تؤكد هذه المقالة أن مخطط السيطرة على المسجد الأقصى بدأ فعلاً بعد احتلال القدس في سنة 1967، وأن الخطوات الإسرائيلية الأخيرة ما هي إلاّ حلقة في سلسلة طويلة من الإجراءات الهادفة إلى السيطرة على المسجد. وترى أنه، وعلى الرغم من مركزية الأقصى، فإن الهبّة الحالية لا يمكن حصرها به، لأنها ردة فعل نضالية على مجمل ما تقوم به إسرائيل من إجراءات في القدس المحتلة.
هل بات المسجد الأقصى من المعاقل الأخيرة في القدس التي تحاول إسرائيل السيطرة الكاملة والحصرية عليها، وبالتالي التخلص من هذا الرمز الرابض في المدينة والمسيطر على أفقها؟ إن هذه "الحرب المفتوحة" هي، في الحقيقة، جزء من صورة أكثر شمولية تدور في البلدة القديمة ومحيطها، وهو ما يسمى إسرائيلياً "الحوض المقدس" (Holy Basin)، وضمن هذا الإطار يمكن فهم السيطرة على الرواية التاريخية عبر سلسلة المتاحف والحفريات الأثرية والأنفاق تحت البلدة القديمة ومحيطها، وكذلك السيطرة على المشهد الثقافي للمدينة ووسمه بهوية يهودية إسرائيلية، وتنظيم المعارض على أسوار المدينة العثمانية وفي قلعتها، وأحياناً أيضاً في أزقتها، وهذا بالتأكيد تغريب للإنسان الفلسطيني عن مدينته، وتحقير لرموزه الدينية والثقافية وتهميشها.
ستحاول هذه المقالة إثبات أن مخطط السيطرة على المسجد الأقصى بدأ فعلاً في حزيران / يونيو 1967، وأن الخطوات الإسرائيلية الأخيرة هي حلقة مهمة في سلسلة طويلة من الإجراءات الهادفة إلى السيطرة على المسجد. لكن ما يجب الإشارة إليه أيضاً، هو أن نضال الشعب الفلسطيني للحفاظ على رموزه في المدينة، الدينية منها وغير الدينية، أفشل أحياناً بعض المخططات، وعطّل تنفيذ مخططات أُخرى، وهو نضال كانت تكلفته عالية.
وتعمل إسرائيل على تأجيل تنفيذ بعض مخططاتها للسيطرة على المسجد الأقصى، عند اشتداد النضال الفلسطيني والتدخلات الدولية، وخصوصاً الأردنية والتركية والمصرية والسعودية منها، لتعيد الكرّة من جديد مستغلة انشغال العالم بقضايا أُخرى، مثل ما يحدث اليوم في العالم العربي من حروب أهلية شلّت قدرات كثيرين، وأشغلت العالم عن القضية الفلسطينية، وعزلت الفلسطينيين وكشفتهم تماماً، ولا سيما المقدسيين منهم، أمام الآلة الإسرائيلية، إلاّ إنها زادت من تصميمهم على المواجهة أيضاً.
شارون والحرب على الأقصى
بالتأكيد لم تشكل "الزيارة" الاستفزازية لرئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق أريئيل شارون للمسجد الأقصى في 28 أيلول / سبتمبر 2000، علامة على بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة الأقصى) فقط، والتي استمرت خمسة أعوام تقريباً، بل إنها كشفت أيضاً عن الخيوط المعقدة التي نسجتها إسرائيل في عقدين حول المسجد الأقصى بالتدريج، وعبر خطوات صغيرة متتالية. وبغضّ النظر عمّا آلت إليه الأمور ما بعد الزيارة، فإن من الضروري النظر إليها أيضاً ضمن العلاقات الحزبية الإسرائيلية الداخلية، ذلك بأن الزيارة لم تأتِ بقصد التعبد على "جبل الهيكل"، أو كتعبير عن "العلاقة العاطفية" التي تربط شارون كـ "يهودي" بالموقع.1
لقد مر الصراع على المسجد الأقصى بعدة مراحل، وانكشف على مصراعيه في نهاية سنة 2000، ثم تسارع بشكل متواصل، فأصبحت السياسة الإسرائيلية إزاءه أكثر عنفاً، ومشرّعة على جميع المستويات، ولم تعد تتم بوسائل دبلوماسية أو بأيدٍ مخملية. ولفهم ما يدور الآن في المسجد الأقصى، لا بد من عرض هذه المراحل، ولو بشكل مختصر.
المرحلة الأولى: موطئ قدم وبناء الرموز
سعت إسرائيل منذ اليوم الأول لاحتلال الشطر الشرقي من القدس، لتعزيز علاقتها بالمدينة عبر رموز وطنية ودينية، وفي الحقيقة لا يمكن الادعاء أن العلاقة بين المنطقة التي يقع فيها المسجد الأقصى وحائط البراق هي وليدة الاحتلال في سنة 1967، بل هي أعمق من ذلك كثيراً، وقد جرى تطوير تلك المكانة القديمة وتنميتها مباشرة بعد الاحتلال وبشكل لم يسبق له مثيل. ومن المفيد التذكير بأن مَن حكم إسرائيل منذ تأسيسها، وحتى العقد الثامن من القرن العشرين، كانت قوى علمانية تدّعي الاشتراكية، وهي بهذا بعيدة عن الدين، وحتى إن كان الدين استُخدم وبكثافة من أجل بناء "الهوية" المشتركة، فإن رموزه لم تكن ذات أهمية.
