف، كما لو بلا حياةٍ،
بين أجمات جوزٍ خاملة.
لعلَّه أزيز الحشرات المغتبط هذا الذي،
عبر عصفاتٍ عنيفة، وبحماسةٍ يائسة،
ينفخُ في الرِّواقِ المفتوحِ،
وسط بضعة أصواتٍ مؤرَّقة، ربَّما، وترنيماتِ
قياثر جماعيَّة متشكِّكة...
أمَّا هنا، على السَّتائر الحليبيَّة المرفوعة،
على الطُّنُفِ المثلَّثة، على الحِواءِ المعرَّى،
فليس ثمَّة إلَّا لون النُّعاسِ المعتِم:
في مخدعِه ينام،
كمثلِ سَنام هضبةٍ أبيض،
الامبراطورُ الذي مِن هيئته الوديعة،
هيئة الحالِمِ، يولِّي السُّكونُ الإلهيُّ رعباً.

[...]

إلى الأدباء المعاصرين

أراكم: موجودون لحماً ودماً أنتم، والصَّداقة بيننا باقية،
سعداء أن نتلاقى ونحيِّي بعضنا، في بعض المقاهي،
أو في بيوت السَّيِّدات الرُّومانيَّات المتهكِّمات...
لكنْ ما تحيَّاتنا، وابتساماتنا، وهياماتنا المشتركة، إلَّا
حركات أرضٍ ليست لأحد: أرضٍ... بَوارٍ
هي عندكم مجرَّدُ هامشٍ، أمَّا عندي، فحدٌّ بين تاريخٍ وآخر.
لم يعد حقَّاً في مقدورنا أن نتَّفق: ذلك يرعبني،
ولكن حتَّى في أعماقنا، العالَم نفسُه عدوُّ العالَم.

(5) من مجموعة "أشعار على شكلِ وردة" 1964

ابتهالٌ إلى أمِّي

صعبٌ الإفصاحُ بكلماتِ الابنِ
عمَّا لا أشبهه في القلبِ إلَّا قليلاً.

أنتِ الوحيدة في العالَم التي تعلم
ما كان على الدَّوامِ في قلبي، قبل أيِّ حبٍّ آخَر.

لهذا عليَّ أن أهمسَ لكِ بالسِّرِّ المهولِ، أنَّه:
داخلَ رأفتك يولدُ ألمي.

أنتِ لا كُفُؤ لكِ ولا عِوَض. ذلك
ما حكمَ بالعزلة على الحياة التي وهبْتِني.

ولا أرغبُ في الوحدة. بي جوعٌ لا حدَّ له
إلى الحبِّ، حبِّ أجسادٍ بلا روح.

ذلك أنَّ الرُّوح فيكِ، الرُّوحُ أنتِ، ولكنَّكِ
أمِّي وحبُّكِ عبوديَّتي:

أمضيتُ الطُّفولةَ عبداً لهذا المعنى الرَّفيع،
المتعذَّرِ استدراكه، ذي الميثاقِ الفائق.

كان السَّبيلَ الوحيدَ للإحساسِ بالحياة،
كان اللونَ الوحيدَ، الشَّكلَ الوحيدَ: الآن انتهى كلُّ شيء.

فلنصمدْ: ما الأمر إلَّا
اضطرابُ حياةٍ تولدُ ثانيةً خارجَ المنطق.

أبتهلُ إليكِ، آه، أبتهلُ إليكِ: لا ترغبي في الموت.
أنا هنا، وحدي، معكِ، في نيسانٍ مقبلٍ...

تذييل
أفولُ طلبِ الشِّعر

مثلَ عبدٍ معتلِّ، أو مثلَ بهيمة،
طفتُ شريدَ عالمٍ خصَّصَه ليَ القدر،
بالبطءِ الذي لمسوخِ الطِّينِ-
أو الغبارِ- أو الغاب-
زاحفاً على البطنِ- أو على زعانف
لا تجدي في البرِّ نفعاً-
أو فوق أجنحةٍ من غشاءاتٍ متعضِّية...
من حولي كان الطَّمُّ، أو الحصى،
أو ربَّما محطَّاتٌ مهجورةٌ في أقاصي مدنِ الأموات-
مدنِ الدُّروبِ والممرَّاتِ السُّفليَّة للَّيلِ العُلويِّ، حيث
لا تُسمَعُ إلَّا قطاراتٌ بعيدةٌ على نحوٍ مهول،
وقرقرةُ قنواتٍ، في البردِ القاطعِ،
في الظُّلمةِ التي لا غدَ لها.
هكذا، فيما كنت أنتصبُ كدودةٍ،
رخوةٍ، ومنفِّرةٍ في سذاجتها،
شيءٌ ما عَبَرَ روحي- كأنَّما
الشَّمس في نهارٍ رائقٍ قد ادلهمَّت؛
فوق ألم البهيمةِ اللهثى
نُصِّبَ ألمٌ آخر، أشدُّ يُبْسَاً وإعتاماً،
وعالمُ الأحلامِ تصدَّع.
"ما عاد أحدٌ يلتمسُ منكَ شِعراً!"
و: "زمنكَ كشاعرٍ أفلَ..."
"سنيُّ الخمسينات بلغتْ في العالَم خِتْمَتَها!"
"مع رمادِ غرامشي اصفرَّتْ وُريقاتك
وكلُّ ما كان حياةً بات يؤلمك
مثلَ جرحٍ ينفتحُ مجدَّداً ويلدُ الموت!"

