كشَفتْ ما يقال له "أزمة النفايات" ـ ربما من حيث لم يكن متوقعاً ـ معانٍ ومستويات من أحوالنا هنا في لبنان، وأيضاً بما يخص أماكن أخرى من المنطقة العربية. كان تراكم الزبالة في شوارع العاصمة خصوصاً، ووصول أحجامها علواً واتساعاً إلى حدود أثارت حتى المخيلة الروائية لبعض الكتّاب، يوحي بمدينة منكوبة، بينما كانت الحياة العادية مستمرة. وفي هذا تناقض أول صادم. وهو يستدعي الانتباه إلى خاصية متكررة وملفتة في المجتمع اللبناني على اختلاف فئاته، هي الاستعداد للتأقلم والقدرة عليه، من المهم إدراكها والتوجه لتحليلها، وهذا ممكن، فهي ليست معطى ميتافيزيقي أو جوهراني... يتدبر الناس أحوالهم، مضيفين معطى جبال الزبالة إلى سلوكهم، متأقلمين الى حد بعيد مع ما يقع عليهم.
دلالات الصمت الرسمي
ولكن الصدمة الكبيرة الثانية كانت في تركها تتراكم على هذه الشاكلة، من غير أن يحيط بها خطاب من السلطات يتعاطى مع الحدث، يشرحه أو يبرره، ويقول تصورات عن حلول له، حتى وإن تكن كاذبة أو شكلية. بين 17 تموز و22 آب، موعد أول تظاهرة من "طلعت ريحتكم"، مرّ أكثر من شهر، لا تجد فيه أثراً لحضور السلطة، اللهم إلا عند اتخاذها قرارا تقنياً برش الكلس فوق الأكوام المتراكمة، تخفيفاً من أثر الروائح والذباب والقوارض، في عز الصيف اللاهب. ما معنى هذا "الصمت" بعد تلك الاستقالة عن إدارة شأن عام "فاضح" مثلما هو ملف النفايات. فالشؤون العامة الأخرى الأعقد، كالتعليم والصحة وسواهما من الحقوق، متروكة من زمن بعيد، إذ ترجع آخر محاولة للتعاطي معها إلى أجواء سادت في زمن الشهابية الخاطف.
وصول التخلي إلى الزبالة تحديداً له دلالاته المادية والرمزية في آن. فهي شأن يومي وشامل لكل الناس، فقراءهم وإنما أغنياءهم، الذين، وإن ابتعدتْ الأكوام عن أحيائهم وأماكن سكناهم، إلا أنهم مضطرون لرؤيتها ولا سبيل لهم للانعزال التام عنها، كما يحدث لهم "حياتياً" في ملفات التعليم والصحة والسكن والمياه الملوثة والطعام الفاسد والضمانات الاجتماعية الخ... وهي تعني رمزياً ــ بما هي نفايات وأوساخ ــ أن أحوالنا وصلت إلى حد مهول من الادقاع والرثاثة.
تعري البنية ووسائل اشتغالها
وفعلا، يبدو أن النظام اللبناني اليوم وصل إلى مقدار من تعري بنيته ووسائل اشتغالها مهولة. ليس في هذا التأكيد رغبة بالإدانة أو الشتم. اليوم، كل مؤسسات النظام معطَّلة، والمقصود آلياته هي نفسها، وليس فحسب أنه قاصر أو فاشل بنظر معارضيه. الأمر يتعدى توصيف "المأزوم" أو المولِّد للازمات المعهودَين. المظاهر السياسية والدستورية المباشِرة للحالة معروفة: لا رئيس جمهورية، مجلس نواب ممدِّد لنفسه وحكومة لا تجتمع إلا لماماً ولا تتخذ قرارات تقريبا، ولا تتمكن من إدارة شيء، وإطار هو "الحوار الوطني" بكافة نسخه، تحوّل إلى لجنة ارتباط. أما المظاهر والمكامن غير المباشرة فأفدح. النظام اليوم يقدم نفسه كهيكل عظمي، ويتوافق الجميع على القول أن التسوية التي يستمد منها تجديد شرعيته، أي "اتفاق الطائف"، والتي أعلنت رسمياً انتهاء الحرب الأهلية، ماتت، بالتجاوز وبعدم التطبيق وبكونها كانت في الأصل "مؤقتة" وليس "تاريخية" كما كان مثلا "الميثاق الوطني" الذي أسس الجمهورية اللبنانية. فعناصر الصفقة/التسوية في هذا الميثاق التأسيسي للبنان مركَّبة مهما حاولنا تبسيطها، وهي تجمع إلى الاتفاق السياسي أبعادا اقتصادية واجتماعية أكيدة. الميثاق ذاك كان صياغة لتصور عن لبنان، عن توازناته القابلة للاشتِغال، عن كيفية إدارة حركتي السلطة والثروة، في مستوياتها العليا والدنيا، وعن انسجام الحركتين. الميثاق أنتج إذاً "نظاماً".
