قصة قصيرة
للكاتب الأميركي ريموند كارفر
ماء كثير قريب جداً من المنزل
يأكل زوجي بشهية مفتوحة. لكنني لا أظنّ أنه جائع. يمضغ، واضعاً ذراعيه على الطاولة، ويحدّق في شيء عبر الغرفة. ينظر إليّ ويشيح بصره بعيداً. يمسح فمه بالمنديل. يهزّ كتفيه، ويواصل الأكل.
"لماذا تحدّقين بي؟ ما الأمر؟"، قال ووضع شوكته.
قلت وأنا أهزّ رأسي:"هل كنتُ أحدّق؟"
رنّ الهاتف.
قال:"لا تردّي".
قلت:"قد تكون أمّك".
قال:"تبيّني فحسب".
التقطتُ السماعة وأصغيتُ. توقف زوجي عن الأكل.
"ما الذي قلتهُ لك؟" قال حين أغلقتُ السماعة. بدأ بالأكل ثانية. ثم رمى منديله على الصحن. قال:"اللعنة، لماذا لا يهتم الناس بأمورهم؟ قولي لي ما الخطأ الذي ارتكبته وسأصغي! لم أكن الرجل الوحيد هناك. ناقشنا الأمر وقرّرنا جميعاً. لم نستطع فحسب أن نتراجع. كنا نبعد خمسة أميال عن السيارة. لا أريدك أن تطلقي حكماً. أتسمعين".
"أنت تعرف"، قلت.
قال:"ما الذي أعرفه يا كلير؟ قولي لي ما الذي من المفترض أن أعرفه. لا أعرف إلا شيئاً واحداً". حدجني بنظرة ظنّ أنها ذات مغزى. قال: "كانت ميتة. وأنا آسف كأي شخص آخر. ولكنها كانت ميتة".
قلت:"هذه هي النقطة".
رفع يديه. دفع كرسيه بعيداً عن الطاولة. أخرج سجائره وخرج إلى الفناء مع علبة بيرة. رأيته يجلس في كرسي المرج ويلتقط الصحيفة ثانية.
اسمه هناك على الصفحة الأولى مع أسماء أصدقائه.
أغمضتُ عينيّ وأمسكتُ بالمغسلة. ثم مررتُ يدي على لوح المغسلة ورميتُ الصحون على الأرض.
لم يتزحزح. عرفتُ أنه سمع. رفع رأسه كأنه ما يزال يصغي. ولكنه لم يتحرك بطريقة أخرى. لم يلتفت.
يلعب هو وغوردون جونسون وميل دورن وفيرن وليامز البوكر والبولنغ ويصطادون. يصطادون كلّ ربيع وفي أوائل الصيف قبل أن يعترض طريقهم الأقرباء بزياراتهم. إنهم رجال محتشمون، رجال عائلة، رجال يحرصون على وظائفهم. لهم أبناء وبنات يذهبون إلى المدرسة مع ابننا، دين.
في الأسبوع الماضي غادر رجال العائلة هؤلاء إلى نهر ناتشيز. صفّوا السيارة في الجبال ومشوا إلى حيث أرادوا أن يصطادوا. حملوا حقائب نومهم وطعامهم وورق اللعب والويسكي.
شاهدوا الفتاة قبل أن ينصبوا الخيمة. عثر عليها ميل دورن. كانت عارية. كانت عالقة في بعض الأغصان التي نتأت فوق الماء.
نادى الآخرين وجاؤوا كي ينظروا. تحدثوا عما يمكن أن يفعلوه. قال أحد الرجال (لم يقل رجلي ستيورات أيّهم) إنهم يجب أن يعودوا في الحال. أثار الآخرون الرمل بأحذيتهم، وقالوا إنهم ليسوا ميالين إلى هذا. احتجّوا بالتعب، وبأن الساعة متأخرة، وحقيقة أن الفتاة ستظل في مكانها.
في النهاية انطلقوا ونصبوا الخيمة. أوقدوا ناراً واحتسوا الويسكي. حين طلع القمر، تحدثوا عن الفتاة. قال أحدهم إنهم يجب أن يحموا الجسد من الانجراف بعيداً. أخذوا مصابيحهم اليدوية وعادوا إلى النهر. أحد الرجال (ربما كان ستيورات) دخل في الماء وأخرجها. أمسكها من أصابعها وسحبها إلى الشاطئ. أحضر حبلاً بلاستيكياً ربط بها رسغها ثم لفّ ما تبقى منه حول شجرة.