وطبعاً، فإن الخطوات الأولى للسيطرة تشكلت عبر هدم حارة المغاربة، وإنشاء ساحة ضخمة أمام حائط البراق لبناء الرمز اليهودي الأول في القدس. وقد تمت هذه الخطوة بأيدٍ علمانية إسرائيلية، وخصوصاً موشيه ديان، ثم جرى بالتدريج تطوير هذا الحائط كقبلة دينية مركزية أضيف إليها رموز سياسية، وذلك بشكل متسارع ومتشابك، وبات على كل مجند في الجيش الإسرائيلي أن يحلف يمين الولاء لدولة إسرائيل في ساحة هذا الحائط، كما أصبح كل فائز في الانتخابات الإسرائيلية يحثّ الخطى في اتجاه حائط البراق لتقديم الشكر، وربما يزور أيضاً بعض الساسة العلمانيين الحائط في أثناء حملاتهم الانتخابية، وذلك بعدما شاع في إسرائيل تقليد يقضي بأن يتخذ كل حزب حاخاماً يبارك خطواته.
وفي السنة نفسه التي تمت زيارة شارون، صادرت القوات الإسرائيلية مفتاح باب المغاربة، إحدى بوابات الحرم الشريف التي تربط الحرم بساحة البراق، وبهذا أصبحت القوات الإسرائيلية تتحكم في البوابة.
وادّعت إسرائيل في حينه أنها لا تريد تغيير "الواضع الراهن" (status quo)، وأنها تضمن حرية العبادات وحق الوصول إلى الأماكن المقدسة لجميع الديانات، معتبرة أن سيطرتها على باب المغاربة هو للحفاظ على "حق الوصول" للجميع إلى الحرم القدسي. ولم تعتبر إسرائيل مسألة هدم حارة المغاربة والسيطرة على باب المغاربة ومصادرة عشرات العقارات الإسلامية ومنها الوقفية في حارة الشرف وأماكن أُخرى من البلدة القديمة وخارجها، تغييراً لـ "الوضع الراهن"، ولا حتى احتلالها القدس بجزئيها، ثم ضمّها المدينة إليها.
وتكللت هذه المرحلة بالإدخال المتدرج للشرطة الإسرائيلية وحرس الحدود بأسلحتهم إلى ساحات المسجد الأقصى، وبالسيطرة على مبنى في الجدار الشمالي لصحن قبة الصخرة وتحويله إلى مقر دائم للشرطة الإسرائيلية، بحجة حماية الحرم الشريف من "اعتداءات اليهود"، وكذلك بالسيطرة على مبنى المدرسة التنكزية (المملوكي) المسمى المحكمة، والواقع عند باب السلسلة الملاصق للجدار الغربي للحرم الشريف والمشرف على ساحات المسجد الأقصى وساحة البراق، وحولته إلى مقر للشرطة وحرس الحدود. وبهذا، بات الوجود "الأمني" الإسرائيلي يشكل طوقاً حول الحرم الشريف، وفي داخله. وحتى لو افترضنا أن هذه المرحلة لم تشكل تدخلاً مباشراً، فإن الوجود المكثف للشرطة أدخل الحرم الشريف وإدارته في مرحلة جديدة ملأى بالتحديات، وخصوصاً تحدي تحديد السيادة على الموقع.
المرحلة الثانية: النيران تشتعل في المسجد وتشعل معها صدامات مستمرة
عندما أُحرق المسجد الأقصى في سنة 1969، اتهمت الأوقاف الإسلامية السلطات الإسرائيلية بالمسؤولية عن الحريق، ذلك بأن الأسترالي دينيس مايكل روهان (Dennis Michael Rohan)، الذي أشعل النيران في المسجد، كان قد مر عبر البوابة (باب المغاربة) التي تتحكم فيها القوات الإسرائيلية. وبغضّ النظر إن كان الجاني قد مرّ بمعرفة، أو من دون معرفة القوات الإسرائيلية، فإن السلطات الإسرائيلية تقاعست عن إخماد الحريق الذي ألهب معه مشاعر ليس الفلسطينيين فقط، بل الشعوب العربية والإسلامية أيضاً، وفضح بشكل مبكر بعضاً من النيات الإسرائيلية، كما عبّر عن الأخطار الحقيقية التي يتعرض المسجد لها.
وكردة فعل على الحريق، أغلقت الأوقاف الإسلامية المسجد الأقصى أمام الزوار من مختلف الأديان والجنسيات، ولو بشكل موقت، وذلك ليس تفادياً لأعمال أُخرى قد تضر بالمسجد، وإنما إصرار على حق الأوقاف في ممارسة مسؤولياتها تجاه المسجد أيضاً.
وفي الحقيقة، لم يمضِ عام على حرق الأقصى، إلاّ وكان غرشون سلومون (Gershon Salomon) يقتحم، في 14 آب / أغسطس 1970، على رأس مجموعة "أمناء جبل الهيكل" (Faithful of the Temple Mount)، باحات المسجد الأقصى بدعوى إعادة "بناء الهيكل"، الأمر الذي أدى إلى صدامات عنيفة، وهو أمر يتكرر كل عام حتى اليوم، ويتم في ذروة الاحتفالات اليهودية بدمار الهيكل (في 9 آب / أغسطس بالتقويم العبري)، علماً بأن محكمة العدل العليا الإسرائيلية أباحت في حينه، قضائياً، صلاة اليهود في الحرم الشريف، وذلك من منطلق "الحق اليهودي". وقد كررت المحكمة المذكورة هذا الأمر في 25 تموز / يوليو 1995، وسمحت الشرطة الإسرائيلية في إثرها، في 21 آب / أغسطس 1995، لمجموعة من اليهود بالصلاة في المسجد الأقصى، فاندلعت المواجهات من جديد. وكانت مجموعة من رجال الدين اليهود عقدت في 19 نيسان / أبريل 1980 مؤتمراً سرياً للبحث في طرق "تحرير جبل الهيكل من المسلمين"، وفي 4 آب / أغسطس 1986 أصدرت مجموعة أُخرى من رجال الدين اليهود فتوى نهائية (final ruling) تسمح لليهود بالصلاة في المسجد الأقصى، وهي مسألة كثيراً ما كانت محرمة لدى رجال الدين اليهود، كما طالبت المجموعة نفسها بإنشاء كنيس في منطقة المسجد.
خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، يمكننا رصد عشرات الهجمات والانتهاكات الإسرائيلية، الرسمية أو الشعبية أو الدينية، وقد تراوحت ما بين إطلاق النار داخل قبة الصخرة، وجرح أكثر من 60 فلسطينياً، وإلحاق أضرار جسيمة بالفسيفساء والزخارف الجصّية على يد الجندي الإسرائيلي ألِن جولدمان (Allen Goodman)، وذلك في 11 نيسان / أبريل 1982، مروراً بإطلاق جنود الاحتلال النار على المصلين في باحات الحرم في 12 أيار / مايو 1988، وقتل وجرح 100 فلسطيني تقريباً، كما قُتل 22 فلسطينياً وجُرح نحو 200 آخرين في 8 آب / أغسطس 1990 في باحات الحرم الشريف.. والقائمة طويلة.
وكانت إسرائيل شرعت، في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، في القيام بأعمال الحفر على امتداد الجدار الغربي للحرم الشريف، بعد أن أشبعت جنوبي المسجد حفراً، وأعلنت الأوقاف الإسلامية في القدس أن هذا الحفر هو تغيير صارخ للوضع الراهن، ولا سيما أنه يجري تحت مبانٍ تاريخية على غاية من الأهمية الثقافية، وكلها من أملاك الأوقاف. وقد نتج من هذا الحفر أضرار بالغة بالمباني، وضمنها مدخل المدرسة المنجكية (مقر دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس)، وعندما افتتح نتنياهو هذا النفق، في 25 أيلول / سبتمبر 1996، انطلقت هبّة جماهيرية واسعة قُتل فيها عشرات الفلسطينيين، وجُرح فيها المئات.2
المرحلة الثالثة: المصلى المرواني (إسطبلات سليمان)
قامت الأوقاف الإسلامية، بمساندة ودعم مجموعة من المبادرات الشعبية، بترميم هذه القاعة الضخمة (مساحتها 6500 متر مربع تقريباً)، وهي عبارة عن تسوية تحت مستوى ساحات المسجد الأقصى، وتقع عند الزاوية الجنوبية الغربية للمسجد الأقصى، وتتشارك جدرانها الجنوبية والشرقية مع أسوار المدينة، وهناك بابان مغلقان يقودان من خارج المدينة إلى هذه القاعة مباشرة. ولأن هذه القاعة لم تكن ترتبط بساحات الحرم الشريف إلاّ عبر باب صغير (عرضه أقل من متر)، قامت الأوقاف بفتح بابَين ضخمين يزوّدانها بالأوكسجين، ويسهلان الدخول إليها والخروج منها، وأطلقت عليها اسم "المصلى المرواني"3. ويُذكر أن الحفريات الإسرائيلية وصلت إلى الجدران الجنوبية للقاعة، كما قامت سلطة الآثار الإسرائيلية بإعادة بناء درج عريض يقود إلى القاعة مباشرة، وبحفر أنفاق وصلت أحياناً إلى أسفل المصلى المرواني، الأمر الذي أثار تخوّف الأوقاف الإسلامية من وجود مشروع إسرائيلي للسيطرة عليها وتحويلها إلى كنيس، تماماً كما جرى في القاعات التي فُتحت على امتداد الجدار الغربي للحرم الشريف، والتي تحولت جميعها إلى كُنس، علماً بأنها جميعاً ملك للأوقاف الإسلامية.
وأثار تحرك الأوقاف الإسلامية الذي تم على مدار أشهر، وتحت أنظار مختلف المؤسسات الإسرائيلية، حفيظة الإسرائيليين، واستُعمل نقطة مزايدة حزبية، وخصوصاً أن الأعمال جرت في ظل حكومة يرئسها حزب العمل. وثار رجال الدنيا والدين في إسرائيل ضد أعمال الأوقاف هذه، واتهموها بأنها تقوم بتدمير "آثار الهيكل"، وبتغيير "الوضع الراهن" من طرف واحد، علماً بأن الأوقاف الإسلامية تؤكد أنها هي مالكة المسجد بجميع مكوناته، وأن من حقها أن تقوم بترميم المباني وتأهيلها كلما دعت الحاجة إلى ذلك، ولا سيما أن أعداد المصلين تتزايد باستمرار، بحيث إن الأماكن المغطاة في المسجد الأقصى لم تعد تستوعب المصلين، وخصوصاً في شهر رمضان وأيام الجُمع في الصيف الحار وأيام الشتاء الماطرة، فجاء هذا المشروع تلبية لحاجة ملحة. وطبعاً، لم تكن "آثار الهيكل" في بال الأوقاف الإسلامية، غير أن ترميم المصلى المرواني وتأهيله شكلا علامة فارقة في تاريخ العلاقة بين المسجد الأقصى ومختلف الإدارات الإسرائيلية.