هناك أسئلة تنسل من هذه الملاحظة، وهي تبدو للوهلة الأولى مجردة ونظرية، من قبيل: هل ما زال توصيف "الإقطاع السياسي" في تعريف النظام اللبناني قائماً أو صائباً؟ وذلك ليس فحسب باعتبار "التجديد" الذي أصاب ممثلي هذا التوصيف، والذي يتجاوز ذاك الجيلي ليطال المنبت الاجتماعي للحكام الحاليين، وكذلك عمق صلتهم بالمجتمع، حتى لو كانت صلة استغلالية. يجب النقاش في هذا الجانب. ومن المهم رصد ما يعني على سبيل المثال أن يحل نبيه بري، زعيم حركة "المحرومين"، محل الإقطاعييَّن (بالمعنى الكلاسيكي) كامل الأسعد وصبري حمادة وأبناؤهما ومن على شاكلتهما، وحتى أن يخْلف رفيق الحريري آل الصلح وكرامي، وهو الذي يجسد success story على الطريقة الأمريكية باعتباره أصبح رجل أعمال فاحش الثراء، ليس بسبب استغلاله لإفريقيا مثلا (كما عدة مليونيرات من اللبنانيين المهاجرين) بل بفضل علاقته بالسعودية (وهو يحمل أيضا جنسيتها)، آتياً من وسط متواضع طبقياً، ومنتمياً لصفوف "حركة القوميين العرب" في شبابه.. وما هي سمات تجدد النخبة المارونية؟ الخ.. وهذه ملاحظات تطال ليس فحسب "الرؤوس" بل كل تركيبة المجلس النيابي والحكومات المتوالية. فما هو العامل الفعال في التغيير اللاحق بكل واحدة من هذه الفئات، وماذا يقول؟ وهذه الأسئلة والملاحظات لا يحركها بالطبع التحسر على أفول البكوات وأبناء "عَليّة القوم"، بل لأن الإجابات المحتملة عليها يمكن أن توضّح التغييرات اللاحقة بالبلد، ليس كبنية فحسب، وإنما أيضا كدَور، وهما في الحالة اللبنانية متداخلان.
مسألة "دور" لبنان تكوينية له
وبخصوص "الدور" تحديداً، فللبنان خاصية شبه فريدة في العالم (هذا سيسعد الفينيقيين!) وهي التطابق الذي يكاد يكون محْكماً بين الكيانية والوظيفة. ليس لكل الكيانات وظيفة، بل هي "توجد" وحسب، في حدودها الثابتة أو المعدلة، ويمكن أن تُدمّر وتزول، أو تنقسم إلى أكثر من كيان... أما لبنان، فالميثاق (ها قد عدنا إليه!) المؤسِّس له هو بالواقع اتفاقية عقلانية أولاً، وشبه صريحة ثانياً، قامت بين أبرز مكوناته حينذاك، ومعها الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة (حينذاك أيضاً). وباختصار شديد، وليس كاستطراد، إنما لإدراك عمق المشكل الحالي، فقد أضيف إلى الوضع الخاص الذي كان يتمتع به "جبل لبنان" في آخر العهد العثماني، بحماية القناصل الأوروبيين، وكإنضاج لفكرة "لبنان الكبير" بعد ذلك، تصوّر عن لبنان المستقل يقوم على توازن جناحيه المسلم والمسيحي بمقابل توازن علاقات هذين الجناحين مع الداخل العربي والغرب ممثلا حينها بأوروبا. ولم يكن في ذلك أي غصْب أو افتعال. فالغرب حاضر في جبل لبنان المسيحي منذ القرن السادس عشر (مدارس وإرساليات وتبادل تجاري الخ)، والمسلمون السنّة كانوا جزء من السلطنة العثمانية وأعيانهم أعيان فيها، وعلاقاتهم التجارية والعائلية مع الداخل العربي وطيدة... وهكذا تبلور تصور للبلد ركِّب فيه انسجام توزيع السلطة وتوزيع الثروة، وهو تصور مأزوم بشكل دائم ومستنفر، لأن الكثير من العناصر والتطورات الطارئة يمكنها أن تهزه، أو تتدخل فيه، وتفرض تعديله او تطمح الى ذلك، وليست "القدسية" التي طويلا ما أحاطت بالميثاق إلا تعبير عن.. تلك الهشاشة.