في صباح اليوم التالي طبخوا الفطور، شربوا القهوة، واحتسوا الويسكي، ثم تفرّقوا كي يصطادوا السمك. في ذلك المساء طبخوا السمك والبطاطا وشربوا القهوة والويسكي ثم أخذوا عدة طبخهم وأكلهم إلى النهر وغسلوها حيث كانت الفتاة.
لعبوا الورق فيما بعد. ربما لعبوا إلى أن لم يعد بوسعهم رؤية الأوراق. ذهب فيرن وليامز إلى النوم. ولكن الآخرين رووا حكايات. قال جوردون جونسون إن سمك الترويت الذي اصطادوه كان قاسياً بسبب البرودة الرهيبة للمياه.
في صباح اليوم التالي نهضوا من النوم متأخرين، شربوا الويسكي، اصطادوا قليلاً، فكّوا خيامهم، طووا حقائب نومهم، ومشوا. ساقوا إلى أن وصلوا إلى هاتف. كان ستيورات هو الذي اتصل بينما وقف الآخرون حوله تحت الشمس وأصغوا. قدم أسماءهم للشريف. لم يكن لديهم ما يخفونه. لم يشعروا بالعار. قالوا إنهم سينتظرون إلى أن يأتي أحدهم من أجل توجيهات أفضل ويأخذ أقوالهم.
كنتُ نائمة حين رجع إلى المنزل. ولكنني استيقظتُ حين سمعتهُ في المطبخ. رأيته يتكئ على البراد ومعه علبة بيرة. وضع ذراعيه الثقيلين حولي وحك يديه الكبيرتين على ظهري. في السرير وضع يديه عليّ ثانية ثم انتظر كأنه يفكّر بشيء آخر. استدرت وفتحت ساقيّ. فيما بعد، اعتقدتُ أنه بقي مستيقظاً.
استيقظ ذلك الصباح قبل أن أخرج من السرير كي يرى إن كان هناك شيء ما في الصحيفة كما افترضت.
بدأ الهاتف يرنّ مباشرة بعد الثامنة.
سمعته يصرخ:"اذهب إلى الجحيم".
رنّ الهاتف ثانية.
"ليس لديّ ما أضيفه على قلتهُ سابقاً للشريف!"
أغلق السماعة.
قلت:"ما الذي يجري؟"
عندئذ روى لي ما رويته لكم لتوي.
كنستُ الصحون المكسورة وخرجتُ. كان يتكئ على ظهره على العشب الآن، الصحيفة وعلبة البيرة قريبتان من يده.
قلت:"هل يمكن أن نقوم بنزهة في السيارة يا ستيوارت؟"
استدار ونظر إليّ. "سنحضر بعض البيرة"، قال. نهض على قدميه ولمسني على ردفي وهو يعبر. "أعطني دقيقة"، قال.
سقنا عبر البلدة دون أن نتحدث. توقّف قرب محل على جانب الطريق كي يشتري البيرة. لفتت نظري حزمة كبيرة من الصحف داخل الباب. على الدرجة العليا امرأة سمينة في فستان ملوّن تقدم قضيب عرق سوس لفتاة صغيرة. فيما بعد، عبرنا نهر إفرسون وانعطفنا إلى أراضي التنزّه. يجري النهر تحت جسر ثم إلى بحيرة كبيرة على بعد بضع مئات الياردات. استطعتُ أن أرى الرجال هناك. استطعتُ رؤيتهم هناك وهم يصطادون.
ثمة ماء كثير قريب جداً من البيت.
قلت:"لماذا كان عليكم الابتعاد أميالاً؟"
قال:"لا تغيظيني".
جلسنا على مقعد تحت الشمس. فتح لنا علبتي بيرة. قال:"استرخي، يا كلير".
"قالوا إنهم أبرياء. قالوا إنهم مجانين".
قال:"من؟ ما الذي تتحدثين عنه؟"
"الأخوان مادوكس. قتلا فتاة تُدعى أرلين هوبلي حيث نشأتُ. قطعا رأسها ورمياها في نهر كلي إيلوم. حدث هذا حين كنتُ فتاة".