وينص قانون حماية الأماكن المقدسة الإسرائيلي (5727 / 1967)، على: "تُحفظ الأماكن المقدسة من انتهاك حرمتها، ومن مساس آخر بها، ومن أي شيء قد يمس حرية وصول أبناء الأديان إلى أماكن يقدسونها، أو بمشاعرهم تجاه تلك الأماكن." وحين ناقشت محكمة العدل العليا موضوع إسطبلات سليمان، بناء على الشكوى المقدمة من حركة أمناء جبل الهيكل، استند الادعاء إلى أن تخريباً جرى في موقع أثري من دون ترخيص، وبالتالي فإن سلطة الآثار وبلدية القدس مطالبتان باتخاذ موقف من ذلك، كما زعم الادعاء أن إسطبلات سليمان هي جزء لا يتجزأ من الهيكل. لقد رفضت محكمة العدل العليا في 16 / 10 / 1996 هذه المزاعم مستندة إلى حقيقة أن سلطة الآثار الإسرائيلية لم تبلّغ أن أي دمار حدث للموقع، ذلك بأن عملية سكب الباطون أوقفت، وأعمال التبليط لا تحتاج إلى ترخيص. وعلى الرغم من هذا، فإن قرار المحكمة أشار إلى ضرورة توخي الحذر الشديد لأن الموقع يتمتع بحساسية دينية وسياسية. وحين تناقضت القوانين الانتدابية مع هذا القانون، أقرت محكمة العدل العليا بأن القانون الإسرائيلي ينسخ (يلغي) القانون البريطاني إذا تعارض معها.
أمّا بشأن حرية الوصول إلى الأماكن المقدسة، فإن محكمة العدل العليا فرّقت بين مسألة حرية الوصول إلى الأماكن المقدسة وحرية العبادة، كما فرّقت بين حرية الفرد (اليهودي في هذه الحالة) في الصلاة في المسجد الأقصى، وبين الصلاة الجماعية، إذ أُمرت الشرطة الإسرائيلية بتأمين حق اليهودي في حمل الكتاب المقدس وتأدية الصلاة في "جبل الهيكل". وعلى ما يبدو، ربطت محكمة العدل العليا ما بين حرية الوصول إلى الأماكن المقدسة وحرية ممارسة الفرد للعبادة منفرداً، وقد تخلت جزئياً عن هذا الأمر عندما أعادت إلى الحكومة الإسرائيلية القرار في موضوع الأماكن المقدسة، وسحبت نفسها منه، معتبرة الإشكال سياسياً وليس قانونياً، تاركة للسلطة التنفيذية حرية اتخاذ القرار الملائم، وخصوصاً إذا كان للأمر أبعاد تخص الأمن العام. بناء على هذا المبدأ، جاءت الاعتراضات الإسرائيلية المتعددة، استكمالاً لسلسلة من الاعتراضات في السابق، وذلك بسبب قيام الأوقاف الإسلامية بإغلاق الحرم الشريف أمام الزوار غير المسلمين منذ 6 / 10 / 2000، احتجاجاً على استباحة شارون والجيش الإسرائيلي ساحات الحرم، وانتهاكهما حرمته بإطلاق النار وقتل المصلين فيه. وقد رفضت محكمة العدل العليا عدة التماسات لإعادة فتح الحرم أمام غير المسلمين، حفاظاً على الأمن العام.
وبين القوانين الإسرائيلية المطبّقة على الحرم القدسي الشريف، قوانين الآثار لسنة 1967، وقانون التخطيط والبناء لسنة 1965. ويُذكر أنه في آب / أغسطس 1967، أُعلن "جبل الهيكل" موقعاً أثرياً، مع العلم بأن قوانين الآثار الانتدابية البريطانية لسنة 1929، وكذلك الأردنية لسنتَي 1966 و1976، لا تنطبق على الأماكن المقدسة. وفي قرار محكمة العدل العليا الصادر في 11 كانون الثاني / يناير 2000، وعلى الرغم من إشارة القرار إلى أن أعمال الحفر والبناء في إسطبلات سليمان غير قانونية وتتعارض مع قوانين الآثار والتخطيط والبناء، فإن المحكمة رفضت الالتماس الذي قدمه رئيس بلدية القدس والمدير العام للآثار، والذي يطالب بوقف الأعمال وإعادة الأمور في الموقع إلى ما كان عليه في السابق، لأن الموقع على درجة عالية من الحساسية، ويختلف عن أي موقع آخر.
إن موقف الأوقاف الإسلامية، كان وما زال، أن المسجد الأقصى بكل ما بداخله من مساجد ومبانٍ وساحات، وبأسواره وبواباته، ملكٌ إسلامي خالص اعترفت به الحكومات المتعاقبة على فلسطين منذ الفتوحات العربية الإسلامية في القرن السابع الميلادي.
أمّا إدارياً، فإن المملكة الأردنية الهاشمية هي الإدارة المعترف بها في المسجد منذ سنة 1967 حتى الآن. فالمملكة لم تقم بنقل إدارة الأوقاف الإسلامية في القدس إلى السلطة الوطنية الفلسطينية، واستمرت في دفع رواتب موظفي الأوقاف، على الرغم من قرارها فك الارتباط الإداري مع الضفة الغربية، وذلك كي لا تعطي إسرائيل المبرر للحلول مكانها في إدارة المسجد الأقصى، كما حدث في كثير من المؤسسات.
