17 اُذْكُرْ مَا فَعَلهُ بِكَ عَمَالِيقُ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ خُرُوجِكَ
مِنْ مِصْرَ. 18 كَيْفَ لاقَاكَ فِي الطَّرِيقِ وَقَطَعَ مِنْ مُؤَخَّرِكَ
كُل المُسْتَضْعِفِينَ وَرَاءَكَ وَأَنْتَ كَلِيلٌ وَمُتْعَبٌ وَلمْ يَخَفِ
اللهَ. 19 فَمَتَى أَرَاحَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ مِنْ جَمِيعِ أَعْدَائِكَ
حَوْلكَ فِي الأَرْضِ التِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيباً
لِتَمْتَلِكَهَا تَمْحُو ذِكْرَ عَمَالِيقَ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ. لا تَنْسَ.
سفر التثنية – الأصحاح 25: 17ـ19.
خلافاً لداعش، لم تلتفت الدولة الإسلامية التاريخية منذ الخلفاء الراشدين وإلى أن ألغى مصطفى كمال أتاتورك مؤسسة الخلافة عام 1924، إلى ضرورة هدم وتفجير أطلال الممالك والحضارات البائدة. فليس العمل بالمعاول على مثل هذه المعالم وتوثيقه بتفاصيله الصغيرة إلا إختراع براءته كلها لداعش ليشكّل بذلك جزءا لا يتجزأ من إرهابها. لقد تجاهلت الدولة الإسلامية خلال تاريخها الممتد على مدى ألف وأربعمائة سنة مثل هذه الخرائب كما لو كانت حجارة لا تضر ولا تنفع ولا ترتقي إلى مستوى أصنام تمثّل آلهة ما يمكنها أن تهدد تسامي ووحدانية الله الواحد الأحد.
إلاّ أنه يلزمنا الاستدراك هنا لنضيف التشكك التالي: إذا ما كانت أي دولة من دول القدماء قد أقدمت قبل عصرنا هذا على هدم خرائب بلد ما بعدما هلك أهله وتبعثروا، كمثل أطلال مدينة تدمر أو نينوى، ما كانت عيون القدماء قد ذرفت دموعاً بمثل غزارة دموعنا التي تبكي تخريب أطلال العراق وسوريا في يومنا هذا. لقد بكى القدماء الأطلال ولكنهم لم يبكوا خرائب الأطلال أو مسحها. ففي الحقيقة، يصيب سهم الهدم الممنهج الذي تقترفه داعش للمعالم الأثرية وللمتاحف في سوريا والعراق عمق الحساسية الحداثية المؤسسَة على مفهومي الإنسانوية والقومية الحداثيين والوحدة القائمة بينهما. فما كان أحد ليهتم بأمر هدم حجارة ملقاة إلى جانب درب التاريخ، وبأمر توثيق هذا الهدم بمنفعية متكاملة من أجل تحصيل أقصى شعور بالإرهاب عند العدو، كفعل داعش اليوم، لو أن الأنسانوية والقومية الحداثييتين، أي أعداء داعش، لم تكونا قد أحيتا فعلا هذه الحجارة وحوّلتاها إلى أصنام مؤلهة.
عرّفت منظمة اليونسكو جرائم داعش الأخيرة بحق أطلال تدمر كجرائم ضد الإنسانية. حرب داعش على الذاكرة الأركيولوجية الحداثية هي فعلا جريمة ضد الإنسانية. لكنه يحق لنا التساؤل هنا عن المقصود بمفهوم الإنسانية المنطوي تحت التعبير "جرائم ضد الإنسانية". يمكن القول، بشكل أساسي، بأن منظمة اليونسكو هي منظمة ما بعد كولونيالية، وأن مفهوم الإنسانية الذي تستخدمه هنا عبارة عن منتوج لهذه المنظومة المابعد كولونيالية وباختصار، يمثّلُ مفهوم الإنسانية هذا وحدةَ الروح الهيغيلي الذي جعل من الغرب الحديث مسكنه الأخير وذلك بعدما جاب العالم وترك وراءه آثاره المتمثلة بمعالم "التراث العالمي". كانت هذه المعالم في العهد الكولونيالي بمثابة ‘أملاك منقولة‘ تبعت الروح الهيغيلي إلى أوروبا وإلى متاحفها. أما في العهد المابعد كولونيالي فقد تحولت إلى ‘أملاك غير منقولة‘ وظلت رابضة مكانها وذلك ما دامت الدولة القومية المابعد كولونيالية قادرة على تأهيل هذه الأطلال للاحتفاء والاحتفال بها من خلال طقوس الدولة القومية الحديثة.