اختارها وترجمها عن الإيطاليَّة: أمارجي

 

 الحواشي (كما وضعها المترجِم):

1- في هذه القصيدة يتكلَّم بازوليني عن مجموعة من الفتية أزمعوا الرَّحيل عن وطنهم بحثاً عن فرصِ عملٍ أفضل، وهم يحاولون عبثاً بالشُّرب والغناء، صحبةَ عشيقاتهم، أن يتحايلوا على أحزان الرَّحيل ويخفِّفوا من وطأتها؛ ولكنَّهم في النِّهاية موقنون بأنَّهم لن يعرفوا بعد اليوم السَّعادة أبداً. عنوان القصيدة يعودُ في أصله إلى أناشيد الجنود الألبينيِّين التي تستذكر الهزيمة في الحرب، وكأنَّ بازوليني أراد بذلك إقامة مقارنة بين أولئك الجنود اليافعين وبين هؤلاء الفتية المهاجرين: أولئك مرسَلون للقتال والموت، وهؤلاء مجبرون على الهجرة، والموت محمولٌ في قلوبهم.

2- أنتونيو غرامشي Antonio Gramsci (1891- 1937) كاتب وسياسي إيطالي، كان عضواً مؤسِّساً للحزب الشُّيوعي الإيطالي. القصيدة طويلة مؤلَّفة من 6 مقطع، اخترنا منها المقطع الأوَّل والثاني والرَّابع.

3- يقصد المقبرة الإنكليزيَّة.

4- يقصد بهما المدينة والحديقة (المقبرة).

5- أي تعزلُ هذا الموقع.

6- يقصد النَّهجَ البرجوازيَّ.

7- أي يمنح الحياةَ البروليتاريَّة.

8- يقصد الثقافة البرجوازية.

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • ثلاثُ قصائد للشَّاعرة الإيطاليَّة ماريَّا غراتسيا كالاندْرونِه

      ثلاثُ قصائد للشَّاعرة الإيطاليَّة ماريَّا غراتسيا كالاندْرونِه

      ماريَّا غراتسيا كالاندْرونِه شاعرة وكاتبة مسرحيَّة إيطاليَّة من مواليد ميلانو 1964، مقيمةٌ في روما، وتعمل مؤدِّيةً مسرحيَّةً، كما أنَّها مُعدِّة ومقدِّمة برامج ثقافيَّة في إذاعة RAI Radio 3،

    • حوارٌ مع الكاتب الأرجنتينيِّ أدريان ن. براﭬـي

      حوارٌ مع الكاتب الأرجنتينيِّ أدريان ن. براﭬـي

      "أنا مقتنعٌ بأنَّ اللغات تحدِّد شكل وجودنا وإقامتنا في هذا العالم. أفكارنا تتشكَّل وفقاً للُّغة التي نتبنَّاها. والحياة، بالتَّالي، تضعنا أمام خيارات: في حالتي، اخترت أن أغادر بلدي، الأرجنتين، وأنتقل إلى إيطاليا لمواصلة دراستي."

    • قصائد مختارة للشَّاعرة الإيطاليَّة سيبيلَّا ألِرامو Sibilla Aleramo (1876-1960)

      قصائد مختارة للشَّاعرة الإيطاليَّة سيبيلَّا ألِرامو Sibilla Aleramo  (1876-1960)

      سيبيلَّا ألِرامو هو الاسمُ المستعار لِرينا فاتْشو Rina Faccio، شاعرة وكاتبة إيطاليَّة وُلِدَتْ بمدينة ألِسَّاندريا في 14 آب/ أغسطس 1876، وتوفِّيَتْ بروما في 13 كانون الثَّاني/ يناير 1960. نادَتْ ألِرامو بالمساواة بين الجنسين، وانطبعَتْ أشعارُها بآلامِ ومعاناةِ المرأة، وكانت ناشطةً في المنظَّمات النَّسويَّة، وقد تطوَّعَتْ في مرحلةٍ من حياتها للعمل في ملجأٍ للفقراء في روما يديرُه الاتِّحادُ النِّسائيُّ. منذ صغرِها عانتْ ألِرامو آلاماً وخسائرَ جِساماً، فقد كانت والدتها مريضةً عقليَّاً، وحاولَتِ الانتحارَ، وفي الخامسة عشرة من عمرها تعرَّضَتْ ألِرامو للاغتصاب وأجبرتها عائلتُها في سنة 1893 على الزَّواج.