أخطأ الأمريكان حين ظنوا أن النظام اللبناني مجرد محاصصة مذهبية و"ديمقراطية مكونات" كما اسموا ذلك في العراق الذي استلهموا أو استعاروا له النظام اللبناني. لم يفهموا الدينامية الخاصة به والتي لا تصح في أماكن أخرى حيث تصبح مجرد مقايضة مبتذلة. العلاقات بين جناحي الميثاق لم تكن معنوية فحسب، بل مادية سياسية واقتصادية، وكلا الطرفان الخارجيان (الداخل العربي وأوروبا) كانا بحاجة إلى هذا الدور اللبناني. وكان شرطه هو ما سمي أحيانا "الحيادية" حتى لا يختل التوازن بينهما. وهو ما كاد يحصل حين استدعى كميل شمعون (رئيس الجمهورية بين 1952 و1958) الأسطول الامريكي السادس وأراد الالتحاق بحلف بغداد، وحين قامت بالمقابل الوحدة المصرية ـ السورية. وعلينا أن نتذكر أن وجود قطب هو عبد الناصر حينذاك سمح بدون كلفة عالية بتجديد التسوية/الصفقة بعد الحرب الأهلية القصيرة في 1958 (ستة أشهر) التي أدت إليها هذه الاختلالات.
استمرت التسوية /الصفقة فاعلة، مجدِّدة لوظائفها، 1- كوسيط تجاري فعال وقدير بين الداخل العربي وأوروبا، و2- كمأوى لرؤوس الأموال الهاربة من الانقلابات والتأميمات، و3- كواحة للدراسة والطبابة جيدي المستوى، وللنشر (كان في لبنان قبل 1975 اي اندلاع الحرب الأهلية 82 داراً تطبع وتنشر وتبيع الكتب للمنطقة، والعراق خصوصا والجزائر كانا سوق القراء الأكبر..)، وأيضا 4- كملجأ للمعارضين من مشارب مختلفة وحتى متناحرة الخ.. و5- كمكان جميل للسياحة وسواها من ترفيه.. (و"الحرية" في لبنان هي صانع وصنيعة كل هذا أيضا).
الاضطراب في المنطقة آنذاك لم يُلغِ لبنان، فقد كان رغم كل شيء اضطرابا "مضبوطاً"، أي معلوم القواعد. بينما عَنتْ الحرب الأهلية 1975-1990 أن هذا التوازن العام كله قد طويت صفحته. صحيح أنه كان في لبنان مشكل الوجود الكبير والمسلح لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأن ذلك كان لوحده اختلالا كبير في الصيغة الأصلية المتفق عليها، وكان ينبغي حسمه وتأطيره لأسباب تخص الحاجة لإدارة المسألة الفلسطينية بالأساس، ولكن ترك تلك الحرب تطول لمدة 15 سنة، كان يعني أيضاً أن لبنان لم يعد "ضروريا" للمنطقة التي تغيرت كثيرا، وأن الغرب لم يعد أوروبا بالأساس، كما أن الحرب الأهلية حفزت بدائل لتلك الوظائف اللبنانية (من البورصة وعالم المال الى الاستشفاء الى التعليم الى التجارة الخ..) ظهرت في أكثر من بلد، بالمقدار الذي كان ضرورياً له.
