ما بين هبّتي نيسان وتشرين: تحولات المجتمع والدولة في الاردن
لم تكن هبة تشرين وليدة عوامل طارئة او ظروف آنية، حتى لو كان الفعل المباشر المحرك لها هو رفع الدعم عن المحروقات، بل هي نتاج طبيعي للاختلال والتشوه البنيوي التاريخي لتكوين الاقتصاد الاردني الذي اصبح قائم على الاعتماد المفرط على المساعدات والقروض.
مهمشو هبة تشرين صنعتهم الدولة بتجاهلها للأزمة الاقتصادية البنيوية كفئات فقيرة تعيش على هامش المجتمع بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فئات لا تسمع صوتها النخبة السياسية، فئات تعتبرها احزاب المعارضة "ظواهر" يجب دراستها من اجل استقطابها، فئات لا تغطي اخبارها جريدة الرأي او التلفزيون الأردني، فئات تنظر اليها قناة رؤيا "قناة الطبقة الوسطى" كآخر مجهول وعالم بحاجة لمغامرة مثيرة لاكتشافه، فئات مازالت منظمات المجتمع المدني تبحث عنها دون جدوى، فئات لم تسمع بعد بمصطلحات مثل "التمكين" و" التنمية المستدامة"، فئات لفظها القطاع العام او مازالت تعيش على هامشه، فئات الاعمال اليدوية والحرفية في اقتصاد الخدمات.
في ذكرى هبة تشرين، هل تؤشر الهبة لتحول مفصلي في قدرة الدولة الاردنية على الهيمنة الاجتماعية من خلال اقناع المحكومين بقبول منظومة الحكم بجاذبية فاعلة لا تعتمد على اليات القسر والاملاء فقط بل على الاخضاع الايديولوجي؟ هل كشفت الهبة تحول الدولة شيئاً فشيئا الى الاعتماد على التخويف والترهيب باستخدام القوة القسرية لسلطة الدولة على حساب قوة اقناع المحكومين بضرورة دوام هذه السلطة؟
التحولات الاجتماعية والسياسية ما بين هبة نيسان وهبة تشرين.
"الأردن يصور القول المأثور عن شاتلوس وشميل بشأن الحالة التى لا يكون المراقب فيها شاهداً على دولة تشرع بتطبيق برنامج للتصنيع من أجل التصنيع، بقدر ما هو شاهد على برنامج تصنيع يستهدف بصورة رئيسية بناء الدولة"(1)
كان الهدف الرئيسي لبناء مؤسسات القطاع العام الاردني خلق قاعدة اجتماعية لدولة تفتقر الى "شرعية" تاريخية، لذلك وعلى الرغم من تبني الاردن منذ بداية الثمانينيات سياسة اقتصادية منفتحة، بقي تدخل الحكومة في الاقتصاد تدخلاً كبيراً جداً، وبقيت سياسة التسعير والدعم مسيطر عليها بدرجة عالية، بالاضافة الى ان مجمل نشاطات القطاع الخاص كانت تنظم من جانب الحكومة. وحتى نهاية الثمانينيات كان هناك اهتمام كبير بالقطاعات المنتجة للسلع، وخصوصاً في مجال الصناعات الخفيفة والمتوسطة، حيث تراوح متوسط الانفاقات في الميزانية ما بين 40% و 50 % من الناتج المحلي الاجمالي في السنة، وهذا يعكس الاستثمارات في الصناعة والبنية التحتية ودعم الأسعار، اما حصة الاستثمار المخطط في مجمل تكوين رأس المال الثابت الاجمالي وصلت الى 55 % في منتصف الثمانينيات، ومن الناحية المؤسساتية، فان هذه النشاطات ادت الى ظهور قطاع عام ضخم ضم حوالي 40 مؤسسة عامة، كالفوسفات، والصناعة، والكهرباء، والأشغال المعدنية، والزراعة، والنقل، والاتصالات، والتجهيزات، والتموين، وغيرها. جزء كبير منها كان مملوك للدولة ملكية كاملة، وبعضها الاخر كانت حصة الدولة تزيد عن 50% من رأس المال فكانت ادارتها خاضعة لسيطرة الحكومة.(2)
استطاعت الدولة من خلال مؤسسات القطاع العام بناء قاعدة اجتماعية للدولة، الى حد لم يكن هناك تمفصل ملحوظ بين المجتمع "الشرق اردني" وبين الدولة ،حيث وصلت نسبة العاملين في القطاع العام الى 60% من مجمل القوى العاملة، ومنذ بداية السبعينيات بدأت تتشكل هذه القاعدة وتفرز على اساس هوياتي.(3)
منذ برنامج التكيف المتوسط المدى (1989-1993)(4) الذي شكل الأساس لأتفاقية الأردن مع صندوق النقد الدولي الى برنامج التحول الاقتصادي عام 2001، الذي فتح الباب على مصرعيه امام برنامج الخصخصة تحت مسمى "اعادة هيكلة الاقتصاد"(5) بدأت الازمة المالية تأخذ منحى دراماتيكي، تحديدا بعد التمسك بخيار الخصخصة كمخرج من "الأزمة المالية للدولة" من جانب وتحت ضغط/ اغراء وكالات النظام الرأسمالي ومؤسساته الدولية من جانب اخر.