وبناء عليه، لا تعترف الأوقاف الإسلامية في المسجد الأقصى بالسلطة الإسرائيلية ولا بقوانينها، وهي تقاطع المحاكم الإسرائيلية، ولا تتلقى أجرة العقارات التي تستخدمها إسرائيل (وخصوصاً البلدية)، والتي تعود ملكيتها إلى دائرة الأوقاف، ولا تطلب التراخيص لأعمالها ونشاطاتها الترميمية أو التأهيلية في الموقع، الأمر الذي أدى إلى الصراع على مَن سيقوم بترميم السور الجنوبي والشرقي للمسجد (سور القدس)، ولذلك جاء القرار بتكليف الأردن القيام بذلك. إن عدم طلب الأوقاف تراخيص لأعمالها داخل المسجد الأقصى لا يعني عدم وجود درجة معينة من التنسيق المسبق، وهو أمر أصبح لا بد منه بعد سنة 2000، لأن إسرائيل لم تعد تسمح بإدخال أي شيء إلى المسجد من دون إذن مسبق.
أمّا زيارة اليهود للحرم الشريف فكانت متواصلة، ولا سيما أنها كانت تتم في إطار فردي، على الرغم من الاعتداءات المتكررة عليه في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، مثل حرق المسجد الأقصى في سنة 1969، أو الاعتداءات على قبة الصخرة واكتشاف متفجرات في أماكن متعددة من المسجد. وحتى بعد أن تأسست حركات صهيونية رفعت شعار هدم الأقصى وبناء الهيكل مكانه، فإن ذلك كله لم يمثل تهديداً مباشراً للمسجد، ولم تغلق الأوقاف الإسلامية المسجد أمام الزوار اليهود، لكن المشكلة هي أن تلك الزيارات بدأت تنتظم جماعياً وبحماية السلطات الإسرائيلية، وكان هذا الأمر جلياً في الزيارة التي قام بها شارون للحرم القدسي في سنة 2000، ذلك بأن السياسة الرسمية الإسرائيلية كانت قد قررت وضع المسجد في مركز الصراع، فضلاً عن الاستمرار في أعمال الحفريات والأنفاق وتكليف جهات استيطانية إدارة المواقع المحيطة بالمسجد، وكلها عوامل ساعدت على وضع المسجد الأقصى في دائرة الخطر الشديد.
ومنذ ثلاثة أعوام لم تعد "زيارة" اليهود للحرم تحمل طابعاً سياحياً، وإنما صارت استفزازاً لمشاعر المسلمين عبر محاولات إقامة الصلوات في جنباته، وإطلاق تصريحات معادية لوجود المسجد. وممّا زاد الطين بلّة الزيارات المتكررة لوزراء في الحكومة الإسرائيلية وأعضاء كنيست، مطلقين أيضاً التصريحات بشأن مستقبل المسجد الأقصى، وحق اليهود في العودة إلى "جبل الهيكل"، وقد ترافق ذلك مع فتاوى من عدة حاخامات تجيز هذه النشاطات والتطلعات. لقد أصبح هناك مجموعات متخصصة، ليست بعيدة عن الحكومة الإسرائيلية وائتلافها بل تمثلها، تنظم "الزيارات" بشكل منتظم وبحراسة جنود مدججين بالسلاح، حتى إن بعض المجموعات كان يقوم بزيارة الحرم أكثر من مرة في اليوم الواحد بهدف خلق انطباع بحضور يهودي دائم ومتواصل.4 والأمر الخطر هو أنه أصبح هناك أجندة واضحة المعالم تدعمها الحكومة الإسرائيلية بشكل رسمي ومكشوف، وتتحدث عن تقسيم زماني ومكاني على شاكلة ما حدث للحرم الإبراهيمي في الخليل.
لقد أعلنت إسرائيل منذ سنة 2001 أنها ستعامل باحات المسجد الأقصى مثل "الحدائق القومية"، أي أنها مفتوحة للزيارة أمام الجميع، وأنه ليس للأوقاف الإسلامية سلطة على الساحات ما عدا تنظيفها، والاهتمام بالأماكن المغطاة، وذلك بتعارض كامل مع الوضع المتعارف عليه تاريخياً، وهو أن المسجد الأقصى يتشكل من 144 دونماً تضم جدرانه الخارجية وبواباته وجميع المباني الموجودة داخله وتحت أرضه، وساحاته وحدائقه، والمباني المطلة عليه من الجهتين الغربية والشمالية، وأنها جميعاً أوقاف إسلامية.
لقد عمدت إسرائيل إلى تشديد قبضتها على المسجد الأقصى، وإلى السيطرة الكاملة عليه، عبر تحديد من المسموح له بالدخول ومتى ومن أي باب، وعمر المصلين، ونفي أفراد كثيرين عن المسجد وعدم السماح لهم بالصلاة داخله لفترات متفاوتة، والتضييق على الحراس الفلسطينيين، وعدم السماح للأوقاف الإسلامية بإدخال أي شيء إلى المسجد حتى لو كان كتاباً أو جهاز حاسوب أو كيس أسمنت من دون إذن الشرطة الإسرائيلية التي تعاملت مع الموقع كأنها سيدته المطلقة، علاوة على استمرار الوجود المكثف للشرطة وحرس الحدود المدججين بالأسلحة على بوابات المسجد وفي ساحاته.
وسط هذه الإجراءات جرى اقتحام المسجد الأقصى (المسجد الجنوبي / المغطى) يوم الأربعاء 5 / 11 / 2014، وأُطلقت قنابل الدخان المسيلة للدموع داخله،5 ودُمّرت أجزاء من الموقع، الأمر الذي لم يحدث من قبل، وهو ما زاد في استفزاز مشاعر الفلسطينيين.
