[ أدناه مقدمة الملف الذي أعده لـ”جدليّة“ الشاعر الليبي عبد الباسط أبو بكر محمد تحت عنوان ”القصيدة العابرة للقلق: ملف عن قصيدة النثر الليبية في اللحظة الراهنة“. يشارك في الملف كل من سالم العوكلي، وجمعة الفاخري، وحواء القمودي، وسميرة البوزيدي، ورامز النويصري، وخلود الفلاح، وعاشور الطويبي، ومفتاح العماري، ورحاب شنيب، وعبد الوهاب قرينقو، ومراد الجليدي، ومهدي التمامي. انقر/ي هنا للاطلاع على جميع مواد الملف. ستنشر جدليّة مواد الملف على مدارالأسبوع القادم]
قصيدة النثر الليبية الآن تكتب ببساطة مبهرة مع مواكبتها لليومي، فتجد أنها في انفتاح دائم على غيرها من التجارب العربية، مع حفاظها على خصوصية أفكارها ولغتها. وعلى الرغم من توقف أغلب من يكتب قصيدة النثر عن النشر بشكلٍ مستمر إلا أن ما حققته القصيدة من تراكم يجعلها تحتل موقعاً مناسباً في تجربة الشعر العربي عامة.
ويرجع الفضل بالدرجة الأولى لوجود أصوات حقيقية أخلصت لهذه التجربة ومنها (العماري، الطويبي)، مع ما أتاحته التقنية من انفتاح على الكثير من التجارب، وبعض تجارب الشعراء الشباب بلغت من النضج الحد الذي مكنها من الوصول إلى التجارب الأخرى بثقةٍ قل أن تجدها في مسيرة الشعر الليبي من قبل (التي كان يغلب عليها أنها صدى لتجارب شعرية أخرى).
استردت قصيدة النثر الليبية أنفاسها بعد الثورة، واحتوت الكثير من الأصوات الجديدة التي بدأت الكتابة بعد الثورة، وبعض الأصوات الأخرى توقف (لأسباب غير معروفة عن الكتابة والنشر). من خلال نسقٍ معين يمكن اختزال الكثير من الحديث عن البدايات والجذور والمؤثرات في الشعر الليبي. فهناك الكثير من الدراسات التي تنصب على هذا المجال وتجدها منشورة في الكثير من الكتب والمواقع والصحف.
أركز عبر هذا الملف على (اللحظة الشعرية الراهنة)، محاولاً التركيز على حالات الكتابة التي واكبت التغيير الذي أحدثته الثورة في (القصيدة الليبية). الشاعر المعاصر يواكب هذا الفيض الإلكتروني، ولا يسبح ضده، مع الإخلاص لخطوته الأولى، وارتباكه الأول، أعتقد أن الشاعر سيموت عندما يحسن الظن بأفكاره، وعندما يعتقد أن خطواته أصبحت أكثر ثقة.
على الشاعر أن ينثر ارتباكه في كل قصيدة، أن يظل مسكوناً بالبحث الدائم على أفق جديد في كل محاولة للكتابة.البحث عن الكتابة اليومية وبهذا الكثافة لا شك أنها مغامرة غاية في الخطورة من ناحيتين:
. سهولة النشر جعلت الكتابة متاحة أكثر من قبل، وقلصت الفارق بين لحظة الكتابة ولحظة النشر، فلم يعد هناك كتابة أولى، وكتابة ثانية، وتلاشى زمن المسودات، وأصبح النشر متاحاً بنقرة واحدة. . الالتقاط اليومي للأفكار، وهنا أعتقد أن هذا النشر اليومي المكثف هو رهان قصيدة النثر من حيث عنصري "اليومي والمجاني" الأمر الذي يجعل قصيدة النثر، أكثر خطورة من قبل في ظل هذا الفيض الإلكتروني.
الكتابة وشكل التفاعل تغيرا كثيراً، فنجد مثلاً: صفحة لشاعر غير معروف ، يقبض على جذوة الفكرة ويكتب قصيدته بهدوء، تخلو صفحته من زائر واحد، بينما تجد (شاعراً معروفاً) تم تكريسه من قبل وسائل الإعلام والصحف، يكتب نصاً عادياً جداً، تجد صفحته ممتلئة بمئات نقرات الإعجاب. هناك عبثٌ صاخبٌ في مقابلِ نصوص واثقة ، لكن هناك إصراراً مكثفاً من قبل من يكتب هذه النصوص، وهو مُصرٌ على انتزاع حقه في هذا النشر المجاني الذي توفره هذه المواقع، هناك رهان دائم على الزمن والأفكار والمتلقي.