وأيضا، نجد مفهوم الإنسانية المستخدم لوصف فظائع إرهاب داعش في التعبير "جرائم ضد الإنسانية" مجبولا بحسب نفس الإبستيمة الهيغيلية والمابعد كولونولية حين يتم وصف ضحايا آلة الموت والعبودية الداعشية كــ "أقليات". وهنا أيضا، يحق لنا التساؤل عن أسباب توظيف الإصطلاح "أقليات" بدل تعابير مثل أفراد و/أو مواطنين. يخفض مفهوم "الأقليات" الكرامةَ الإنسانية لهؤلاء الأفراد لمستوى "التدين" أو "الإثنية". يصبح هؤلاء جزءا من أقليات دينية (طوائف) وإثنية أبدية تنتظر الحصول على حماية من دستور الدولة الما بعد كولونيالية الذي تُعرَّف علمانيته، عمليا على الأقل، بحسب كونها حماية حقوق الأقليات. تعيد الدولة القومية الما بعد كولونيالية صناعة الإنسانية من خلال حفاظها على مركبات الفسيفساء الإنسانية، التي تُستنبط منظومة أخلاقها من مفهوم جمالياتها، ليصبح مواطنوها جزءا من متحف حي نابض.
وإلى جانب استهداف المواقع الأثرية والأقليات، نستذكر أيضا مثال إحراق الدواعش العلمَ الفلسطيني في مخيم اليرموك أوائل عام 2015. من السخرية أن كون سيادة الدولة الفلسطينية المابعد كولونيالية ليست حقيقة ناجزة في الواقع الهيجيلي قد منع أولئك الذين انصبت دموعهم أنهارا تبكي حجارة المعابد القديمة ورقيق الأقليات من البكاء على حرق العلم الفلسطيني. إذ إن غياب إجماع بين أمم إنسانية ما بعد الحرب العالمية الثانية بخصوص وجود معقول (هيغيلي) للدولة الفلسطينية يمنع هذه الأممية الإنسانية من أن تبكي حرق العلم الفلسطيني وأن ترثي في الوقت ذاته ذاك التراث النضالي الذي اتخذ من العلم الفلسطيني رمزا له خلال كفاحه من أجل تحقيق حرية إنسانية كونية.
لقد تحول قماش العلم وأجساد الضحايا وحجارة الأطلال اليوم إلى مواضيع يقع عليها عنف مضاد، أو عمل ضد-تنويري. يمحو هذا العنف المضاد بنجاح ذاكرة الأطلال التي حفرتها أزاميل إنسانية مابعد الحرب العالمية الثانية وتوأمها، الدولة القومية المابعد كولونيالية، على جلود هذه المواضيع الثلاثة.
للتدقيق، حرب داعش على دكتاتورية الدولة المابعد كولونيالية هي بالفعل عبارة عن عنف مضاد إلّا أن هدف هذا العنف ليس الحرية كحرية أو التعددية كتعددية. يسعى هذا الإفناء الدموي للذاكرة المابعد كولونيالية إلى القضاء على تلك "الحرية" و"التعددية" المنظمة داخل سلم تراتبي تاريخي مرتبط بالنظام العالمي الحالي. لهذا فإن الاسم الصحيح لموضوع هذا العنف المضاد هو ذاكرة الحداثة. وبذلك فإن هذا الإفناء إستراتيجي بألف ولام العهد. ذلك لأن عين هذه الذاكرة هو كونها الأكسجين الذي تتنفسه الحداثة لأن أناها تعتمد آخروية تاريخية. إذ تحصل آخروية الآخر التاريخي على شرعيتها الأخلاقية والسياسية عندما يرتبط وجودها الإبستمولوجي بوعي ذاتي لا يفتأ يؤكد ذاته. إن موضوعية الآخر التاريخي، كمثال الآخر المابعد كولونيالي، عبارة عن متحف حي يعتمد على حيوية لاوعي لانهائي حاضر مستعد دائما لتحويل المنسي إلى ذاكرة مُمَكِّنة.