قصائد مُختارة للشَّاعر الإيطالي إيوْجِنيو مونتالِه

 

 

 

 

 

 

 

قصائد مُختارة للشَّاعر الإيطالي إيوْجِنيو مونتالِه Eugenio Montale  (1896-1981)

اختارها وترجمها وقدَّم لها: أمارجي


تقديم


لا غُلواءَ إنْ قلنا: القصيدةُ، هنا، تنكيلٌ بالزَّمن، نهشٌ بالمغاليق-، 

     (نصٌّ مخلبٌ) 

     (نصٌّ نصْلٌ) 

ههنا، الزَّمنُ ثالثٌ، موَّارٌ بِشكِّه ولا يستوثِقُ إلا الذي فيه؛ زمنٌ مختمِرٌ في صَدَفةِ الكمَدِ الوجوديِّ، يتفلَّعُ ويعلو في خمائره مثل شجرةٍ تمتاحُ ماءَ نفسِها، ثمَّ تحترقُ وتهوي بغتةً في رمادِ نفسِها؛ زمنٌ شغلُه الفتلُ والتَّحويلُ والتَّمزيق، تهييجُ "هلاساتٍ تَورِياتيَّة" تحت الجلالِ الهُدهُديِّ للنِّسيان، حين اللازمنيُّ تناصٌّ مع الزَّمنيِّ، تحريشٌ به. الهدهدُ نفسُه رمزٌ لصنيعِ مونتالِه الشِّعريِّ، إنَّه بهلوانُ الزَّمنيَّة المونتاليَّة الذي يجمِّدُ ويحرِّكُ في آنٍ معاً، مُقنبَرَاً بعَوْفِه الكونيِّ. ولا يُشْكِلَنْ علينا هذا اللَّيَاحُ الزَّمنيُّ المبهِر، هذا العماءُ الأصلُ المستعادُ عبرَ انتفالِ اللغةِ مِن سَقطةِ المواقيت، وانتفالِ المواقيتِ مِن سَقطةِ اللغة؛ لا يَنطَلِيَنْ علينا انتحالُ العدَمِ أسرَّةَ اليقين: الزَّمنُ المشاكِلُ للَّازمنِ والمشكِلُ به هو، ببساطةٍ، الزَّمنُ المنكِّلُ، هو المعتصِرُ بهاءاتِ الأمسِ في مِهرازِ الرَّاهن. لا لبسَ، إذَّاكَ، أنَّ الزَّمنين الآخرين المنكَّل بهما، المقطَّعَين بِحَزازِ ساعاتٍ مسترخيةٍ في عزلةٍ من الأبديَّةِ والأفولِ على حدٍّ سَواء، ليسا إلا الزَّمنَ الوضعيَّ اليقينيَّ، الموصَدَ بين قبلٍ وبعد، والزَّمنَ الشِّعريَّ الغيبيَّ، المفتوحَ بين أزلٍ وأبد؛ فالزَّمنُ القيُّومُ على النَّصِّ لا تستقيم قيُّوميَّتُه إلا بجرشِ ذينك الزَّمنين في بعضهما، عَجناً لهما مِن ثَمَّ في نَتْنِ العَصر. هكذا، يبدو الزَّمن عند مونتالِه تجسيداً لرعبِ اللحظةِ الحاضرة، اللحظةِ المتورِّمة بذاكرةٍ مُدَلَّاةٍ، كسيفِ ديموقليس، على رأس الواقع، فيما الواقعُ إيَّاه يتوسَّلُ الرَّمزَ مِرفعَاً له مِن طينِ نفسِه. 


*   *   *

     (نصٌّ مخلبٌ يهرِّئُ)

     (نصٌّ نصلٌ يَقْشُرُ) 

لكن، ما المغاليقُ المنهَّشة، وما المغاليق المتِمَّةُ - في النَّصِّ المونتاليِّ - ثمرةَ الرؤيا؟ ذلك مأزقٌ آخر يقتضي من القارئ قفزةَ اجتناء؛ لأنَّه كما في جدليَّة الزَّمن، كذلك في جدليَّةِ الاستغلاق الشِّعريِّ، يفتح الشَّاعرُ هُوَّاتٍ أكيدة بين الحضورات ووعيها، يبتئرُ الحضوراتِ بفأسِ الغيب، مُفلِتاً الصُّورَ تتوهَّسُ الغيابات. بهذا المعنى، يتشكَّلُ المؤدَّى النِّهائيُّ للنَّصِّ أوَّلاً مِن دَهْمِ إبهاماتٍ بعينِها،- الإبهاماتِ الهِيْمِ المنفصلة المرتَجَة، ببعدِها البرناسيِّ المصْمَتِ على نفسِه-، والتَّفجيرِ فيها؛ وثانياً مِن تدسيمِ إبهاماتٍ رؤيويَّةٍ، وإيثاقها بالواقع المرمَّز، ببعدِها الإلاحيِّ المفتوح على الممكِن الإنسانيِّ. إنَّه فضاءٌ شعريٌّ مغاليقه إيماءٌ إلى مفاتيحه، لا طمسٌ لها؛ فضاءُ ابتناءٍ على التَّخريب، ورقشٍ على التَّمْحية، ووصْلٍ على المصارَمة. وفي هذا الفضاء ليس همُّ الشَّاعر إعلاءَ المستغلَقِ وتوطيدَه، بل حملَه كما هو وتقريبَه ومناجاته. وإذا كان كلُّ شاعرٍ سارقَ نارٍ، أمكنَ القولُ إنَّ نارَ مونتالِه هي هذا الزَّيغ الازدواجيُّ: زَيغُ التَّعمية نحوَ برَّانيَّةٍ حسِّيَّة، وزَيغُ الحسِّيِّ نحوَ إبطانٍ اذِّكاري. 