جدول يبين كيف تنازلت الدولة عن ملكيتها لشركاتها من خلال بيعها لشركات خاصة / هذه بعض الامثلة والقائمة تطول (6)
من نيسان 1989 حتى تشرين الثاني 2012 ازدادت الأزمة تعقيداً بسبب تجاهل السلطة السياسية للطبيعة الهيكلية للأزمة –التي صنعتها هي - والتعامل معها باعتبارها، مجرد ازمة ركود عابرة يمكن التصدي لها من خلال امتصاصها او التكيف معها، وهذا بحاجة الى طبيعة اقتصاد مرن وعميق ذو قطاعات انتاجية تؤهله لفعل الامتصاص والتكيف، والاقتصاد الأردني اصبح ابعد ما يكون عن هذا الشكل من الاقتصاد، فلجأت السلطة السياسية الى سياسة ترحيل الأزمة فتفاقمت وبدأت تظهر ملامحها على البنية الاجتماعية للمجتمع الاردني.
تجلى هذا المنطق النيوليبرالي منذ بداية الالفية في حث الأغلبية الساحقة في المجتمع على تقديم التضحيات بحجة التوازن الاقتصادي، في حين ان النتيجة تتلخص فقط في توليد اقصى الارباح لفائدة اقلية ضئيلة او ونشأ ما يسمى ب (تأثير مَتّى).(7)
هذا الشكل من الاقتصاد القائم الخصخصة والانفتاح الاقتصادي انشأ طبقة جديدة تتكون من الاسرة الحاكمة وكبار رجال الدولة وتحديدا الأمن والمخابرات الذي دخلوا الحقل السياسي وتحولوا بالعقدين الماضيين من موظفين الى شركاء في الحكم، بالاضافة الى رجال الأعمال. وعبر رغبة هذا الثالوث بمراكمة الثروات نشأت علاقات قرابة وصداقة قائمة على شبكة مصالح ضخمة ومتشعبة شكلت الاساس لطبقة جديدة، ذات ثقافة محدودة تتظاهر بحب الفن والموسيقى، معرفة ابنائهم بالهلوين تفوق بأضعاف معرفتهم عن معركة الكرامة، ومن هوياتهم الصيفية "اكتشاف" الأردن وتقوية اللغة العربية.
التحول الأول : تحول في بنية العشيرة و تراجع في هيمنة الدولة على قاعدتها الاجتماعية.
بقيت الدولة تتغلغل في مجتمع "الشرق اردنيين" عن طريق تفكيك الكثير من منظومات الانتاج البسطية وشبكات التبادل الريفية، مقابل ادماج (الأفراد) في مؤسسات الدولة، ان هذا الفعل من تنظيم وتقسيم العمل الاجتماعي الذي فرضته الدولة انتج تقسيماً اجتماعياً قائماً على "التفريد"(8) ولو بشكل محدود، وذلك بتحويل الجواهر الاجتماعية – الاقتصادية الى افراد – اشخاص – ذوات. ومع تفكك وتحلل انماط انتاج "مجتمع العشيرة" واندماجه اكثر فأكثر بالسوق، بدأت تتحلل روابطه الاجتماعية التقليدية وتعمق التمايز والفرز الاجتماعي داخله، باتجاه المزيد من تمزيق وتآكل العلاقات البطريركية والعشائرية لصالح تبلور متزايد للعلاقات الاجتماعية القائمة على الوضع الاقتصادي.