قال:"أنت تثيرين استيائي”.
نظرتُ إلى الجدول. أنا فيه تماماً، عيناي مفتوحتان، وجهي إلى الأسفل، أنظر إلى الطحالب في الأسفل، أنا ميتة.
قال في طريق العودة إلى البيت:"لا أعرف ما الذي اعتراك. إنك تجعلينني أكثر غيظاً الآن".
لم يكن هناك شيء أستطيع قوله له.
حاول التركيز على الطريق. ولكنه واصل النظر في مرآة الخلفية.
اعتقد ستيورات أنه تركني أنام هذا الصباح. ولكنني كنتُ مستيقظة قبل أن ينطلق المنبّه. كنتُ أفكّر، مستلقية في الطرف البعيد من التخت بعيداً عن ساقيه المشعرتين.
أخذ دين إلى المدرسة، ثم حلق، ارتدى ثيابه، وغادر إلى العمل. نظر مرتين وتنحنح. ولكنني أبقيتُ عينيّ مغمضتين.
في المطبخ وجدتُ رسالة منه. موقعة:"أحبك".
جلستُ في زاوية تناول الفطور وشربتُ القهوة، وتركتُ خاتماً على الرسالة. نظرتُ إلى الصحيفة وقلبتها بهذه الطريقة أو تلك على الطاولة. ثم اقتربت وقرأت ما تقوله. تم التعرّف على الجثة، واستعيدت. ولكنها فُحصت ووُضعت أشياء فيها وشُقّتْ ووُزِنَتْ وقيست ثم أعيدت أشياء إليها ثم خيطت من جديد.
جلستُ لمدة طويلة أمسك بالصحيفة وأفكّر. ثم اتصلت كي أحجز موعداً لدى مزيّنة الشعر.
جلستُ تحت مجفّف الشعر واضعة مجلة في حضني وتركتُ مارني تشتغل على أظافري.
قلت:"أنا ذاهبة إلى جنازة غداً".
قالت مارني:"يؤسفني سماع ذلك".
قلت:"كانت جريمة قتل".
قالت مارني:"هذا أسوأ شيء".
قلت:"لم نكن قريبين جداً. ولكن تعرفين".
قالت مارني:"سنجهّزك من أجل ذلك".
في تلك الليلة نمت على الأريكة، وفي الصباح كنت أول من استيقظ. وضعت إناء القهوة على النار وأعددت الفطور بينما كان يحلق ذقنه.
ظهر في مدخل المطبخ، المنشفة على كتفه العاري، ويفكّر.
قلت:" القهوة جاهزة. سيُجهّز البيض بعد دقيقة".
أوقظتُ دين، وأكلنا ثلاثتنا. كلما نظر إليّ ستيورات، سألت دين إن كان يريد المزيد من الحليب، أو الخبز المحمّص أو غير ذلك.
قال ستيورات وهو يفتح الباب:"سأتصل بك اليوم".
قالت:"حسناً. بالتأكيد".
ارتديتُ ثيابي بعناية. جرّبتُ قبعة ونظرتُ إلى نفسي في المرآة. كتبتُ رسالة لدين:
“حبيبي، أمك ستقوم ببعض الأعمال في هذا الأصيل، ولكننا سنعود فيما بعد. ابْقَ في الداخل أو في الفناء الخلفي إلى أن يعود أحدنا”.
أحبك، ماما.
أنظر إلى كلمة "أحبك" ثم أضع تحتها خط. ثم أرى كلمة الفناء الخلفيّ. إنها كلمة واحدة أو اثنتان.
سقتُ عبر الريف، عابرة حقول الشوفان والشوندر السكّري وبساتين التفاح والقطعان التي ترعى في المراعي. ثم تغيّر كلّ شيء، وبانت أكواخ بدل منازل المزارع ومنصات الأخشاب بدل البساتين. ثم الجبال، وإلى اليمين، بعيداً في الأسفل، كنت أرى أحياناً نهر ناتشيز.