*   *   *

تلك مُحاجَّةٌ تخاشِنُ النَّصَّ في أناه. تَبْهَتُ الأنا في السُّؤالِ عن أناها؛ تَخبُلُها بالمرايا. المرآة انتقامُ الآخَر من نَرجِسَةِ الشِّعر؛ تَشَفِّي المنقصةِ من المثال. كلُّ مرآةٍ أمام نصٍّ هي، قطعاً، فِعلُ خلخلةٍ وهتكٍ، افتضاحٌ للآخرِ في الأنا، وللأنا في الآخَر. التَّفتُّحُ أو التَّشظِّي نُهْيَة ذلك؛ فإمَّا المرآة وإمَّا النَّصُّ. هنا، ثمَّة تراجعٌ في الشِّمراخِ الأنَويِّ، أو تقلقلٌ له في تربةِ اللانهائيِّ: باكْتِناتٍ خجول. العثكالُ الهائلُ، عثكالُ الأنا الشِّعريَّة، أنا الفتوحاتِ والنِّهاياتِ، العزلاتِ والمجابهات، يوهمنا أنَّه متمَّمُ العُقر حيالَ مادَّةِ إخصابِ الكونيِّ الذي تزعمه الأنا بَعلاً أبديَّاً لها، ولكن ما يفعلُه بحقٍّ هو أنَّه يطرحُ، إفاضةً، بُسُرَ الكلِّيَّات عِبرَ أسديةِ المجزوءات، استيلاداً بعدئذٍ للجوهريِّ من الزَّائل، والثَّابتِ من الآنيِّ، وتثبيتاً للمولِّدات والمتولِّدات في بعضهما. لكأنَّ الأقنومَ المتعبِّدَ لذاتِه، أقنومَ الأنا، لا يكتملُ إلَّا بلُحمتِه بالآخَر وانصهارِه فيه وانتصارِه له. الأنا المُحيقةُ بالآخر وبالكون هي، في هذا الشِّعر، مَحِيقةٌ بهما، ولا تتنفَّسُ إلا برئاتِهما. رئاتٌ كلماتٌ تتدبَّرُ انصبابَها، دون زلَلٍ، في هذا الزَّيغ، واستدادَها في هذا الالتواء. 


*   *   *

(نصٌّ مخلبٌ) يهرِّئ المطلَق؛ 

(نصٌّ نصلٌ) يقشرُ الأبديَّةَ عن حجرِ اللحظة؛ 

يجتعفُ عروقَه مثلَ حجَّارٍ، 

ثمَّ، مثلَ مثَّالٍ ينحتُه. 



النُّصوص:


أيُّها الهُدهُد، يا طائر الغبطةِ المُتَّهَم


أيُّها الهُدهُد، يا طائر الغبطة الذي تقوَّلَ عليه 

الشُّعراء، يا مَن تدوِّرُ عُرفَكَ 

فوق العمود الهوائيِّ لقنِّ الدَّجاج، 

وكمثلِ ديكٍ اصطناعيٍّ تدورُ مع الرِّياح؛ 

رسولٌ ربيعيٌّ أنتَ، يا هُدهُد، كأنَّما 

الزَّمن يتجمَّدُ عبرَك، 

وشباطُ لا يموتُ [بحضورِك]، 

كأنَّ كلَّ شيءٍ في الخارجِ يتحرَّكُ 

وفقاً لحركةِ رأسِك، 

أيُّها المجنَّحُ الغريب، وأنتَ تتجاهلُه. 



الشُّرفة


مُعابثةً بسيطةً بدا لي 

تحوُّلُ الفضاءِ المفتوحِ [كلِّيَّاً] عليَّ 

إلى عدم، ونارِكِ الأكيدة 

إلى ضجرٍ غامضٍ مُزعزَع. 


بذلك الخواء وحَّدْتُ الآنَ 

كلَّ رغبةٍ مِن رغباتي البطيئة؛ 

فوقَ العدمِ الشَّاقِّ ينبثق 

قلقُ البقاءِ حيَّاً في انتظارِك. 