لكن التحول الاكثر انعكاساً على مجمل القاعدة الاجتماعية للدولة والذي انعكس مباشرة على بنية العشيرة هو انسحاب الدولة شيئاً فشيئاً من القطاع العام وتخلي الحكومة عن ملكيتها في العديد من الشركات لمصلحة القطاع الخاص والذي بدأ يظهر بوضوح منذ بداية الألفية مع نشأة ما يسمى "برنامج التحول الاقتصادي "، حيث ان القاعدة الاجتماعية للدولة التى بدأت تتململ منذ نهاية الثمانينيات، صارت تهتز وتتخلخل وتضعف قدرة هيمنة الدولة(9) عليها بسبب:
- عدم قدرة الدولة على استيعاب أفراد جدد داخل القطاع العام بنفس الوتيرة السابقة، لاسباب لها علاقة بطبيعة القطاعات الخدماتية للقطاع العام بعد تخلي الدولة عن القطاعات الانتاجية لمصلحة رأس المال الخاص، الذي له معاييره الخاصة المتعلقة بالتوظيف، والتى تختلف كلياً عن معايير الدولة، وهذا ادى الى تفاقم نسب البطالة تحديداً عند فئة الشباب.
- عدم قدرة موظف القطاع العام الذي يتقاضى رواتب (دولة ما قبل الانفتاح) على مجاراة سوق (دولة الانفتاح وتحرر الاسعار)، على سبيل المثال، ابن الطفيلة الذي يعمل استاذ في مدرسة حكومية يتقاضى راتب 7000 دولار سنوياً، يشتري لتر البنزين بنفس السعر الذي يشتريه موظف في شركة جوجل في كالفورنيا يتقاضى راتب 90000 دولار سنوياً.
منذ بداية الحراك ظهر انقسام واضح داخل العشيرة الواحدة (مع او ضد) الحراك ووصل هذا الانقسام ذروته في هبة تشرين على اثر الهتافات التى طالت العائلة المالكة، فبدا الخلاف داخل العشيرة على شرعية نظام الحكم نفسه، على عكس هبة نيسان التى لم تطرح شرعية نظام الحكم للنقاش، بالتالي لم ينعكس هذا على شكل نزاع او خلاف داخل مجتمع العشيرة، وكنت قد عدت الى ارشيف وثائق هبة نيسان واطلعت على اكثر من 40 وثيقة تحمل اسم مذكرة او بيان من اهالي او نقابات او قبيلة او فعاليات او وجهاء عشائر او شخصيات وطنية او لجان نسائية او عمالية وكلها على الاطلاق لم تشر لا من قريب ولا من بعيد الى شرعية نظام الحكم ممثلة بالعائلة المالكة، فكانت معظم المطالب تتمحور حول استقالة حكومة زيد الرفاعي، والغاء قرار رفع الأسعار ورفع الأحكام العرفية والبيانات المضادة كانت تستنكر فقط اعمال العنف(10) بالمقابل نستطيع ان نرصد منذ هبة تشرين وحتى مسيرة "ائتلاف العشائر" عشرات البيانات المضادة التى تصدر تحت مسمى ابناء قبيلة او ابناء عشيرة، وكلها تستنكر الهتافات وتتبرأ من مطلقيها من ابناء العشيرة وتعلن ولاءها وانتمائها للقيادة الهاشمية، حيث بدا جوهر الخلاف الاجتماعي- الاقتصادي داخل العشيرة يأخذ بعداً سياسياً، فاصبح الخلاف داخل العشيرة الواحدة يتمظهر على شكل خلاف سياسي قائم على شرعية نظام الحكم.
