في كتابه "ترجمة النساء.. حواش على بعض أخبارهن وأحوالهن"، ينقب اللبناني وضاح شرارة في النصوص وما وراءها، وفي فنون تناولت حياة المرأة في الغرب والشرق، مستعيناً بالأدب وبالفلسفة، ودراسات في الثقافة الاجتماعية تقترب من الأنثروبولوجيا، حتى لا نقول علم الاجتماع. مادة الكتاب مقالات نشرها شرارة خلال أكثر من عشرين عاماً، يصح القول إن كلاً منها تشكل كتيباً صغيراً. هذا التنوع مربك بعض الشيء، بالرغم من أن عنوان الكتاب ينفتح على محتواه؛ باختيار الكاتب نماذج من أخبار نساء من بين كثير متاح في الكتب، لكن النقلات كانت مربكة. أراد شرارة تجاوز ذلك بتقسيم الكتاب إلى قسمين في تسعة فصول، لكن دون مقدمة يشرح فيها ارتباكه، أو يعتذر إلينا عن إرباكنا. على كل حال، يمكن أن نعد الكتاب تسعة كتيبات بين دفتي غلاف واحد، ونقرأها هكذا، كما نقرأ مقالة مطولة في جريدة تتألف من صفحتين كاملتين، أو أكثر أحياناً.
اللغة العميقة
يضع شرارة النص المنقول كاملاً أمام القارئ، في المتن وليس الحاشية. لكن الحواشي هي هدف الكتاب هنا، وهي الإضافة بالإحالة على النص. قدم الكاتب ما يشبه التحقيق، والنقد، معاً، بلغة معارضة للنص الأصل، في محاولة لفهم السياق التاريخي، والاعتراض على القراءات المتقدمة للنص، وهو ما استلزم من شرارة دائماً مفردات معجمية تتبارز مع الأصل. غير أن بعض التعابير والتراكيب تربك القارئ أحياناً لناحية قطع استرساله مع النص، كون دقة التعبير، هنا، تثبط همة القارئ عن متابعة الفكرة، وكان الأولى استخدام لغة بسيطة سلسة وصحيحة بدلاً من "التقعر" الصحيح في اللغة أيضاً، لكن المربك لسلاسة فهم الفكرة ونقدها.
يأخذ القسم الأول من الكتاب عنوان: أسماء علم، ويتألف من أربعة فصول، حمل الأول عنوان (ذوات الفروج يركبن السروج.. قوة شهوات النساء)، وفيه 22 خبراً من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، علق عليها شرارة ناقداً ومفسراً ومقارناً (من علم الأدب المقارن). بداية، يصف شرارة الأصبهاني بالمؤلف على المعنى الأول للكلمة، كونه ينقل الخبر كما سمعه، كما تفعل وكالات الأنباء الراسخة في عصرنا هذا. لكن من الأخبار ما كان بطولياً نبوياً لا يرقى إليه الشك، إلا إذا نظرنا إليه من بُعد، ومنها ما يقع تحت طائلة الشك. ومن هنا، أوَّل شرارة حضور النساء عبر رغباتهن الجنسية وفق المخيلة العربية - الإسلامية.
نقرأ عن عادة وأد البنات الجاهلية، المبررة بنفي احتياطي لعار محتمل، أو للتقليل من فرصة حدوث سبي للنساء في غزوات العرب المعتادة في جاهليتهم. بالطبع، هنالك مبالغة في ذلك، دون نفي وجود تلك العادة الغريبة، فوأد البنات لو كان ممارساً على نطاق واسع لكانت النتيجة انقراض نسل العرب. والتبرير المنطقي لتضخيم خبر تلك العادة الإعلاء من شأن الإسلام الذي نظر إلى ممارسي الوأد بالعتب واللوم.