ردات الفعل الشاجبة لهذا الاعتداء تجاوزت الفلسطينيين، فخرجت أصوات إسرائيلية مطالبة بكبح جماح حركات "جبل الهيكل"، وبمنع أعضاء الكنيست والوزراء من استخدام هذا الموقع لأغراض سياسية، وخصوصاً بعد محاولة اغتيال الحاخام يهودا غليك في 29 / 10 / 2014، 6وعقب الهجوم على الكنيس في مستعمرة هارنوف في 18 / 11 / 2014، 7حتى إن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو دعا، وتحت ضغط من الاتحاد الأوروبي، إلى تهدئة الموقف. ويمكن القول إن ردة الفعل الأوروبية تجاوزت ما اعتدنا عليها في السابق،8 كما أن موقف الولايات المتحدة الأميركية كان واضحاً لجهة التنديد باقتحام المسجد الأقصى، بينما سحب الأردن سفيره من تل أبيب، وتقدم بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي.9
وينطلق الأردن في موقفه من الحرم الشريف من اتفاقية وادي عربة (اتفاقية السلام الأردنية ـ الإسرائيلية) في سنة 1994، والتي ينص البند 2 من المادة 9 على: "وبهذا الخصوص وبما يتماشى مع إعلان واشنطن، تحترم إسرائيل الدور الحالي الخاص للمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس، وعند انعقاد مفاوضات الوضع النهائي ستعطي إسرائيل أولوية كبرى للدور الأردني التاريخي في هذه الأماكن."10 وقد تعزز الموقف الأردني من خلال توقيع اتفاقية (وصاية) حماية الأماكن المقدسة في القدس بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس والملك الأردني عبد الله الثاني في 31 / 3 / 2013.
المرحلة الرابعة: شرارة المسجد الأقصى تنتقل إلى باقي المدينة، ثم إلى سائر الأراضي الفلسطينية
لم تكن هذه المرة الأولى التي يؤجج فيها المسجد الأقصى المشاعر، ويكشف عن الصراع الدائم في فلسطين، لكن يجب ألاّ يقتصر فهمنا لما يدور في القدس على أساس أنه صراع على المسجد الأقصى فقط، على الرغم من مركزيته، ذلك بأن هناك أبعاداً سياسية للصراع مثل انسداد الأفق السياسي، وزيادة القبضة الإسرائيلية حول المدينة وعزلها وتهميشها، علاوة على سوء الأوضاع المعيشية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية، وهي كلها محفزات موضوعية ساهمت، إلى حد بعيد، فيما آلت إليه الأمور.
منذ أكثر من عام لم تتوقف مدينة القدس عن احتلال حيز لا يستهان به من نشرات الأخبار، فبعد جريمة مقتل الطفل محمد أبو خضير في 2 / 7/ 2014، 12لم تتوقف الأعمال النضالية بجميع أشكالها في مختلف أنحاء المدينة على الرغم من كثافة عمليات القمع التي طالت أغلبية أحياء المدينة، وأدت إلى اعتقالات واسعة شملت أطفالاً دون سن العاشرة.13 ولا يمضي يوم من دون اعتقالات واسعة تطال النساء المرابطات في المسجد الأقصى، والقادة الشباب وأهالي المناضلين، علاوة على الأطفال.14 لقد بلغ عدد المعتقلين في القدس خلال الشهرين الأخيرين عدة مئات، معظمهم من الأطفال، وبثّت أجهزة التلفزة كثيراً من مظاهر القمع والعزل والتنكيل والقتل المتعمد (الاغتيال) التي تعرّض لها الشبان والأطفال خلال الشهرين الماضيين.
لكن الاحتلال لم يستطع الآن تحقيق السيطرة الكاملة على القدس، الأمر الذي استدعى سلسلة من الاجتماعات الأمنية والسياسية، اتخذت حكومة الاحتلال خلالها إجراءات تتعارض مع القوانين الدولية، بما فيها: إطلاق الرصاص الحي على مَن يلقي المفرقعات؛ تسريع وتيرة هدم المنازل غير المرخصة؛ اعتقال ذوي ملقي الحجارة من الأطفال؛ هدم منازل منفّذي العمليات الفدائية في القدس؛ تشديد شروط المرور على المعابر الفاصلة بين القدس وباقي أنحاء الضفة الغربية، بحيث أصبحت أكثر إذلالاً؛ تنظيم هجمة ضرائبية شرسة اشتركت فيها دوائر وزارة المالية وأجهزة بلدية الاحتلال؛ سحب هويات المقدسيين وحرمانهم من حقهم الإنساني والطبيعي في العيش في مدينتهم ومدينة أجدادهم؛ إطلاق يد شرطة السير للتنكيل بالمقادسة لأتفه الأسباب. وآخر الإبداعات الإسرائيلية في القمع نقاش إمكان إخراج بعض الأحياء المقدسية خارج حدود البلدية، والقذف بها في وجه السلطة الفلسطينية، فإذا ما تمت هذه الخطوة، فإن هذا يعني أن إسرائيل تخطط للتخلص من 100,000 مقدسي، وحرمانهم من حقهم في المدينة وحقهم في الوصول إليها، ومعاملتهم كسكان باقي الضفة الغربية.
"الوضع الراهن" من جديد!!