حياةٌ تهَبُ وميضاً 

هي وحدُها الحياة التي تُبصِرين. 

نحوَها تخرُجين  

مِن هذه النَّافذة التي لا تضيء.  



مجدُ ظهيرةٍ مسترخية


فلتتمجَّد هذه الظَّهيرة المسترخية 

حين الأشجارُ لا تصنعُ ظلَّاً، 

وهيئاتٌ صُفْرُ مُحمرَّة تتكشَّفُ حولي 

أكثر فأكثر، عبرَ ضياءٍ مُفرِطٍ. 


الشَّمسُ، عالياً-، ومجرىً نَشِفٌ. 

نهاري لم ينقضِ بعد: 

السَّاعة الأبهى تقبعُ خلف الجدار 

الموصَدِ على أفولٍ مُمتقِع. 


القيظُ في الأنحاء؛ طائرُ رفرافٍ 

يحومُ فوق رُفاتِ حياةٍ. 

فيما وراءَ الكَرْبِ ثمَّةَ المطر، 

لكنَّ فرحاً أكثر اكتمالاً يترصَّد. 


أرسِنْيو1


هي ذي زوبعاتٌ يرفعْنَ الغبارَ،  

في دُوَّاماتٍ، على الأسقُف، والمفازاتِ 

المقفِرة، حيث الجيادُ المقلْنَسَة 

تتشمَّمُ الأرضَ، واقفةً حيالَ البلَّورِ، 

بلَّورِ الخاناتِ الثُّلاجيِّ البرَّاق؛ 

فيما تتحدَّرُ أنتَ على الدَّربِ، مواجهاً البحرَ، 

في هذا النَّهارِ المنذِرِ

بالمطرِ حيناً والمتَّقدِ2 حيناً، كترديدِ نواقيرٍ 

يريدُ تشويشَ العقدةِ الملتحمةِ 

لساعاتٍ 

كلُّ واحدةٍ منها طِباقُ الأخرى. 


ها إلماعةٌ مِن لَدُنْ مدارٍ آخر: اتبعها. 

اهبطْ نحوَ الأفق المعتلَى 

مِن قِبلِ شاهقةِ ماءٍ3 رصاصيَّةٍ عاليةٍ على اللُّجَج 

وأعتى منها تدويماً: هالةٌ أجاجٌ ملَولَبةٌ، 

ينفخها العنصرُ الثَّائرُ4 

نحوَ السَّحاب؛ دع عبورَكَ 

يخشخش الحصباءَ مِن تحته وتعثَّرْ 

بتشبُّكِ الطَّحالب: علَّ تلك البرهة، 

المشتهاةِ مِن زمنٍ بعيدٍ، تُنجِّيكَ 

مِن اختتامِ طَوافِك، مِن حلقاتِ هذي 

السِّلسلة، مِن ترحُّلٍ بلا حراكٍ، 

آهِ أرْسِنيو، يا هذيان الثُّبوت 

الجليَّ تمامَ الجلاء... 


أصغِ بين النَّخل إلى رشقاتِ الكمنجاتِ 

الرَّاعشة، يخمدُها تدحرُجُ الرَّعدِ 

مختلجاً كمثل صفيحٍ معدنيٍّ طُرِقَ 

للتَّوِّ؛ عذبةٌ هي الأنواءُ عندما ينبلجُ 

نجمُ الشَّعرى اليمانيَّة ببياضِه 

في أفقٍ أزرق، فيبدو بعيدَ المنال إذَّاكَ

المساءُ الموشِكُ: مساءٌ إذا ما شقَّقَه البرقُ 

تفرَّعَ مثلَ شجرةٍ جليلة 

في قلب ضياءٍ ينقلبُ الآنَ ورديَّاً: الدَّفُّ 

الغجريُّ قرْعٌ أبكمُ.


انزل سُدَفَ الظَّلام الذي يهوي 

ويُحيلُ الظَّهيرةَ ليلاً طافحاً 

بأجرامٍ وقَّادةٍ تتهزهزُ على الشَّاطئ،- 

وفي البعيد، حيث ظلٌّ مفرَدٌ 

يشغَلُ البحرَ والسَّماء معاً، تنبضُ مِن مراكب مبعثرة 

سُرُجُ الأسِتيلين5- إلى أن تتقطَّرَ السَّماءُ 

مرتعدةً، وينفثَ التُّرابُ الذي يرتوي أبخرتَه، 

بَينا كلُّ ما حولِك يُختَضُّ فيك، والمظلَّاتُ الرَّخوةُ 

تخبطُ خبطَ عشواء، وحفيفٌ هائلٌ 

يسوِّي الأرضَ، والمشكاواتُ الورقُ في الأسفل 

تترهَّلُ، مزمهرةً، على الطُّرقات. 


