[ هذه المساهمة الشعرية ضمن ملف خاص حول الشعر الليبي. انقر/ي هنا للاطلاع على جميع مواد الملف]
نُحدِّق في الشتاء الطويل
فلا نرى في الأفق المعتم سوى حزمة سنابل
كأن المطر في راحتي رغيف
وكأن صمت الرحى يصغي لغيم يتشقق
تلفني أمي بحديقة من القرنفل، وتهمس:
لا تخف .. إنه الرعد يا ولدي
وكلَّ صبح تُشيد من الحطب المبلول نارنا الصغيرة.
رعدٌ، تقول أمي
فيملأ أبي الوهادَ بقمح من راحتيه الضارعتين
... ... ... ...
كان أبي يُكدِّس الطحين في مخابئ البيت
يرى السؤال المطل في عيوننا
فيقول :
لعلها الحرب تندلع.
ونضحك لأن الأفق المكتظ بالرعد
لا يشي بدم جديد
ولأن ..
لا رايات في البحر تخدش صمته السماوي .
... ... ... ...
كم كانت حربك نبيلةً يا أبي
وكم كان نبياً حدسُك البدوي
وأنت تبني من أكياس الدقيق متراسنا.
دم يابس على أطراف أصابعك
وغزاةٌ من خلف البحر مروا بقمح الكهوف كالجراد
فأي متراس يحميني من وابل الذكريات
وقومي هم الغزاة يا أبي.
قلت لي، وأنت تُحدق في الكتاب بين يدي:
تعلم لغة العدو لتنجو ..
ولم تعلمني كيف أنجو حين يكون العدو أخي.
... ... ... ...
على مرمى قذيفة من ساعة الحائط
أجمع شظايا أبنائي من أفق يتشقق
وكلما دوّى قصف في الجبال
أقول لهم إنه الرعد
ولكن كيف لوهمي أن يصمد
وهم يعرفون هوية الانفجار من نبرته.
... ... ... ...
كم هدهدني الرعد الحنون
وكم بلل المطر أهداب أبي
كأن العمرَ دهرٌ
وكأن الدمَ النازفَ في وطني شفقٌ جريح.
... ... ... ...
عذراً أولادي ..
لم أجمع الدقيق من رفوف الغيم
ولم أعلّمكم كيف تنحنون لتمر الرصاصة فوق رؤوسكم
لأن الحرب كانت أسطورة أبي
ولأنني كنت أضحك حين يقول : لعل حرباً تندلع.
... ... ... ...
أحدق في بحر يتلو أمواجه على مسمع الحجر
لا أشرعةَ في الأفق أو شهقة مدفع
لكن لا أحد أخبرني
أن الراية التي وقفتُ لها يوماً خاشعاً ستقصفني
وأن حضن أمي ما عاد هنا ليهمس لي
نم قريراً .. محض رعد يا ولدي.
... ... ... ...
المقتول أخي والقاتل
وهذا الرأس الملفوف بالقصدير
كأني شربت معه القهوة ذات صباح
والأطراف المبتورة تمشي كلَّ ليلٍ،
في كوابيسي، إلى قبورها الصغيرة
... ... ... ...
عذراً أولادي
علّمتكم كيف تنصتون إلى الموسيقى
كيف تغازلون الجميلات بشِعر كأنه الندى
كيف توقدون النار في الحطب المبلول
وكيف تمشون على رؤوس أمشاطكم كي لا تعكروا قيلولة الجار
ولم أعلّمكم لغة الزناد
ولا كيف تبنون متراساً من الطحين.
... ... ... ...
حدثتكم عن مزمار الوادي
عن الحب الذي ينمو على ضفة البئر
وعن طبول الرعد في الليل الطويل
لكني لم أخبركم بوسواس أبي القديم
ذاك الرجل النحيل الذي عبر وحيداً حروب هذه الأرض
كلما قال حربٌ ضحكنا
وكلما دخل بكيس طحين قلنا
يا لذاكرة أبي المكتظة بالكوابيس.
... ... ... ...
ذاكرتي ملساء كأنها البياض
فمن أين جاءت كل هذه الرؤوس المقطوعة
إلى ذاكرة نقالاتكم
وكيف تمزقت ألوان العلم على أعناقكم
ولم يبقَ منها سوى الأحمر
عذراً أبنائي
لم آخذ أسطورة أبي على محمل الجد
ولم أقل لكم حين هز القصفُ أركانَ البيت
إنه الرعد ..
لأن المطر المعدني أغشى عيون حدسي.
ولأن أبي الذي رأى الغزاة يهبطون من السفن
لم يخبرني أن الغزاة قد يهبطون من دمي...
... ... ... ...
هل قلت وطني..؟
هل حدثتكم عن الوطن ..؟
أوه .. كم حدثتكم عن الوطن القادم أيام كنا نلتقي!
وكم علّمتكم رسمَه في كراسة الواجب
انسوا كل هرطقات المدارس عن الوطن،
وانصتوا من جديد لدبيب الأرض في دمكم.
... ... ... ...
حين يقول لكم الجار صباح الخير
حين تمشون في الأرض مرحاً
حين تسكرون بعطر الشيح في المساء الخريفي
حين تخيّمون مع الرفاق في سكينة الغابة
ولا يتبعكم الخوف كالظل
حين تضحكون من أب يكدس الطحين في زوايا البيت
حين تنتظرون الحبيبة في الشرفة المطلة على الدرب الحجري
ذاك هو الوطن الذي لم نقابله بعد
فامسحوا الخارطة من كراساتكم القديمة
وارسموا الوطن بيتاً
يحده من الشمال حب
من الجنوب وتر
من الشرق بخور ومن الغرب شفق ..
... ... ... ...
ارسموه ضحكةً في أطلس الروح
واغفروا لي كلَّ وهم دسستُه في عيونكم
واغفروا لي أني لم أصدق في غمرة الوهم حدسَ أبي
ولم آخذ كوابيسه على محمل الجد.
[سالم العوكلي شاعر ليبي متعدد الكتابات. يكتب الشعر والمسرح والنقد والرواية. انقر/ي هنا لمزيد من المعلومات عنه.]