التصور الغائب عن الذات
استعادة الدور كانت مستحيلة، لأسباب موضوعية وذاتية معاً. والمشكل أن لبنان لم يتمكن من تخطي عتبة الهدنة التي مثّلها اتفاق الطائف، إلى مرحلة ابتداع تصور عن ذاته جديد أو مُجدَّد، يكون قاعدة للتسوية السياسية الداخلية. لهذا العجز أو الاستنكاف أسباب عديدة بعضها قاهر ولا يتعلق بالإرادة، بمعنى أنه غير قابل للتجاوز، حاليا على الأقل. ولكن هذا لا يمنع أنه لم يُلحظ توفر نخبة، لا فردية ولا كشريحة، اقترحت تصورا لكيفية توفير الناس لمعيشتهم في بلد لا إمكانات صناعية ولا زراعية جدية فيهما، والتجارة التوسطية العالمية تغيرت أصلا شروطها، وبالطبع لا بترول. بلد صغير يبدو وكأنه يعود إلى عصر القحط والهجرة المكثفة لأبنائه لالتقاط رزقهم في أرض الله الواسعة. في مثل هذه الشروط تتعطل ميكانيزمات توزيع السلطة المرتبطة بتوزيع الثروة وتداولها، وتبدو طائفية البنية جرداء من كل غطاء، بدائية وجلفة، ما يسمح لنقاشات من قبيل أن الوزيرين المشنوقَين (الداخلية والبيئة) هما ممثلا السنة، هكذا، بلا أي مصدات، ولا مكياج. هذه حالة رثة من الطائفية نفسها.
التخلع الحالي، أو ما أسميته انمحاء النظام، ليس إذاً وحسب من نتاج الحرب الأهلية اللبنانية المديدة، كما يقال تهويناً. نحن لسنا نمسح آثارها فحسب. الأمر أعمق واشمل من ذلك، وهو لا يخص لبنان بذاته، ووحده. بالطبع، عاش لبنان طويلا على الدعم المالي الخارجي، على شكل مساعدات وهبات وقروض وديون. ولكن ليس فحسب، وإنما أيضا وربما مع ذلك وبعده، على "تدوير إدارة رأس المال المالي"، وهو بعبارة أخرى تنظيم النهب والفساد.
افتح مزدوجين لأقول أن رفيق الحريري كان لديه تصوّر عن لبنان، أو عن استعادة دور لبنان، قام على فرضية أن هناك "سلام شامل" مع اسرائيل قادم على المنطقة. وهذا أوحى به مؤتمر مدريد (تشرين الثاني 1991) بعد الحرب العالمية الأولى على العراق. ولا يمكن فهم وجهة إعادة الاعمار التي مارسها الحريري إلا من خلال ذلك التصور الذي كان يخطِّط، عبر التركيز على بيروت الصغرى وإنشاء الداون تاون في قلبها، وعبر الاوتوسترادات الدولية.. ل"ازدهار" على طريقة الخمسينات (بعد نكبة فلسطين أيضا). لم يأت السلام بالطبع، فظلت الاوتوسترادات غير منتهية، لا توصل إلى "مكان"، وظهر أكثر الطابع ال"كيتش" للداون تاون باعتباره صار فارغاً تماما، وهو بالحقيقة لم يرتدي بزته أبداً.
الطبقة الوسطى
ليست "الطبقة الوسطى" مفهوماً بالدرجة الأولى، بل هي واقع اقتصادي واجتماعي. صحيح أن ما يساعد لبنان هو صغره، وما يسمح بتمويه الفقر المدقع الذي يعاني منه أبناؤه، والإيحاء ان الطبقة الوسطى ما زالت متسعة، هو مزيج من المركزية الشديدة للمسرح (بعض بيروت)، ووجود موارد اغتراب هائلة، وتقاليد مخبِّئة للفقر قائمة على المظهرية الاستهلاكية البدائية والأقل كلفة لجهة الرفاهية (ثياب، سيارات، مطاعم وأماكن سهر..)، ووجود أموال تُصرف على البلد من خارجه، منها المساعدات والقروض الممنوحة بسخاء اقليمي (يتقلص)، وعالمي (لا يمكن مقارنته مع القسوة التي عوملت بها اليونان مثلا)، ومنها أموال تصرف على نفوذ الأطراف الخارجية ومن أجله، وعلى الميليشيات.. وهناك فوق كل ذلك وبالتأكيد تقاليد في نمط العيش موروثة من العصر الذهبي له.