فشلت الدولة من خلال محاولة استغلال نفوذ الزعامات العشائرية من اجل ضبط احكام السيطرة على قواعدها التقليدية تحديداً فيما يتعلق بمسألة الهتاف، فبدا هذا واضحاً من خلال التدرج في سقف الهتاف خلال 22 شهر الذي سبقت الهبة، مع ذلك بقي الهتاف ذو السقف المرتفع محصوراً عند مجموعة من الحراكيين ، لكن التحول الذي حدث كان في هتافات هبة تشرين التى طالت العائلة الهاشمية والملك نفسه، حيث ما يميز هذه الهتافات بالاضافة الى سقفها ان من اطلقها هم "اناس عاديون" ابناء فئات كانت مقصاة تماماً عن الفعل والتأثير السياسي، واستمر الهتاف بسقفه هذا منذ هبة تشرين وصولاً الى مسيرة "ائتلاف العشائر"(11) التى تم الدعوة لها وتسميتها ضمن سياق ما كانت تقوم به الدولة من محاولات لاستغلال سلطة الزعامات العشائرية لاحكام السيطرة على الشارع، ونستطيع ان نلمس هذا من خلال العودة الى هتافات المسيرة، باعتبار الهتاف خطاب يعبر عن واقع ما، حيث كان الهتاف المركزي في تلك المسيرة " ع.......... داير داير بفتت بالعشاير "، اذ اعتبرت المسيرة، من خلال هتافاتها ان هذا الفعل الذي تقوم به الدولة يؤدي الى تفتيت اكبر داخل بنية العشيرة.
كما ابرزت هبة تشرين تآكل نفوذ الزعامات العشائرية، وعجزها عن التأثير المباشر لضبط احكام السيطرة على قواعده التقليدية، فانها ابرزت ايضاً تآكل وانحسار قدرة سلطة الدولة على التعبئة السياسية والايدولوجية لقواعدها الاجتماعية التقليدية.
التحول الثاني : عدم قدرة الدولة على الاستمرار بعزل الاردنيين من اصل فلسطيني عن الفعل السياسي المحلي.
وجّه ياسر عرفات في نيسان 1989 رسالة الى فلسطينيي الأردن، بثها انذاك الاعلام الرسمي الاردني، وخلاصتها ان ما يحدث في الأردن شأن داخلي لا علاقة لهم به، وان الأردن (اي النظام) هو خير صديق للفلسطينيين.(12) وفعلاً كما يشير هاني الحوراني " نأت الجماهير الفلسطينية بنفسها عن المشاركة في تحركات نيسان الاحتجاجية، انطلاقاً من وعيها بضرورة ان تحتفظ هذه التحركات بوجهها الأردني الصرف ... ادراكاً منها ان مشاركتها هذه المرة سوف تستثمر من جانب الأوساط الحاكمة لحرف الأنظار عن طبيعتها الحقيقية، كحركة اقتصادية – سياسية دفاعاً عن المصالح المعيشية والديمقراطية لاوسع الجماهير، او لاجهاض وشق حركة الجماهير المنتفضة من خلال تأجيج النزعات الاقليمية واثارة المخاوف المفتعلة في صفوف الجماهير الاردنية من (الخطر الفلسطيني) المزعوم" (13)
في هبة تشرين تجاوز المهمشين من ابناء المخيمات والتجمعات ذو الكثافة السكانية للأردنين من اصول فلسطينية، الخطاب السياسي القائم على ثنائية "الحقوق المنقوصة" و "فك الارتباط"، حيث تحركت الكتلة التى طالما اطلق عليها البعض "الكتلة الصامتة" معلنة مشاركتها لأول مرة في هبة محلية، وحدث هذا في عز العدوان الاسرائيلي على غزة، وفي اي عودة لشريط الهتافات ستجد هتاف "يا غزة حقك علينا واحنا اللي فينا مكفينا" حيث يعد واحد من الهتافات التى تردد باستمرار في الهبة.