بعد التفاهمات الأردنية ـ الإسرائيلية بشأن ترتيبات الحرم الشريف قبل شهر رمضان الأخير، والتي تضمنت عدم تقييد أعمار المصلين المسلمين، وعدم ملاحقة المرابطين والمرابطات في باحات المسجد الأقصى، وعدم جمع بطاقات الهوية للنساء، وعدم السماح للرموز السياسية الإسرائيلية باقتحام الحرم، وعدم إطلاق التصريحات المتعلقة بمستقبل الموقع، سواء من الساسة أو الجمعيات الاستيطانية، فإن المسجد عاش بضعة أسابيع من "الحياة العادية"، لكن إسرائيل لم تحافظ لفترة طويلة على هذه التفاهمات، وسرعان ما عادت الأمور كلها إلى سابق عهدها، وبشكل أسوأ، إذ سارع الساسة من أحزاب اليمين الإسرائيلي إلى اقتحام المسجد وإطلاق التصريحات المستفزة للمشاعر، وتحوّل المسجد الأقصى مرة أُخرى إلى قضية تجاذب حزبية إسرائيلية، علماً بأن العمل في الأنفاق المحيطة بالمسجد لم يتوقف، كما جرى تسريع بناء مزيد من الكُنس بالقرب منه.
على أي حال، لن ندخل هنا في تحليل الدوافع المختلفة للهبّة الجماهيرية / الانتفاضة التي تعيشها الأراضي المحتلة، فما يعنينا هنا هو مركزية المسجد الأقصى، إذ أدى استمرار الانتهاكات الإسرائيلية إلى اشتعال الوضع أولاً في القدس، ثم انتشار شرارته بشكل متدرج إلى باقي الأراضي الفلسطينية وعلى طرفَي الخط الأخضر. وبعد تدخّل وزير الخارجية الأميركي جون كيري، جرى التوصل إلى تفاهمات أردنية ـ إسرائيلية برعاية أميركية.15 وبغضّ النظر عن مدى فاعلية هذه التفاهمات في تهدئة الأمور، كما تتمناه الأطراف المتعددة، فإن من المهم الوقوف عند ما تضمنته من نقاط، لما لها من أثر بعيد في المسجد الأقصى:
أ ـ الحفاظ على الوضع الراهن: لم يتضح في هذه التفاهمات معنى "الوضع الراهن"، فهل المقصود ما كان عليه قبل سنة 1967؟ إن كان الأمر كذلك، فإنه يتطلب انسحاب الشرطة الإسرائيلية من داخل الحرم الشريف، وتسلّم الأوقاف الإسلامية جميع البوابات بما فيها باب المغاربة، والأنفاق التي حُفرت تحت المباني الوقفية، والمدرسة التنكزية، وأرض الخاتونية (موقع دار الإمارة الأموية)، وإعادة بناء حارة المغاربة ... وهي كلها مواقع مرتبطة بالمسجد الأقصى.
وبما أننا لا نعتقد أن "الوضع الراهن" في هذه التفاهمات يعني ما ذكرنا أعلاه ، فإننا سننطلق من فرضية أن "الوضع الراهن" يعني فقط ما كان عليه "الواقع" قبل اندلاع الأحداث الأخيرة، والمرتبط بحرية وصول "المخولين" (يعني حملة الهويات المقدسية أو الإسرائيلية) إلى المسجد الأقصى من دون تحديد الأعمار والأوقات، كما تعني وقف استفزازات الساسة الإسرائيليين، وعدم إطلاق التصريحات النارية التي تهدد وجود المسجد، وتعني أيضاً التوقف عن تنفيذ فكرة التقسيم الزماني والمكاني للمسجد. وطبعاً، هذه إنجازات لا يمكن الاستخفاف بها، لكن من الواجب التساؤل: هل إن استعمال اصطلاح "الوضع الراهن" يعني أن ما راكمته إسرائيل من مكاسب، وما حققته من خلال فرض الأمر الواقع بالقوة منذ حزيران / يونيو 1967 قد أصبح جزءاً من "الوضع الراهن"، وبالتالي أصبح حقاً مكتسباً ومعترفاً به؟
إن الممارسة العملية، كما يتضح من خلال مراقبة ما يحدث في المسجد منذ التفاهمات المذكورة، تؤكد ما ذهبنا إليه في الافتراض الثاني.
ب ـ تركيب كاميرات: تم الاتفاق على تركيب كاميرات لمراقبة باحات المسجد الأقصى، وتكون تحت السيطرة الكلية لدائرة الأوقاف الإسلامية، وقد أضاف العاهل الأردني في حفل استقبال شخصيات مقدسية، أن هذه الكاميرات ستُربط مباشرة بالقصر الهاشمي في عمّان.16 وهنا، يجب التروي قليلاً في مناقشة هذه المسألة، فقبل الخوض فيها، لا بد من التذكير بأن هناك كاميرات مراقبة إسرائيلية تراقب ساحات المسجد كلها ومنذ أعوام، بعضها مركب فوق سطح المدرسة التنكزية (على الجدار الغربي للمسجد الأقصى)، والآخر مركب على جبل الزيتون، وبالتالي، فإن ما يدور في ساحات المسجد مراقب تماماً من الإسرائيليين، غير أن المراقبة الإسرائيلية تُستخدم فقط لإدانة الفلسطينيين، ولا تُستعمل لتوثيق الانتهاكات الإسرائيلية. أمّا الكاميرات المقترحة، فمن المفترض أنها ستوثق أيضاً ما يقوم به الإسرائيليون من اقتحامات يومية. وأعتقد أن إسرائيل ستجد الطريقة الفنية للتجسس على هذه الكاميرات التي ستركّب في المجال المغناطيسي المسيطَر عليه إسرائيلياً، وطبعاً هذا سينطبق على مراقبة بثّها إلى عمّان.