هكذا، تائهاً وسطَ الأماليدِ 

والحُصُرِ المتهاوية، أيُّها الأسَلُ المجرجِرُ معه 

جذورَه الدَّبقة، المحالُ انتزاعُها، 

ترجفُ إزاءَ الحياة وتندفعُ صوبَ 

فراغٍ يتصادى بنُوَاحاتٍ 

مخنوقة، يبتلعُك ثانيةً امتدادُ 

موجة الماضي الذي يطويك؛ ومرَّةً أخرى 

كلُّ ما يتملَّكُك، الطَّريقُ، سُدَّةُ الباب، 

الأسوارُ، المرايا، يغرزُكَ من جديدٍ 

في الزُّمرةِ المجمَّدة، زُمرةِ الموتى،

فإذا ما مسَّتكَ حركةٌ ما، أو وقعت بقربكَ 

كلمةٌ، فتلك، يا أرسِنيو، 

في السَّاعةِ التي تنحلُّ، إيماءةُ حياةٍ مخنوقةٍ 

تنهضُ فيكَ، وعمَّا قليلٍ 

تبدِّدُها الرِّيحُ مع رمادِ الكواكب.


التَّاريخ 


التَّاريخُ لا يُفَكُّ 

كما تُفَكُّ سلسلةٌ

موثَقةُ الحلقات. 

في كلِّ حالٍ 

ثمَّة حلقاتٌ لا تُستَوثَق. 

التَّاريخُ لا يتضمَّنُ 

الماقبل والمابعد، 

ولا شيء فيه يتشكَّى 

على نارٍ خافتة. 

التَّاريخ لا يصنعُه 

مَن يفكِّر فيه ولا مَن 

يتجاهلُه. التَّاريخ 

لا يفتح طريقاً، بل يعانِد، 

وينفُرُ قليلاً قليلاً، لا يتقدَّمُ 

ولا يرتدُّ، يصيرُ سكَّةً 

وجهتُها ليست 

في جدولِ المواقيت. 

التَّاريخ لا يبرِّرُ 

ولا يُعزِّرُ، 

التَّاريخ ليس ذاتيَّاً 

لأنَّه [أصلاً] خارج الأشياء. 

التَّاريخ لا يمنحُ ملاطفاتٍ ولا ضرباتِ مِقرَعة. 

وليس التَّاريخ الملقِّنَ 

لأيِّ شيءٍ يتَّصلُ بنا. فَهمُ التَّاريخ لا ينفعُ 

في جعله أكثر صدقاً وأكثر عدلاً. 

التَّاريخ، مِن ثَمَّ، ليس 

المحراثَ المخرِّبَ كما يزعمون. 

إنَّه يترك وراءَه أنفاقاً ومغاورَ وحُفَرَاً 

وكمائن؛ فيها منجىً لحياةٍ ما. 

التَّاريخ رقيق الحاشيةِ كذلك: لا يدمِّرُ  

إلا بقدرِ ما يستطيع: لو أنَّه غالى، 

لكانَ أفضل، ولكنَّ التَّاريخ تُعوِزُه الأنباء، 

وهو لا يُكملُ انتقاماتِه أبداً. 

التَّاريخ يحُكُّ القاع 

كشبكةِ صيدٍ مهترئة، 

تتملَّصُ منها سمكةٌ أو أكثر. 

أحياناً يلامسُ الغشاءَ البلازميِّ 

لإحدى النَّاجيات فلا تبدو مغتبطةً بذلك. 

تجهلُ أنَّها صارت خارجاً، الكلُّ يجهل. 

الأخريات، داخلَ الجِراب، يحسبن 

أنَّهنَّ أكثر حرِّيَّةً منها. 



الليمون 


أصغِ إليَّ، الشُّعراءُ المتوَّجون بالغار 

يتنقَّلون فقط بين النَّباتات ذاتِ الأسماء 

النَّادرةِ التَّداول: بَقسٌ لِيغُستُرُومٌ أو أقَنْتة. 

أمَّا أنا فأحبُّ الشَّوارع التي تشبه وِهاداً 

مُعشَوشِبة حيث يقبضُ الصِّبية، 

في مستنقعاتٍ نصف مجفَّفة، على 

سمكةِ أنقليسٍ هزيلة: 

الزُّنَيقاتُ التي تقفو حوافَّ المنحدَر، 

تتحدَّرُ وسطَ لِمامِ القصب 

وتحطُّ في الحقول، بين أشجار الليمون. 


ليتَ ضوضاءَاتِ الطُّيور 

تنطفئ مبلوعةً بالزُّرقة: 

لَكانَ همسُ الغصونِ الرَّفيقة 

أشدَّ اتِّضاحاً في هواءٍ بالكادِ يتحرَّك، 

وكذا قوَّةُ هذا العبق 

الذي لا يحسنُ الانسلاخَ عن الأرض، 

ولَأمطرتْ في الصُّدور عذوبةً قلِقة. 

هنا حيثُ تنشرحُ الشَّهوات 

تخرَسُ الحربُ، كما لو بفعلِ مُعجزة، 

هنا، نحن الفقراء أيضاً لنا نصيبنا من الثَّراء، 

لنا عبقُ الليمون. 