من غير الممكن فصل الحداثة عن ذاكرتها لأن مثل هذا الفصل يعني فناء الحداثة. إذ يحكم منطقُ الإستيطيقا الحداثية الحياةَ المشتركة بين الأنا والآخر بحسب كونها علاقة بين الحاضر والماضي. فإذا ما نظرنا إلى الحداثة من وجهة نظر مفهوم النسخ الهيغلي أو من وجهة نظر مفهوم التعلية الفرويدي، نجدها تعد الأنا والآخر بالحياة المشتركة وبالتسامح. تحقق الحداثة هذا الوعد بالاعتماد على قدرة الماضي على ترتيب وإعادة ترتيب الفضاء الحداثي. تخزّن الحداثة الماضي اللانهائي بصفته ذاكرة بالقوة. يتحول اللاوعي إلى مؤسسة تَعِد الحاضر بالذاكرة اعتمادا على فكرة النسيان نفسها. يعدنا اللاوعي الحداثي بألّا يضيع المكبوت أبدا وأن يجد الماضي طريقه إلى السطح دائما حتى لو عبّر عن نفسه على شاكلة صرخة أو خطيئة أو شر. تعدنا الحداثة بإعادة إصلاح الأطلال، إن كانت حجارة وإن كانت مشاعراً، وتحويلها إلى ذاكرة ذات وجهة نظر ثابتة الصحة وصاحبة سرد متماسك خال من التناقضات.
داعش كمثال: هذه هي الوظيفة التي يؤديها داعش في خضم هذا العرض النقدي. داعش مثال على "نقد" دموي مضاد للحداثة ولإستطيقيا ذاكرتها. هذا النقد الدموي المرعب داخلي للحداثة. يخطئ من يحسب الإرهاب الداعشي نوعا مما يسمى العنف الديني. إن داعش واستهدافها الاستراتيجي لمؤسسة الذاكرة الحداثية ليست إلا حالة من حالات الحداثة. ذلك لأن عملية استحضار الذاكرة (ذاكرة الخلافة الإسلامية) جزء لا يتجزأ من وجودها. إلا أن داعش حالة خاصة جدا تفقد فيها الذاكرة حيويتها وديناميتها. فخلافا للإنسان الحداثي العلماني المتوسط، الذي صار يجدّد ذاكرته بنوع من العنف المألوف على هامش حياته اليومية، يهدف داعش إلى إحياء ذاكرته (للخلافة الإسلامية) كصورة جامدة ثابتة بدون وسيط وبدون موضعة الذات وبدون المرآة، وباختصار بدون الآخر.
في زمننا، زمن النهايات، ربما تستشرف الظاهرة الداعشية نهاية العالم المابعد كولونيالي. من السخرية أن نجد بأن بدايات هذا العالم حبلى بمثل هذه النهاية. من خلال تقديمه لكتاب فرانس فانون المعذبون في الأرض، نصّب وقتها جان بول سارتر نفسه ضميراً للوعي الاستعماري ليعلن بطلان قوانين الدياليكتيك على أراض المستعمرات واحتكامها لقانون ضد-الدياليكتيك. وبغياب المصالحة بين المُسْتَعمِر والمستعمَر على أرض المستعمرة يفنى في خضم العنف التطهيري (فانون) وجه من وجوه الآخر على أمل أن يطل وعي وطني تحرري من اللاوعي الذي كبته الاستعمار.
على أي حال، يسعى استعراض هذا النقد إلى إثارة السؤال عن فكرة ذاكرة الحداثة نفسها. يشرح لنا كل من هيغل ونيتشه وفرويد عن الكيفية التي تتذكر بها الحداثة. ويحاول كل من لويث وبلومينبيرغ أن يشرحوا لماذا تتذكر الحداثة. إلا أن السؤال عن الكيف والسؤال عن اللماذا يفترضان وجود الذاكرة المسبق. إلا أننا نتساءل هنا عن مسألة وجود ذاكرة الحداثة نفسها. فهل يمكننا، اليوم، أن نحيا بدون ذاكرة وبدون لاوعي وبدون آخر تاريخي؟ بلا جواب، يفتح هذا السؤال أمام وعينا الحاضر هوة سحيقة بلا قرار. بلا جواب، يبقينا السؤال عالقين عند المفارقة وهي عين المفارقة الكامنة في الأمر الإلهي الذي اقتبسناه في البداية أعلاه والموجّه لمن جلس واستراح وحيداً بلا آخر في الأرض الموعودة: تذكّر أن تنسى، أو بكلمات أخرى، اذكر ولا تنس بأن تمحي ذاك الآخر من الذاكرة.