أثناء التعليم السابق للجامعة في مصر، تُعرِّف مقررات اللغة العربية الطلابَ على نصوصٍ أدبية يزداد غنى شكلها وقيمتها الأدبية بالتدريج. وبينما تزداد جودة الأدب فيما يرتقي الطلاب في مراتب النظام التعليمي، هناك قاسم مشترك واحد في تعليم الأدب في مصر وهو أنه يخلو من أي شيء معاصر.
إن للاطلاع على الأدب، من خلال تدريسه وتدريس الكتابة الإبداعية، تأثيراً مباشراً في كيف يفكر الطلاب، ليس فقط حول الأدب بل حول موضوعات أخرى، كالتاريخ والعلوم الاجتماعية وهلمّجرا. وإذا كان الأدب الكلاسيكي هو كل ما يُدرَّس، هل يفقد الطلاب شيئاً ما؟ هل غياب الأدب المعاصر مقصود؟ قبل الإجابة على هذه الأسئلة، من الضروري إلقاء نظرة على النظام التعليمي المصري. يُقسم التعليم في مصر إلى ثلاث مراحل: ست سنوات من التعليم الابتدائي (تبدأ عادة في سن السادسة)، ثلاث سنوات من الدراسة الإعدادية، وثلاث سنوات من الدراسة الثانوية (وهناك الدراسة المهنية بعد المرحلة الإعدادية).
هيكلة التعليم من خلال النصوص الأدبية
في السنوات الأربع الأولى تحتوي مقررات اللغة العربية على مختارات من القصائد القصيرة ونصوص كتبها أساتذة جامعيون ومؤلفون يركزون على أدب الأطفال من مصر وبلدان عربية مثل سوريا وفلسطين والأردن. وتدور موضوعات هذه القصائد عادة حول حب المرء لأمته ولله. وتتضمن المقررات أيضاً نصوصاً تعرّف الطلاب على طرق لفهم محيطهم. وفي مراحل متقدمة من التعليم الابتدائي يتعرف الطلاب على نصوص لشعراء وكتاب مشهورين مثل مصطفى صادق الرافعي، وشاعر مصر الأبرز أحمد شوقي، ومحمود حسن اسماعيل. وتتركز موضوعات هذه النصوص أيضاً على القومية.
وبعد الدخول في الدراسة الإعدادية، تزداد كمية هذه النصوص لكن الرسالة تبقى نفسها.
يتم تعريف الطلاب على شكل القصة الطويلة من خلال قصص مثل تاريخ عقبة بن نافع، وهو قائد عسكري من العصر الإسلامي الأول في المنطقة العربية لتسليط الضوء على نهوض الدولة الإسلامية في القرن السابع، ومراجعة مصرية للتاريخ بعنوان “صراع الشعب المصري”، وكتاب تاريخي آخر يسرد حكاية شجرة الدر، المرأة التي حكمت مصر لفترة قصيرة في القرن الثالث عشر.
تظهر القطع الطويلة والنثر حين يتم تعريف الطلاب على منتخبات من نصوص لمصطفى لطفي المنفلوطي (1876 - 1924)، ونجيب محفوظ (1911-2006)، وعباس العقاد (1889 -1964)، وكتاب مترجم من الهندوسية عن الحيوانات بعنوان كليلة ودمنة.
إن الشعر في مقررات المدرسة الإعدادية يقدم عدداً أكبر من الشعراء البارزين بما فيه علي الجارم (1881- 1949)، إيليا أبو ماضي (1872- 1958)، ابراهيم طوقان (1905 - 1941)، وحافظ ابراهيم (1872- 1932). وتدور موضوعات هذه القصائد إلى حد كبير حول القومية وفضائل العمل والعلم والتواضع والصدق.
هناك قصيدة حول كرة القدم للشاعر العراقي معروف الرصافي. وأثناء الدراسة الثانوية يعاد الطلاب إلى الأدب العربي للعصر الجاهلي ويتبع ذلك نصوص من العصر الإسلامي الأول ثم أدب العصر الأموي، وينتهي هذا بنظرة عامة إلى أدب العصر العباسي. وتعد هذه المرحلة مهمة بما أنها تقدم الأدب والشعر العربي في أشكالهما الأنقى من ناحية البنية الكلاسيكية واللغة. وتقدم المقررات أيضاً قصة الشاعر والفارس الأكثر شهرة عنترة بن شداد الذي ينتمي إلى العصر الجاهلي.
وتحتوي مقررات السنة الثانية على نصوص من العصور التاريخية نفسها، بالإضافة إلى الأدب العربي في الأندلس، وتقدم شعراء بارزين مثل أبي تمام وأبي فراس الحمداني والمتنبي.
ويتعرف الطلاب في هذه السنة إلى شكل “جديد” من الشعر يُدْعى المقامة، والذي يظهرللمرة الأولى أثناء القرن العاشر. وهناك رواية للكاتب اليمني علي باكثير (1910- 1969) تروي الأعوام الأولى من حكم المماليك في مصر أثناء القرن الثالث عشر متضمنة أيضاً في مقررات السنة.