سارت المخيمات على خطى المحافظات وبنفس الوتيرة، وشكل التحرك، وطبيعة الهتافات، وتعرضت لنفس حالة القمع التى تعرضت لها المحافظات، واستمرت ديمومتها الى ان انحصرت حركة الهبة الشعبية في المحافظات، واذكر ان في اتصال هاتفي مع احد الاصدقاء في مخيم الحصن في اربد، قال لي "هناك اجماع تستطيع ان تلمسه بوضوج عند ابناء المخيم بأن حركتنا مرتبطة بالكامل بحركة ابناء المحافظات، نستمر اذ استمروا، نتوقف عندما يتوقفون"
ابرزت هبة تشرين فشل الدولة في محاولة استغلال نفوذ الزعامات التقليدية كالمخاتير ووجهاء المخيمات وحتى الشخصيات الوطنية التى لها تأثير على مجتمع الاردنيين من اصول فلسطينية بالمحافظة على حياديتهم تجاه الشأن المحلي. وعبر طاهر المصري ابن مدينة نابلس اكثر من مرة على ضرورة ان ينأى ابناء المخيمات بأنفسهم عن الحراك الأردني، حيث اشار في شباط 2012 في غرفة تجارة العقبة عند مشاركته بحوارية دعت اليها الفعاليات والقيادات الشعبية، عندما سئل عن مشاركة المخيمات بالحراك، مشيراً الى "أن ابناء المخيمات لديهم وضع خاص حيث يحملون الجنسية الأردنية، لكن يحتفظون بحقهم بالعودة وهذا الخيط الرفيع بين اردنيتهم وحق العودة يجب ان يبقى وان نحافظ عليه"(14)
من هبة نيسان الى هبة تشرين تحولات عدة خضع لها مجتمع الاردنين من اصل فلسطيني اهمها :
- اثرت سياسات الانفتاح واللبرلة تاثيراً مباشرا على الوضع الاقتصادي – الاجتماعي لأبناء المخيمات والتجمعات ذو الكثافة السكانية الفلسطينية ، فعدد كبير منهم من يعمل كحرفي او استاذ مدرسة اوسائق تكسي او صاحب بقالة، كان يعيش بالحد الأدنى، ومع الارتفاع المستمر للأسعار المحروقات والسلع الاساسية بات يشعر بالغبن الاجتماعي الشديد من جراء هذه الحالة الاقتصادية التى تهدده هو وعائلته تهديداً مباشراً.
- غياب المشروع الوطني الفلسطيني وانسداد الأفق السياسي وغياب المرجعية الفلسطينية المؤثرة، وشعور ابن المخيم بأن الكلام عن العودة اصبح بمثابة افيون يستخدم للتخدير لا اكثر ولا اقل، ونشوء جيل متصالح مع هويته المركبة من جانب ولا يستطيع بحكم الواقع الاقتصادي ان يتجاهل القضايا الاجتماعية المحلية من جانب اخر.
التحول الثالث : تحول في طبيعة الدولة.
اذا كان للدولة – كما يشير التوسير– جهاز قمعي واحد يتكون من البوليس، المحاكم، السجون ... الخ، فان لها اجهزة ايديولوجية متعددة، كجهاز الدولة الايديولوجي الديني (المسجد، الكنيسة) وجهاز الدولة الايديولوجي التعليمي (المدرسة) وجهاز الدولة الايديولوجي الاعلامي (الراديو، التلفزيون، الصحف) وجهاز الدولة الايديولوجي السياسي (النظام السياسي بما فيه الاحزاب)(15)، وكلها اجهزة تنتج الدولة خطابها وتعيد انتاجه من خلالها عن طريق وظائف هذه الاجهزة المتعددة واهمها التربوية، وكل منظومة تربوية – يقول فوكو – "عبارة عن طريقة سياسية للابقاء على تملك الخطابات او لتعديل ذلك التملك، بجانب ما تحمله هذه الخطابات من معارف وسلط"(16)، وتتجلى "السلطة الرمزية" بعمل هذه الأجهزة كونها تتحدد بعلاقة قوة بين من يمارس السلطة ومن يخضع لها.(17)
في هبة نيسان استخدمت الدولة اجهزتها القمعية والايديولوجية معاً، حيث قمعت الدولة اثناء الهبة قمعاً دموياً شديداً، وفي الوقت ذاته اطلقت العنان لاجهزتها الايديولوجية لتمارس وظيفتها على اكمل وجه، حيث تعهد الملك حسين في خطابه المتلفز مساء 26 نيسان بأن "يجري الحكم مراجعة شاملة ومعالجة جذرية لاسباب الاستياء والاحتجاج، ويتحرك في خطى سريعة لاجراء انتخابات نيابية تهدف الى تقوية اسس مشاركة الشعب، ووعد بمراجعة ما حدث اسباباً ومسببات، واستخلاص النتائج والعبر، من اجل اعادة البناء في مختلف المجالات، الادارية والاقتصادية والمالية"،(18) ومع استقالة حكومة زيد الرفاعي وتكليف الشريف زيد بن شاكر بتأليف حكومة جديدة تضمن كتاب التكليف "اجراء مراجعة شاملة لسياسات الدولة على مختلف الصعد باستعادة قنوات الحوار مع الشعب"(19) وتم اعلان ما عرف ب"الميثاق الوطني الأردني" (20) الذي شارك بصياغته قرابة مائة شخصية سياسية. وحتى لو كان الهدف من كل هذا امتصاص الحالة الشعبية، والالتفاف على المطالب الرئيسية لهبة نيسان المتعلقة بشكل اساس بالوضع الاقتصادي، لكنه كان بمثابة مؤشر هام لقياس قدرة اجهزة الدولة الايديولوجية على العمل.