ولكن، وكما بصدد الحرب الأهلية التي وقعت، وسواها من الأحداث الجسام بعدها، وخصوصا المواجهات مع إسرائيل، فالمثل الفرنسي يقول أن "لكل امرئ عيوبُ حسناته"، أو ما نسميه شعبيا "الوجه الآخر للمرآة". فالمداخيل السابقة المعددة أعلاه كلها ليست نشاطا اقتصاديا أو إنتاجا، وهي، حتى لو توفرت أحياناً كموارد، سريعة العطب وعرضة لتقلبات الأهواء السياسية ولانحدار التوترات إلى مواجهات مكلفة، والى عقوبات اقتصادية من هذه الجهة أو تلك، أو التهديد بها..
تلخيص أو تحديد
... بعد جولة الأفق هذه، وبالعودة إلى تحركات الصيف ضد الزبالة، أصبح بإمكاني أن انتقل إلى ملاحظات أيسر، أهمها على الإطلاق:
• الشعور بأن خطراً يهدد أبناء الطبقة الوسطى ــ وهو شعور مُتَشارَك مع أبنائها في أنحاء أخرى في المنطقة ــ كان واحداً من سمات التحرك ومن محركاته. الزبالة في كل الأحياء، والتجاهل والإهمال من قبل السلطة، وعجزها عن إنتاج خطاب يقول أن ذلك عابر وأن له حلا عندها، كان شيئا مستفِزاً. الفقراء اعتادوا التجاهل والإهمال من السلطات، وانتقلوا من الشعور بالاستفزاز إلى الانغلاق واليأس أو الانفجارات الغاضبة بين حين وآخر. أما أبناء الطبقة الوسطى (الفعليين، أو الذين يفترضون أنفسهم كذلك، أو الذين يطمحون إلى ذلك وخصوصا بفضل التعليم واكتساب مهن وثقافة جدد بالمقارنة مع أهاليهم) فقد قاوموا. وهذه أول نقطة ايجابية، وهي لا تنفي أبداً البعد الفكري والثقافي لاتخاذ الموقف، أي لستُ بصدد قراءة "طبقية" بدائية.
• ثَبت أن هناك قطاع ليس بقليل من الشباب (ذكورا وإناثا) انفك فعليا عن الاستقطابات الطائفية القديمة وتلك المتجددة في كل آن وحدث. ما ظهر الصيف الماضي بالغ الأهمية والجدية، والأمر طبعا لا تصح مقارنته عدديا بالشباب المستقطبين في الطوائف وبمنْطِقها. فالديناميات التي تحكم كل فريق ليست واحدة، والشباب اللاطائفيين يمثلون كتلة بمعنى الفعالية العامة، العابرة للطوائف والمناطق وحتى للشرائح الاجتماعية. وطبعا هم أعادوا إيقاظ آمال الأكبر سناً، ممن كانوا مثلُهم، ثم يئسوا أو انزووا.
• وهؤلاء اللاطائفيين بدوا أيضا نقديين جدا حيال ما يقال له "النظام" في لبنان. وعلى الرغم من التحذير من "التسييس"، بحسب ما شاع، فقد استدرَجت مسألة الزبالة فورا مسائل من قبيل الفساد والمسئولية عنه وعن القمع. أي ما يتجاوز النقطة المحدَّدة الى.. السياسة! وشعار "إسقاط النظام" لم يكن سوى إعلان لهذا الانفكاك عنه. وطبعا النظام ليس الحكومة، والهلع من الفراغ الذي يمكن أن ينشأ ومن تكرار خراب البلد على الطريقة السورية الخ الخ.. مما ساد في النقاشات وحتى تمترست خلفه حجج المسئولين، يدل على سخافة أو سطحية في فهم الأشياء، ولكن وأيضاً، على مبلغ الرضّة او التروما التي تجتاح كل المنطقة بسبب الحالة المريعة القائمة فيها.