في العام الثالث والأخير، يتعلم الطلاب عن تطور الأدب العربي الحديث من النصف الأول من القرن العشرين. ويدرسون أيضاً سيرة ذاتية للمؤلف والمفكر المصري طه حسين (1889 - 1973). وتحتوي مقررات هذه الأعوام الأخيرة من التعليم الثانوي على القصيدة الوحيدة التي لها بنية غير كلاسيكية، وهي قصيدة للشاعر محمد ابراهيم أبو سنة (1973-)
لماذا الأدب المعاصر غائب؟
ونظراً لهيمنة الأشكال والأنواع والعصور الكلاسيكية في النصوص التي تُدرَّس في غرف الصف، فإن غياب الأدب المعاصر فاقعٌ في التعليم ما قبل الجامعي في مصر.
يقول أستاذ مناهج وطرق التدريس في جامعة عين شمس محمود الناقه، والذي هو مستشار وزارة التعليم حول مقررات اللغة العربية:”عموماً حين يتعلق الأمر باختيار النصوص الأدبية فإن التوجّه الأحدث هو ألا ترتبط بعصور أدبية أو أجناس معينة”. على أي حال، حين أثرنا السؤال حول سبب غياب الأدب المعاصر، قال الناقه:”ثمة حاجة لتمثيل عادل لدراسة تاريخ الأدب، وليس لدراسة النصوص”. وأضاف: “إن المؤلفين المشهورين لا يفضّلون الأدب المعاصر… فالبعض مثلاً يزدري الشعر المنثور”.
إن غياب الأدب المعاصر ليس المشكلة الوحيدة التي تواجه تعليم الطلاب الصغار الأعمال النثرية المشهورة. فالطلاب غالباً لا تُقدَّم لهم النصوص الأصلية لقطع أدبية مهمة كي يقرأوها، وبدلاً من ذلك يُعَلَّمُون تاريخ الأدب، وليس الأدب نفسه. وأضاف الناقه:” إن ما دمّر تعليم الأدب هو تعليم تاريخ الأدب بدلاً من الأدب نفسه”. وقال الشاعر والكاتب المشهور محمد خير إنه لا يصدق أن غياب الأدب المعاصر في التعليم ما قبل الجامعي قصدي، قال:”لا أعتقد أنه قصدي، بل هو ناجم أكثر عن انفصال مسؤولي التعليم، وخاصة على مستوى التعليم الابتدائي، عن المشهد الأدبي، وحركته وقضاياه”.
قارن خير المسألة بانفصال النظام في قضايا جوهرية أخرى كالعلم قائلاً:”إن النظام التعليمي منفصل بعامة عن العالم المعاصر. أين يقف حيال العلوم الحديثة، الأدوات والنظريات التي تأسست في كل أنحاء العالم وتُرفض هنا؟”
يعتقد خير أن المؤسسة التعليمية في مصر انتقلت من دورها الابستمي ورغبتها بإنتاج المعرفة إلى مجرد التركيز على إنتاج خريجين للنظام.
حالما يدخل الطلاب إلى الجامعة، فإن علاقة النظام التعليمي، أو غيابها، بالأدب المعاصر، تتغير. يقول خير:”على المستوى الجامعي تُرْفَع إلى مستوى المجادلات، بدلاً من الانفصال أو التجاهل. وبشكل طبيعي، يميل الأكاديميون إلى التقيد بالوضع القائم والأشكال الكلاسيكية”.
وأضاف خير:”هذا نموذج تعليمي يميل إلى تجنب تعليم شيء ما يزال مثيراً للجدل. أيضاً، إن مسؤولين كمثل الذين في لجنة الشعر التابعة لوزارة الثقافة، يركزون بشكل مفرط على الكلاسيكيات وبسبب موقعهم الرسمي فهم أكثر تأثيراً في النظام التعليمي العام”.
يعتقد خير أن غياب عنصر الأدب المعاصر من المقررات التعليمية له تأثير مدمر على الطلاب، فغياب الأدب المعاصر بالنسبة له “مشكلة معرفية من العيار الثقيل وأدت إلى فجوة بين العالم كما هو والعالم كما يُدرَّس للطالب. يتخرج الطالب كما لو أننا ما نزال في عصر بدو الصحراء العربية. ولدى مواجهة صدمة اكتشاف أن شعر اليوم ليس كالذي تم تدريسه، فإن الطالب إما أن يشجب الشيء كله، ويتخشب أو يبدأ بتعلم الطريقة الحديثة متأخراً جداً”.
يعتقد أستاذ الأدب الحديث في جامعة الأزهر محمد مخلوف أن غياب الأدب المعاصر في التعليم يمكن أن يكون له تأثير مدمِّر.
يقول مخلوف:”يرى الطالب من خلال أعيننا نحن المعلمين”. ويعتقد أن الحد من خيارات النصوص الأدبية ينتج طلاباً لا يقبلون الأشكال والأساليب الجديدة. بالتالي، سيبعدون أنفسهم عن الأدب المعاصر أو سيشعرون أن الفكرة غريبة عنهم. وأضاف مخلوف:”حين تضيّق الطيف في وجه شاب فإنه لن يعثر سوى على اللاشيء”.
[ترجمة اسامة اسبر]