ينقل، هنا، شرارة عن الأغاني أن فارساً شجاعاً حدَّث الرسول محمداً مفاخراً بوأده بناته.. روى الفارس للنبي أن ابنته جعلت تقول: "أمغطِّيّ بالتراب أنت يا أبتِ؟ أتاركي وحدي ومنصرف عني؟". يتابع الفارس "جعلتُ أقذف عليها التراب حتى واريتها وانقطع صوتها". فدمعت عينا النبي ثم قال: "إن هذه لقسوة، وإن من لا يَرحم لا يُرحم".
بالطبع، لابد من أكثر من حاشية على الخبر، ومن متون تقابل الشك بشك مضاعف، فأي قارئ ذي عقل في عصرنا هذا، سيتساءل عن براغماتية الرسول الذي اكتفى بالأسف على ما سمع. حتى النص القرآني في آية المؤودة خاطب العاطفة، دون نص صريح بتجريم الفاعل ومعاقبته. ودون الخروج على النص، نقول: لا يزال تنظيم داعش، وغيره، يرجم النساء باسم الإسلام الأول القابع في النصوص.
الحيض القاتل
ينقل شرارة: حاصر ملك الفرس مدينة، فرأته بنت حائض أُخرجت إلى الربض في ظاهر المدينة، فعشقته وعشقها. وإذ طال الحصار، قالت الحائض لعشيقها الملك أن يلطّخ حمامة بحيض جارية ويرسلها إلى سور المدينة فيتداعى. وهكذا فتح ملك الفرس المدينة، و"أعرَسَ" بعشيقته التي شَكَتْ من خشانة (خشونة؟) في فُرُشِها، وهي من حرير (…) فأمر الملك بأن تُضفر غدائرها بذيل فرس جموح، ثم استركضه فتقطعت المرأة إرباً.
يفسر شرارة: الملك عاشق المرأة المنفية من أهلها وديرتها، والعارية منهما، قبل فتحه مدينة أهلها، سرعان ما عامل عشيقته هذه معاملته النساء السبايا من أعدائه بعد الفتح. أما زوجة الملك الآخر، وبعد أن سُبِيت في غزوة تلتها غزوة أخرى كُتِب النصر فيها لزوجها وقومه، فاستعادوا زوجة ملكهم من السبي – على ما ورد في خبر آخر من أخبار الأصبهاني – فإن مصيرها لا يختلف عن مصير عاشقة ملك الفرس الغازي. فالملك الذي استعاد زوجته من السبي "ربطها بين فرسين فركضا بها حتى قطّعاها قطعاً". هذا فيما أمر مروان بن الحكم، الخليفة الأموي الثالث، بحفر بئر لتسقط فيه بنت أخيه يحيى، لأنها – في خبرٍ رابع من أخبار الأصبهاني- كانت تخرج مع امرأة أخرى، "فتركبان فرسين تستبقان عليهما حتى (تبينُ) خلاخيلهما" في كواحلهما.
العفة والشهوة
عنوان الفصل الثاني من الكتاب (كتابة النساء أو الاستعارة المتعدية.. من حكاية بينيلوبه إلى حكاية شهرزاد وغواية موللي بلوم). ثلاث نساء يقصصن، بينيلوبه المنتظرة عودة أوديسيوس، في صورة العود على بدء، وعودة آغاممنون إلى كليتيمنستر التي تقتله مع محظيته وسبيته، وهي هنا خاتمة رحلة أكثر منها عودة. وتجمع شهرزاد، وفق شرارة، بعض بينيلوبه وبعض كليتيمنستر، حين أعادت إلى شهريار دورة حياة كاملة فقدها مع النساء، فقبل شهرزاد كان الملك القاتل يسفك دم بكارات البنات عشاء، وفي الصباح يجز رقابهن. سلمت رقبة شهرزاد من الجز، دون بكارتها، وولدت للملك ثلاثة ذكور، واحد يمشي، وواحد يحبو، وواحد يرضع، كما سلمت رقاب بقية بنات المملكة من الجز: "وتنتهي شهرزاد إلى هذا، أي إبدال المرأة العفيفة الفرج والمنجبة من المرأة الجامحة الشهوة والخالية من الذرية".