• ثبت أيضا أن هذا القطاع مودرن عصري وحداثي في اساليبه، يشبه ما يوازيه في العالم من occupy الى indignados، الى شباب ميدان التحرير في مصر الخ... وما تبادُل الرسائل والنصائح بين أناس لا يعرفون بعضهم شخصيا التي ازدهرت على وسائط التواصل الاجتماعي إلا دليل على ذلك.
• أما الشباب من أبناء الفقراء والعاطلين عن العمل الذين "اندسوا" في الحراك، فقد جاءوا لأسباب عديدة، منها أولا أن المشكل يعنيهم ويخاطبهم، ومنها قرب سكنهم من مركز الحراك بالنسبة لمعظمهم، ومنها أنه اتخذ طابعا عنيفا ومواجهات مع الشرطة بعد أول يوم بسبب مسلك هذه الأخيرة، بداية وقبل كل شيء. وهذا لا ينفي ان بعضهم قد يكون مكلّفاً من قوى متنفذة، ولكن هذا ينطبق أيضاً على من لا يوحي "شكله" بأنه مندس (أي ثيابه وهيئته وحركاته المغايرة للكتلة المبادِرة). والمندسون دائما موجودون في أي حراك، وافتراض غيابهم سذاجة. ولكن الصريخ والتهويل حول "المندسين" أو "الزعران"، جرى لأنهم مغايرون وقبل التحقق من شيء. وكان ذلك إعلان عن وجود "اندساس" اجتماعي أكثر منه أمني.
• اكتفت السلطة بخطاب يخص التظاهرات نفسها، أي تبرير القمع أو إدانة شغب المتظاهرين وتخريبهم (وطغى عليه فوق ذلك بُعد اخلاقي صفيق ومُهاتِر، من قبيل التركيز بتهويل على الاهانات والشتائم التي يتلقاها رجال الشرطة، وعلى المس ب"العرْض" الخ).
• ومن الملفت أن الوزراء قالوا أنهم يعتبرون المطالب محقة، وهذا منطق جديد هو الآخر، ومشهود في أكثر من مكان بعد 2011، حيث تتبنى السلطة الخطاب المقابل بينما تقوم بممارسة نقيضه.. إما لأنها لا تملك خطابا، أو لأنها لا تملك حلولا فتكذب، أو كخبرة متبادلة بين السلطات القائمة، بمعنى انه مَثَّل وسيلة الالتفاف الأساسية على تحركات 2011: تبنيها وتمجيدها ليسهل بعد ذلك خنقها..
• من الملفت تخبط السلطة على أكثر من صعيد، كاللجوء إلى القمع حيث لا يلزم، ثم الاعتذار عنه، ثم اللجوء إليه مجددا، ووضع الحائط الاسمنتي ثن نزعه بعد 24 ساعة وغير ذلك... وهنام من رأى في ذلك أو اعتبر بعضه تكتيكات لجذب المتظاهرين إلى العنف كرد فعل. ولكن كان هناك أيضا تخبطاً لجهة الأجهزة التي تتعاطى مع إدارة الأمر وسط الخواء السياسي التام، وقد قيل الكثير عن تضاربها وخلافاتها..
• من الملفت أن تكون السلطة في البداية افترضت إمكان توسيع الممارسة المحاصصتية شديدة الفساد، في محاولة تلزيم ست شركات بتدبر موضوع النفايات (عوضاً عن واحدة هي "سوكلين")، أي الإمعان في ما يُشتكى منه، حتى من دون التفطن إلى إنقاذ المظاهر. وفي هذا بلادة وفيه أيضا ألفة غير معقولة مع الفساد والنهب المكشوفان (والمفردتان هما لفعل واحد)، ما يعيدنا الى سؤال تعرّي النظامschématisation واشتغاله بالصورة الأكثر بدائية وأولية ومباشِرة.