انظرْ، في هذه السُّكونات- التي فيها 

تذعِنُ الأشياء وتبدو قريبةً 

مِن نقضِ سرِّها الأخير، 

نرتقبُ آنذاك 

أن نكشفَ خطأ الطَّبيعة، 

مُنتهى الكون، الحلقةَ التي لا تمتسِك، 

خيطَ الخلاصِ الذي يضعنا أخيراً 

في صُلبِ الحقيقةِ، 

ها العينُ تنقِّبُ في الأنحاء، 

ها العقلُ يتحرَّى يوائمُ ويفرِّقُ 

في العطرِ الذي يتفشَّى 

كلَّما خفتَ النَّهارُ أكثر. 

إنَّها السُّكوناتُ التي عندَها 

تُرى في كلِّ ظلٍّ بشريٍّ يُنائي 

ألوهةٌ متكدِّرة. 


ولكنَّ الوهمَ مُخِلٌّ [بمواثيقه]، والزَّمنُ يحملُنا 

نحوَ مدنٍ صاخِبةٍ حيث الزُّرقةُ لا تَبِينُ 

إلا مُشظَّاةً، عالياً، بين التِّيجان الحجريَّة. 

المطرُ يرهقُ الأرضَ، فوقَ ذلك؛ 

والضَّجرُ الشِّتائيُّ يتكاثفُ فوق البيوت، 

الضَّوء يشِحُّ- والنَّفْسُ تكْمَدُ. 

كذا الأمرُ، عندما ذاتَ نهارٍ، عبرَ بابٍ مواربٍ 

بين أشجار أحدِ الأفنية 

تتجلَّى لنا صُفراتُ الليمون؛ 

فينحلُّ جليدُ القلب، 

وفي الصَّدرِ تُمطِرُنا 

بأغانيها- دَفقاً

أبواقُ العزلةِ الذَّهبيَّة. 


قصيدة حُبٍّ 


متأبِّطاً ذراعكِ، هبطتُ على الأقلِّ ملايين الأدراج، 

ولكنَّ غيابكِ الآنَ يُعلِن الخواءَ دَرْجةً دَرجة. 

كذلك، أيضاً، قصيرةً كانت رحلتُنا الطَّويلة. 

رحلتي أنا لم تنتهِ بعد، ولم يعدْ لزاماً عليَّ 

ضبطُ المواقيت، ولا الحجزُ المُسَبَّق، 

لا التَّحايلُ، ولا احتمال مذلَّةٍ ممَّن يحسبُ 

أنَّ لا حقيقة إلا ما يُرى. 


هبطتُ ملايين الأدراج متأبِّطاً ذراعكِ، 

ليس لأنَّ المرء بأربع عيونٍ قادرٌ على الرُّؤية أكثر. 

معكِ هبطتُها لأنَّني كنتُ أعلمُ أنَّ

بؤبؤيكِ أنتِ هما وحدهما الحقيقيَّان لي ولكِ، 

مهما يكن إعتامُهما. 


حياتي 


ها حياتي، لست أطالبُكِ بخطوطٍ  

محدَّدة، ولا بوجوهٍ مُقنِعة، ولا بأملاك. 

في دورانكِ المضطرب سيَّان الآنَ 

مذاقُ العسلِ والإسفنط6


القلبُ الذي كلُّ حركةٍ منه تعويلٌ 

على ما قلَّ أو حقُرَ مزعزَعٌ الآنَ بالرَّجفات. 

على المنوالِ نفسِه تصدحُ بين حينٍ وآخَر  

في صمتِ الحقول طلقةُ بندقيَّة. 



الزَّوبعة 


الزَّوبعة التي تتصبَّب على أوراق الماغنوليا 

القاسية، الرُّعود الآذاريَّةُ المديدة، 

وحبَّاتُ البَرَدِ الدَّافقة، 

(الأصوات الكريستاليَّة التي تباغتُ

عشَّكِ الليليَّ، أصواتٌ ذهبيَّة 

تخمدُ على خشب الماهوغوني، على الكتبِ 

المعاد تجليدُها، فيما يضطرمُ 

مكعَّبُ سكَّرٍ في قوقعةِ جفنيكِ) 

البرقُ الذي يبيِّضُ 

الشَّجَرَ والأسوارَ ويصعقها في أبديَّةِ 

هذه اللحظة  – مرمرٌ تِبنٌ 

وخرائب- الرَّقشُ الذي تحملينه داخلَكِ

بالإكراه، أنتِ التي تتوحَّدين بي 

أقوى من الحبِّ نفسِه، أيَّتها الأختُ الغريبة-، 

وبعدُ، كمَدٌ طاغٍ، سِيسْتْرُوماتٌ7، ارتعادُ 

الدُّفوفِ عندَ المرْمَسِ السَّارقِ، 

وطءُ رقصة الفوندانغو، وفي الأعلى 

حركةٌ ما تومئ... 