سارت خلفي سيارة بيك آب خضراء وبقيت ورائي لأميال. واصلتُ التباطؤ في الأوقات الخطأ، آملة أن يمرّ. ثم أسرعت. ولكن حدث هذا في الأوقات الخطأ أيضاً. أمسكتُ العجلة إلى أن تألّمت أصابعي.
في فسحة عريضة عبرني. ولكنه ساق قربي قليلاً. كان رجلاً بشعر قصير جداً يرتدي قميص عمل سماوياً. تأمّلنا بعضنا. ثم لوّح بيده، استخدم البوق، وتوقف أمامي.
أبطأتُ وعثرتُ على مكان. توقفتُ وأطفأتُ المحرك. استطعتُ سماع النهر تحت الأشجار. ثم سمعتُ البيك آب ترجع.
أقفلتُ الأبواب ورفعتُ الزجاج.
قال الرجل:"هل أنت بخير؟" ربت على الزجاج. "هل أنت بخير؟" اتكأ بذراعيه على الباب وقرب وجهه من النافذة.
حدقتُ به. لم أعرف ماذا أفعل.
"هل كل شيء على ما يرام؟ لماذا تقفلين السيارة عليك؟"
هززتُ رأسي.
"أنزلي زجاج نافذتك". هزّ رأسه ونظر إلى الطريق السريع ثم عاد إليّ. "أنزليه".
قلت:"من فضلك. يجب أن أذهب".
قال وكأنه لا يصغي:"افتحي الباب. ستختنقين في الداخل".
نظر إلى ثدييّ، وساقيّ. لم أستطع أن أحذر ما الذي يفعله.
قال:"إيه حبيبتي. أنا هنا كي أساعد فحسب".
التابوت مغلق ومغطى بأكاليل الأزهار. بدأ الأرغن في اللحظة التي جلستُ فيها. كان الناس يدخلون ويجلسون على الكراسي. صبيّ في بنطلون واسع عند القدمين وقميص أصفر قصير الكمّين. يُفتح باب وتدخل الأسرة في مجموعة وتتحرك نحو مكان مسدل الستائر بعيد في أحد الجوانب. تصرّ الكراسي فيما يجلس الجميع. رجل أشقر جميل يرتدي بذلة سوداء أنيقة يقف ويطلب منا أن نحني رؤوسنا. ردد لنا صلاة، نحن الأحياء، وحين انتهى، ردد صلاة لروح الراحلة.
مررتُ قرب التابوت مع الآخرين. ثم خطوتُ إلى الخارج نحو الدرجات الأمامية ومن ثمّ إلى ضوء بعد الظهر. كان هناك امرأة تعرج وهي تنزل الدرج أمامي. وعلى الرصيف نظرت حولها. قالت:"حسناً، لقد قبضوا عليه. إن كان هذا يشكّل أيّ عزاء. اعتقلوه هذا الصباح. سمعت هذا من الإذاعة قبل مجيئي. شاب من هنا، من البلدة".
تحركنا بضع خطوات نحو أسفل الرصيف الحار. أدار الناس محركات سياراتهم. مددت يدي وثبتها على عداد موقف السيارات. أغطية محركات ورفاريف مصقولة. سبح رأسي.
قلت:"إن لهؤلاء القتلة أصدقاء. لا تستطيعين أن تحذري".
قالت المرأة: "أعرف تلك الطفلة منذ أن كانت فتاة صغيرة. كانت تزورني وكنت أعدّ لها الكعك وأجعلها تأكله أمام التلفاز".
في المنزل، جلس ستيورات إلى الطاولة وأمامه كأس ويسكي. للحظة مجنونة فكّرتُ أن شيئاً ما حدث لدين.
قلت:"أين هو؟ أين دين؟"
قال زوجي:"في الخارج".
أنهى كأسه ونهض يقول:"أعتقد أنني أعرف ما تريدينه".
مدّ ذراعه وطوق خصري وبيده الأخرى بدأ بفك أزرار سترتي ثم انتقل إلى أزرار بلوزتي.
قال:"الأشياء الأولى أولاً".
لم يقل أيّ شيء آخر. ولكنني لم أرد أن أصغي. لا أستطيع أن أسمع أيّ شيء مع دفق الكثير من المياه.
قلت، منهية فكّ أزراري: "هذا صحيح. قبل أن يأتي دين. أسرعْ".
[ترجمة أسامة إسبر]