وخارج لبنان
سأتلمسها بأكثر إيجاز ممكن:
• الظاهرة ليست لبنانية. أزعم أن 2011 حدثت لأن "تطوراً" لحق بالأنظمة القائمة في المنطقة (أو بمعظمها)، باتجاه اكتفائها بتصور محدود للغاية عن نفسها ووظيفتها، يَغيب عنه أي دور اجتماعي أو أي إدارة للعلاقة بالمجتمع خارج ثالوث النهب الاقتناصي (من نوع ال prédation)، والقمع، والإذلال. بمقارنة بين مبارك بعد عام 2000 ومبارك الذي سبقه، وحتى بالسادات الذي كان أبو الانفتاح واللبرلة، نجد ان مبارك الثاني يتلخّص في ترك العنان لابنيه ولرموز "لجنة السياسات" في الحزب الوطني، أو لما سمي "المستثمرون الجدد"، بحسب دراسات جدية طالتهم، ليقوموا بإنشاء ما يحلو لهم من شركات تختص بانها "خارجية" بالنسبة للنسيج الاجتماعي، وملتصقة بالمكان التصاقا وحسب، ما يقال له بالفرنسية "hors sol": القرية التكنولوجية في المعادي (في محاكاة رثة أيضاً لسيليكون فالي في الولايات المتحدة أو بنغالور في الهند) مقابل مصانع حلوان والمحلة الكبرى الناصرية، ومقابل إطلاق العنان للتجارة والأشغال في فترة السادات. هكذا نبتت صناعات محدودة وتحويلية، وغالبا في مناطق حرّة كانت تتوسع بلا توقف، off shore (لديها أيضا بُعد التهرب الضريبي)، وجرى الاستيلاء على الأراضي العامة بالسر أو بالاحتيال، وترك التعليم والصحة والنقل والعمران الخ.. بالكامل، أي ترك المجتمع يتدبر أمره، وأهملت كل المؤسسات العامة وتركت تتداعى.. تقلّص من لهم صلة بالعملية الإنتاجية وازداد جيش العاطلين عن العمل، والساكنين في أحياء يقال لها عشوائية، بلا بنى تحتية ولا خدمات، وبأبنية تنهار عند أول نسمة هواء.. يعني كارثة عامة تشاهَد بالعين المجردة. وفوقها كان مبارك يريد توريث ابنه!
ما العلاقة بين بورقيبة وبين بن علي؟ لا شيء! وحتى بشار الاسد اتجه إلى هذا المنحى، وصفّى كل ما كان قائما في عهد أبيه، ولم يتنبه للتعاطي مع انهيار الزراعة والرعي في كل مناطق الجزيرة، من الرقة إلى سواها، وتجاهل واستخف بالنزوح المكثف لأبنائها وتكدسهم في عشوائيات حول دمشق والمدن الكبرى. وفي بلد نفطي وغازي مثل الجزائر، تمكنت السلطات التي تتسم بهذا التطور نفسه، من تعويض الكارثة بقدر من
توزيع فتات الريع على الناس.
وبالمناسبة، الريع متعدد أصلا، ويظهر أحياناً على شكل وكالات تجارية حصرية مثلا وفي البلدان التي تمسك فيها السلطة بالاقتصاد. وهناك ريع أمني. والمصيبة أن هؤلاء الحكام لا يمتلكون تفسيرا أو خطاباً، بل يعملون مثل العصابة، بالسر. وهم أحاطوا أنفسهم برجال أعمال جدد، أو استولدوهم من صفوفهم، مستعجلين الربح الفوري الخاطف ومقتنصين لفرصه ("كواسر" كما اُسموا في نصوص سوسيولوجية).. رجال أعمال مبتذَلون ونهَّابون، وفي الوقت نفسه ممكن أن يتاجروا بالمخدرات مثلا. والسمة الأساسية لهم أنهم غير مستعدين لتوظيف أي استثمار في البلد من أي نوع، ينطبق عليهم مسلك "اضرب واهرب".