”الفيس بوك“ كموقع تواصل اجتماعي، جعل التواصل بين النصوص والمتلقي أمراً متاحاً دائماً، الانفتاح الذي تحقق بعد الثورة جعل من ”الفيس بوك“ ساحة كبيرة للتجريب من كل النواحي، فكما أن هناك عدداً كبيراً من المحللين السياسيين، والمخبرين، والأشباه، هناك الكثير من الشعراء الجدد، زادهم تجريبهم و أفكارهم الجديدة. وأعطاهم الفيس بوك جرعةً زائدة من الجرأة والعناد.
هناك أصوات كثيرة وتواصلي اليومي معها، يكسبني بالدرجة الأولى الكثير مما يفتقده الشعراء الكبار "بالمفهوم العمري"، أحاول أن أكتسب منهم المرونة التي تفقدها نصوصنا. من هؤلاء مثلاً: (أنيس فوزي، يوسف سنيدل، حمزة الفلاح، حفيظ الشراني، كمال المهدي، مهند شريفة .. وغيرهم الكثير). وأخاف أن أقع في فخ النسيان من خلال تجاهلي أحد هذه الرموز الملهمة التي تكتب باستمرار، زادها انفتاحها على الغير بشكلٍ كبير جداً.
لنقرأ مثلاً ما كتبه الشاعر مهند شريفة على صفحته ”خفقة يراع“:
”من خلال ما سوف تطالعونه في هذه السطور ستكتشفون ما كتب على جدران هذه الأوراق البيضاء مجرد همسات وشذرات فتى ذو طابع خاص ومختلف ولديه الرغبة في أن يُحدث تغييراً جذرياً وثورة مفصلية في ذاته ونفسه تصل حتى أعماق كينونته النفسية. إن ما يحمله هذا العمل بين دفتيه لهو تفريغ لطاقات دفينة أخرجها هذا الفتى ليقول للعالم أجمع أنا هنا أحاول أن أثبت ذاتي للكل وللجميع بالكلمات والعبارات ولدى رجاء وأمل في أن تنال هذه الأسطر قدراً ولو بسيطاً من التقدير والإعجاب“.
يجوز لنا أن نقول : ”الجميع كُتاب/ الجميع ناشرون / والزمن والمتلقي هما من يصنع الفرق“
***
في هذا الملف اخترت مجموعة من الشعراء والشاعرات، زادهم الكتابة المستمرة قبل وبعد الثورة، لم يتوقفوا عن الكتابة ولا النشر. منهم شعراء رواد بحجم العماري، والطويبي تجارب أخلصت لقصيدة النثر ورسمت سياقاً له خصوصية ليبية. منهم شعراء مثل جمعة الفاخري الذي بدأ كتابة القصيدة العمودية ليتحول بعد الثورة لكتابة قصيدة ”الهايكو“ بنفس جديد وبنسق متواصل.
هناك شاعرات لهن أكثر من بصمة في الساحة الشعرية الليبية، حضور عربي مكثف عبر المواقع والمجلات. الملف باقةٌ من حقل ممتلئ بالزهور والفراشات، حاولت أن أضع معاييري الخاصة بالاختيار، لكن بعض التجارب توقفت في كامل وهجها لتترك أكثر من علامة استفهام حائرة ”هل توقفت عن الكتابة أم توقفت عن النشر؟“ الملف لم يتناول نصوص الشعراء الشباب، وهي تجارب تشكلت بعد الثورة وتكتب بشكل مكثف عبر صفحاتها على المواقع الاجتماعية. وانما اكتفيت بالإشارة إليها فقط، و نصوصهم على درجة عالية من الثقة والتمكن وتحتاج ملفاً متكاملاً.
***
[عبد الباسط ابو بكر محمد شاعر ومدون من ليبيا. انقر/ي هنا لقراءة المزيد عنه.]