على مثالِكِ أنتِ عندما 

التفتِّ إليَّ، وبيدٍ- جبينُكِ آنذاك 

مجلوٌّ مِن غمامةِ الشَّعر- 

لوَّحتِ لي، لِتَلِجي في العتمة. 



عندَ البحر (أو تقريباً)8


الجُدْجُدُ الأخيرُ يصطرِخُ 

على الشَّكير الأصفرِ للأوكاليبتوس 

الأطفالُ يجمعون بذور الصَّنوبر 

التي لا بدَّ منها لطبق الجالانتين9 

كلبٌ حارسٌ ينبحُ مِن وراءِ مُشَرِّبيَّةِ دارةٍ 

خاويةٍ على عروشِها 

الدَّاراتُ شيَّدَها الآباءُ مِن قبلُ 

وأبناءُ اليومِ نبذوها 

ثمَّة ههنا متَّسَعٌ لمائة ألفِ منكوبٍ بالزَّلازل 

حتَّى أنَّ الشَّاطئ لا يُرى مِن هنا 

إذا جازَ أن تُسَمَّى كذلك تلك الثَّمانون بالمِائة 

المُعطاة لخفرِ السَّواحل 

حيث مِن فَرْطِ الأمورِ التَّطلُّعُ 

إلى سلامٍ ذهبيٍّ هناك 

البحرُ من جهةٍ أخرى قد كَمُلَ اجتياحُه 

فيما النُّفاياتُ تشكِّلُ معاً 

رُبْواتٍ مُتماوجةٍ من اللدائن 

الحظائرُ مُخلاةٌ عن آخِرِها 

سوى مِن سُلالاتِ الصَّدأ العذبة 

وطيورِ الصَّعْوِ أو الرُّيَيْتِيَّة10 

كما يطيبُ للشُّعراء تسميتُها. ثمَّة أيضاً بِضعةُ

براعمِ ماغنوليا وبطاقةُ طبيبِ أطفال 

لكنَّ الأطفال هنا يحلِّقون بدرَّاجاتهم الهوائيَّة 

ولا حاجة بهم إلى رعايتِه 

مَن يودُّ أن يتنشَّقَ بموجة نَتْنٍ مفاجئة 

شِعرَ هذا العصرِ المزعزَع 

يمكنه المرور من هنا بلا عجَلٍ 

إنَّما الطَّعنةُ الضَّعيفة هي ما يصنعُ الخوفَ 

لا الزَّوالُ أو نفثاتُ العدمِ العذبة 

فامكثوا هنا إن أحببتم ذلك حُبَّاً وإلَّم يكنْ جمَّاً 

ذلك أنَّ الخِيارَ الأفضل شبيهٌ جدَّاً 

بالموت (وهذا لا يحبُّه إلا الحِدْثان11). 


وجعُ الحياة


لطالما رأيتُ وجعَ الحياةِ قُبُلاً: 

[رأيتُه] في الجدولِ المخنوقِ الذي يقرقر، 

في تجعُّدِ الورقةِ إذ يبَّسَها 

العطش، في الحصانِ المطروحِ أرضاً. 


لم أعرف منجىً آخَرَ خارجَ المعجزةِ 

التي تُفَتِّحُ الحيادَ الإلهيَّ12

إنَّه13 النُّصبُ المرفوعُ في وسنِ 

الظَّهيرة، إنَّه الغيمةُ، والبازُ المحلِّقُ عالياً. 


الحواشي (كما وضعها المترجِم):

1. اسم علم مذكَّر إيطالي، والشَّخصيَّة تمثِّل الشَّاعر نفسَه في النَّص.

2. يقصد من فعلِ البرق.

3. الشَّاهقة المائية عبارة عن ظاهرة جوِّيَّة على شكل دوَّامة شديدة من الهواء وقطرات الماء، تتشكَّل تحت غيمةٍ ركاميَّةٍ فوق البحار، حيث يُسحَب الماء عالياً.

4. يقصد البحر.

5. غازٌ عديم اللون يستعمَل في الإنارة وغير ذلك.

6. الإسفنط نباتٌ ورقه كورق الزَّعتر، كانت تطيَّب به الخمور ثمَّ أطلِق على الخمر نفسِه.

7. السِّيستروم آلة موسيقيَّة معدنيَّة يعود أصلها إلى مصر القديمة.

8. القصيدة في الأصل مجرَّدة من علامات التَّرقيم.

9. طبق بارد من اللحم والهلام.

10. نسبةً إلى مدينة رْييتي الإيطاليَّة.

11. جمع حدَث، أي شابٌّ.

12. يقصد بالحياد الإلهي هنا الطمأنينة الكاملة التي يتحرَّر عندها الإنسان من مشاعر الفرح والحزن على حدٍّ سواء، ما يجعله شبيهاً بالآلهة. 

13. الإشارة هنا إلى المنجى.