في هبة تشرين، وبعد صمت رسمي لأكثر من 48 ساعة ارتأت الدولة ان تصدر حسين هزاع المجالي كرجل امن ناطقاً باسمها، فخرج على الناس بزيه الأمني يهدد ويتوعد "بالضرب بيدٍ من حديد الى كل من تسول له نفسه بالاعتداء على دستور المملكة، ورمزية المملكة، وتاريخ المملكة، و شرف المملكة" مكرساً مقولة "الحرب اولها الكلام" متحدثاً بالقانون معتبراً نفسه مرة رجل قانون ومرة يد القانون ، متحدثاً عن الديمقراطية التى نقيضها "الجريمة بعينها" كما يجزم، نافياً عن نفسه شبهة الحديث بالسياسية بل ان حديثه ليس حديث سياسة بل حديث في المنطق، متحدثاً بالاخلاق باعتباره هو (الدولة) الخير المطلق الذي يحارب "المجرمين" و"اصحاب السوابق" الاشرار الأراذل "اخلاقياً". مؤتمر صحفي استمر لمدة ساعة تقريباً، يقوم بالكامل على شيطنة الآخر من اجل نزع الصفة "الانسانية" عنه من اجل ضربه وقتله حتى، وترهيب الناس وتخويفهم من الانجرار وراء هؤلاء"الاشرار" الذي قد يودي بهم الى مصير شبيه بمصير لاجئيي مخيم الزعتري.(21)
منذ هبة تشرين وحتى يومنا هذا اختارت الدولة طريق العضلات، حيث ادارت الدولة ظهرها للناس وللاحزاب واغتالت السياسة ولجأت الى العنف والاملاء والترهيب لفرض وتثبيت مصادر الشرعية بعد ان فشلت اجهزتها الايديولوجية بفعل هذا.
تتحرك الدولة اليوم بعقلية امنية تأخذ اشكالاً ثائرية في بعض الاحيان، حيث كشفت هبة تشرين عن الخلل والتلف الذي اصاب اجهزة الدولة الايديولوجية، وعدم قدرتها على اعادة انتاج خطاب الدولة الذي كان مهيمن على قاعدة اجتماعية واسعة لاسباب عديدة اهمها التحول الذي طرأ على بنية القطاع العام والذي كان يعتبر مصدر اساسي من مصادر الشرعية، لذلك تتمسك الدولة بمعادلة "اما انا واما الفوضى" او "اما انا واما التطرف" كاداة واحدة ووحيدة للسيطرة.
فرض ما يسمى ب"هيبة الدولة" بالقوة ما هو الا دليل على ضعف الدولة، فالدولة القوية لا تحتاج الى هذا القدر من العنف المرئي والملموس لتكريس سلطتها، بل تفسح المجال لاجهزتها الايديولوجية لتركيز ديمومة الدولة بالاعتماد على مصادر الشرعية، وان استخدام القوة والقسر والاملاء لفرض مصادر شرعية لم تعد مقنعة للناس مؤشر على ضعف الدولة وليس على قوتها. فالدولة التى تخيّر شعبها بين ان يكونوا جوعى امنيين او ان يتحولوا الى لاجئين، دولة ضعيفة حتى لو كانت قادرة على ان تخيف الناس، والدولة التى تعتقل شخص بسبب تعليق عالفيسبوك، دولة ضعيفة حتى لو كانت قادرة على البطش والاعتقال، والدولة التى تلاحق من يعارضها بتهمة اطالة اللسان دولة ضعيفة حتى لو كانت قادرة على تكميم الافواه، وتسييج الدواوير والساحات.