ساحرة وقديسة
في الفصل الثالث (حاشية على كتاب إيبرجيه فيها.. الأم هندية عجمي.. وَليَّة و"ساحرة") يعرض المؤلف لحكاية الأم المارونية هندية عجيمي في رحلتها نحو الرهبنة والقداسة من حلب إلى جبل لبنان، وكيف احتارت الكنيسة المارونية بين كونها ساحرة، أو قديسة.
وفي الفصل الرابع (ساحرة ميشليه أو سياسات النساء) تعريج على عقد الثورة الطلابية والثقافية في فرنسا الذي تتوج في مايو/ أيار 1968، استطراداً إلى ما يسميها شرارة جدة الحركات النسوية في كتاب الفرنسي جول ميشليه (1798 - 1874) المعنون بـ "الساحرة"، الذي يقص فيه سير أربع نساء اتهمن بالسحر، خص منهن "لاكاديير" بخُمس الكتاب. ويسرد ميشليه الظروف التي قادت لاكاديير إلى مواجهة ذكرية الكنيسة في عصر يتسم بالقنوط عام 1730م.
أبو نؤاس وبودلير
القسم الثاني من الكتاب حمل عنوان: جماليات التأنيث، ويتابع فيه شرارة في الفصل الخامس (أبو نؤاس واختلاط الشعر والرغبة) محللاً ظاهرة أبي نؤاس من خلال أشعاره، ومعيداً مكانته إلى منجزه الشعري في أواخر القرن الثاني للهجرة، عشية الحرب الأهلية العباسية الأولى. وهذا ما دعا شرارة إلى وصف ذلك بالحداثة، في عصر أغلق فيه الفقهاء باب الاجتهاد. في الفصل السادس يستذكر شرارة حركة الشيخ سليمان البنهاوي الغرائبية في مصر في أوائل القرن التاسع عشر، غداة استيلاء نابليون بونابرت على مصر.
وفي الفصل الثامن، يعرض شرارة نقدياً لمعرض الفنانة ريم الجندي بعنوان (رجال). أما الفصل التاسع والأخير (سلمان رشدي وأدب الشيطنة)، فيروي فيه شرارة حكاية فتوى الخميني بإهدار دم الروائي البريطاني سلمان رشدي بسبب روايته "آيات شيطانية: "أذاع روح الله خميني في اليوم الرابع عشر من شباط (1989) فتوى تهدر دم المسلم الهندي والبريطاني، صاحب الرواية، وتعد قاتله بجائزة سنية تصرف من بيت مال المسلمين (الإيراني)..". يذهب شرارة إلى لب المشكلة، فالخميني لم يقرأ الرواية، ولم يستشر أحداً قرأها، بل رأى على التلفزيون قبل يومين من الفتوى مظاهرات في باكستان ضد الروائي، فأصدر فتواه.
ويقارن بين الهوى الأول في آيات سورة النجم (أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى..) حين ألقى الشيطان على لسان الرسول (.. تلك الغرانيق العلى، وأن شفاعتهن تُرتضى). فرحت قريش بذلك. لاحقاً، أتى جبريل النبي، فقال: يا محمد! ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به من الله عز وجل... فنسخ الله ما ألقى الشيطان. هذا ما يرد في "سيرة ابن هشام" الضعيفة.
يريد شرارة من ذلك أن تصديق هذه الرواية يشبه في النتيجة ما صدقه الخميني عن رواية سلمان رشدي، وأنه تسرع في الفتوى. وحتى إذا قلنا إن رشدي يستحق تلك الفتوى، فإن مبررات الفتوى ناقصة. في النتيجة، قدم وضاح شرارة في كتابه موضوعات محرضة للعقل تستحق الاختلاف معها، قبل الاتفاق، ووضع فيها عقله النقدي، وثقافته الواسعة، ليطلق كثيراً من الأسئلة التي تولد أسئلة أكثر مما تدعي تقديم أجوبة. وهذا ما تحتاجه الثقافة العربية.