وهكذا وصل التهديد الى الطبقة الوسطى، وحتى الى الميسورين السابقين. التهديد الحياتي والمهني، وأيضا الشعور بالمهانة المستمرة وبالاستفزاز. لم يكن شعار "الكرامة" الذي اصطف إلى جانب "الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية"، صدفة أو إضافة لفظية. أبناء تلك الشرائح الاجتماعية هم الذين تظاهروا في ساحة التحرير بالقاهرة، واتى إليهم عمال "المحلة الكبرى" الذين خاضوا نضالات لإثبات ان لمعاملهم القدرة على الربحية وان تصفيتها بالشكل الذي كان يتم له علاقة بالمضاربة بالتجارة وبالأرض الخ.. في تونس كان تحرك روابط "الجامعيين العاطلين عن العمل" هو الشرارة، وبقي جسما أساسياً، وانضم إليهم أبناء المدن الداخلية، المهمشة والمنسية والبائسة، وعمال مصانع الفوسفات في الجنوب الذين خاضوا قبلها نضالات كبيرة لمقاومة ضرب عملهم لصالح هنا أيضا المضاربات من كل نوع، التجارية والتوسطية. الشيء الوحيد الذي جدده ووسعه مبارك الثاني كان جهاز "الأمن المركزي": ما يقرب من نصف مليون عسكري رواتبهم مضاعَفة عن سواهم، تدريبهم وتسليحهم "غير شكل"، ومتمركزين في القاهرة بالدرجة الأولى. طبعا لكل هذا مظاهر على مستوى الابتذال الفاقع، وأيضا على مستوى اتجاه الشباب اليائس إلى ما يسمى "التطرف الديني".. الواقع العملي للسلطات طبعا أعقد. وهذه مجرد محاولة لالتقاط طبيعة ووجهة التغير الحاصل، وهو يتعلق بالمجالات الثلاثة الرئيسية لفعل أي سلطة: العلاقة بالمجتمع، وبالاقتصاد، وبالعالم.
• النقطة الثانية تتعلق بالبعد العالمي لهذه الظاهرة. أي أنها لاقت وضعية ملائمة (مثل ما يقولون: العرض صادف الطلب)، وفي الوقت نفسه تغذّت تطورات بلداننا من هذه الوضعية العالمية. الاقتصاد العالمي بات طائراً، عماده رأس المال المالي المضارِب العابر للعالم، والذي يجيد التعامل مع فرص إعادة تدوير مصنع / ورشة هنا وهناك وخدمات الخ.. صناعة ثياب لشركات في جربة أو سوسة (ما لا يمنع السياحة زهيدة الثمن)، أو جزء من التلفون الذكي في قرية التكنولوجيا والاستثمارات في المعادي قرب المطار الدولي، وأشياء أخرى في المنطقة الحرة ببور سعيد أو الإسكندرية الخ.. وطبعا ما زالت بلداننا مكان فاتِح للشهية بسبب البترول والغاز ومعادن ثمينة أخرى أيضا، والتي علاوة على وظيفتها كسلعة عالمية (ريعية بالطبع) توفِّر عملة صعبة لتلك السلطات لشراء ما تريد من الغرب، للإنفاق الباهظ على شراء العقارات وعلى الاستهلاك، وبالأخص على شراء المعدات العسكرية. هنا يلتقي الأمر مع بعد آخر هو الاستفادة من النزاعات والحروب لبيع طائرات وحاملات طائرات وسفن وحتى غواصات لأناس لا يعرفون كيف يشغِّلونها ولا عندهم الطواقم ولا الكثافة البشرية التي تسمح باستخدامها، وهذا موضوع آخر، أو هو إضافي.. ومن أجل استمراره "كله بيهون": رئيس الوزراء الفرنسي، وبعد أيام قليلة على المأساة التي وقعت في باريس، حيث أقدم شبان "سلفيون" على القيام بعدة عمليات إرهابية، قال أن السعودية وقطر هما شريكا فرنسا والعالم في الحرب على الإرهاب! وفرنسا اعطط هذه الشهادة لزبائن كانوا بصدد شراء أسلحة كثيرة منها.. يعني حتى الدول "العظمى" تصبح رثة. طبعا يبقى حفْظ الدرجات.
وخلاصة: أوضاعنا في لبنان إذاً، "مودرن" تماماً، وتشبه هذا العالم!
• من نص محاضرة ألقيت ببيروت في برنامج "أشكال ألوان" 18-11-2015