هواميش:
(1) نزيه الايوبي، تضخيم الدولة العربية، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2010 ص 723
(2) المصدر نفسه، ص 724-725
(3) وهيب الشاعر، الأردن الى أين؟، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2004،ص60
(4) لمعرفة الاختلالات الهيكلية التى عاناها الاقتصاد الاردني والتى على اثرها وضع برنامج التكيف المتوسط المدى (1989-1993)، راجع ثناء عبدالله، الدولة والقوى الاجتماعية في الوطن العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية،2001، ص38-40
(5) للوقوف على نشأة برنامج التحول الاقتصادي عام 2001، راجع الموقع الالكتروني لوزارة التخطيط والتعاون الدولي على الانترنت http://www.mop.gov.jo/Pages/viewpage.aspx?pageID=204
(6) جريدة الرأي، اقتصاد، "الأردن بدأ برنامج الخصخصة عام 1998 في اطار خطة لإعادة هيكلة الاقتصاد"، تاريخ النشر : 17-01-2013 http://m.alrai.com/article/563304.html
(7) تأثير مَتّى يعبر عن ظاهرة أن الأفضليات هي ذات طبيعة تراكمية في أغلب الاحيان، وأن من هم أغنياء يصبحون أكثر غنى في المستقبل، ومن هم فقراء يزدادون فقراً، وهذه تسمية عالم الاجتماع روبرت ميرتون، وأسماها "تأثير مَتّى" في اشارة الى آية من إنجيل متّى تقول : " لأنه سنعطي كل من له، وسيكون في الوفرة، ولكن لمن ليس له، فحتى الذي عنده يؤخذ منه" ، راجع كتاب ما العدالة؟ معالجات في السياق العربي، مجموعة مؤلفين، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014 ص 330
(8) استعير مصطلح "التفريد" من نيكولاس بولانتزاس، نظرية الدولة، بيروت، دار التنوير، 2007 ص 60-61
(9) اقصد بمفهوم "الهيمنة" كما يراها غرامشي "هي علاقة، ليست علاقة تسلط بالقوة، بل علاقة موافقة وقبول بوسائل قيادة سياسية وأيدولوجية، انها تنظيم للقبول والموافقة" راجع كتاب الأمير الحديث و كراسات السجن لانطونيوغرامشي.
(10) حسين أبو رمان، وثائق انتفاضة نيسان الأردنية عام 1989، مجلة الأردن الجديد، العدد 14، ص56-94
(11) راجع هتافات مسيرة "ائتلاف العشائر" 14-06-2013 الجامع الحسيني، وسط البلد.
(12) عصام التل، قيل في "هبة نيسان"، http://technoyugi.blogspot.com/2009/05/blog-post.html
(13) هاني الحوراني، انتفاضة نيسان : دروس وعبر، مجلة الأردن الجديد، العدد 14 ص 24
(14) تصريح طاهر المصري، راجع جريدة الدستور، تاريخ النشر : 4 شباط 2012 .
(15) لويس آلتوسير، الايديولوجيا واجهزة الدولة الايديولوجية، دراسات لا انسانوية، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر.
(16) ميشيل فوكو، نظام الخطاب وإرادة المعرفة، الدار البيضاء، دار النشر المغربية، 1985، ص30 .
(17) بيير بورديو، الرمز والسلطة، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 2007، ص 56
(18) هاني الحوراني، مصدر سابق، ص 25.
(19) هاني الحوراني، مصدر سابق، ص 26.
(20) اشار "الميثاق الوطني الأردني" في النقطة 14 الى ان "الاقتصاد الأردني المتحرر من التبعية دعامة حقيقية من دعائم استقلال الوطن وامنه وتقدمه، وهو يتحقق بالاعتماد على الذات وتطوير القدرات الوطنية الكامنة وترشيد استثمار ثروات الوطن وموارده وتقوية قاعدة الانتاج بجميع عناصرها .. ضمن اطار العدالة الاجتماعية" .
(21) المؤتمر الصحفي لمدير الأمن العام، حسين هزاع المجالي، 15-11-2012 .