ج ـ حق الصلاة للمسلمين وحق الزيارة لليهود: لم تكن الأوقاف الإسلامية ضد مبدأ الزيارة، إذ كثيراً ما فُتحت قبة الصخرة وكذلك المسجد الأقصى (القبلي) أمام الزوار بغضّ النظر عن دينهم وجنسيتهم، ولكنها لم تعتبر هذا الأمر حقاً للزائر، فالذي يحدد الحق هو صاحب المكان، وهو الأوقاف في هذه الحالة، كما أن صاحب المكان قد يرحب بالبعض، ولا يرحب بآخرين. وبالتالي، لم يعد في قدرة الأوقاف إعلان أشخاص غير مرحب بهم، مثل أصحاب السوابق في استفزاز المصلين، كما أن إسرائيل قد تفسر هذه الجزئية بعدم حق الأوقاف الإسلامية في إغلاق الموقع عند التهديد. ويمكن القول إن "حق الزيارة لليهود" قد حققه نتنياهو عبر هذه التفاهمات،17 وبالتالي أصبح الآن جزءاً من التفاهمات التي على دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس احترامها.
لقد قامت إسرائيل بعمل "قوائم سوداء" خاصة بالمرابطات لمنعهن من دخول المسجد، كما حكمت على أعداد كبيرة من الفلسطينيين بالإبعاد فترات متعددة عن المسجد، أي أنها قامت بتحديد حق الزيارة. وإذا كان "حق الزيارة" لا يعني "حق الصلاة" أو "إقامة الشعائر"، وهي مسألة في غاية الأهمية كثيراً ما قادت إلى مواجهات دموية، فبالتالي يجب عدم الاستهانة بهذا الإنجاز. كما لا بد من الإشارة إلى أن نتنياهو أمر بمنع الوزراء وأعضاء الكنيست من دخول الحرم، واستغل ذلك أيضاً لمنع النواب العرب في الكنيست من القيام بالزيارة، كأنه بهذا يساوي تماماً بين أحمد طيبي أحد المدافعين عن الأقصى، وبين الوزير العنصري نفتالي بينت الذي يدعو إلى إقامة الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى.
قد يكون من المبكر الحكم النهائي على هذه التفاهمات، وما إذا كانت ستؤثر سلباً أو إيجاباً في المسجد الأقصى، لكنها بالتأكيد لن تؤثر في الموقف الشعبي الفلسطيني الذي لا يزال يرى الخطر داهماً، وما زال ينتفض باسم الأقصى.
أمّا موقف السلطة الفلسطينية من هذه التفاهمات فبقي غامضاً ولم يصدر أي موقف رسمي منها، وقد يكون الجانب الفلسطيني أخذ حساسية علاقة السلطة بالأردن في الاعتبار، لكن لم يثبت قط أن الأردن أو كيري نسقا الأمر مع السلطة الفلسطينية، وقد كُتب بعض المقالات الصحافية التي اعتبرت أن هذه التفاهمات خلقت أزمة بين الأردن والسلطة الفلسطينية. 18
بالنسبة إلى موقف الحركة الإسلامية في الأرض المحتلة منذ سنة 1948، وهي طرف فاعل في النضال من أجل حماية المسجد الأقصى، فإنها اعتبرت هذه التفاهمات "ذر رماد في العيون"، كما ورد في بيان صدر عنها.19 أمّا حركة "حماس" فوصفت تفاهمات كيري بأنها "هزيلة وفارغة المضمون".20 كما أن الهيئة الإسلامية العليا في القدس، انتقدت التفاهمات بشدة، ورفضت أن تتضمن التفاهمات حق المسلمين في الصلاة، واعتبرت أن المسلمين ليسوا بحاجة إلى تصريح من أحد للصلاة في المسجد الأقصى، مؤكدة رفضها التصريح الذي أطلقه كيري في هذا السياق، والذي تضمن مصطلح "جبل الهيكل"، مشددة على أن الاسم الوحيد للموقع هو "المسجد الأقصى".21 أمّا موقف المنظمات الأهلية في القدس فاتّصف بالدبلوماسية، وطالب بمراجعة التفاهمات.22
خلاصة
صحيح أن الاعتداءات المتكررة على المسجد الأقصى قادت إلى الوضع الحالي، وهو وضع متأزم لن تحلّه تفاهمات كيري، لأن المشكلة ليست في المسجد الأقصى، وإنما في الاحتلال بحد ذاته، فالتفاهمات يجب أن تتركز على إنهاء الاحتلال، وليس على تجميل صورته.
كما أن مركزية الأقصى في هذه الهبّة الواسعة، ليست كافية لفهم ما آلت إليه الأمور، فالقدس المشتعلة، بكل معالمها، وبدرجات متفاوتة خلال أكثر من عام، كشفت عن نظام عنصري بنى أدواته على مدار خمسة عقود،23 وعن زيف أسطورة "القدس الموحدة" التي أظهرتها الهبّة الشعبية مدينة مقسمة في جميع النواحي، وكشفت أن أعمال إسرائيل على مدار خمسة عقود لبلع المدينة باءت بالفشل الذريع ، ذلك بأن الاحتلال لم يعزل القدس فقط عن باقي الضفة الغربية عبر جدران الفصل العنصري والمستعمرات، بل أيضاً عبر فصل القدس الشرقية عن شطرها الغربي، بنقاط تفتيش وحواجز أسمنتية وسواتر، معترفاً بالتالي بالأمر الواقع وفحواه أن القدس مقسمة، وهذا على الرغم من تخفيف هذا الإجراء بعد احتجاجات اليمين واليسار الإسرائيليين، واتهامهما نتنياهو بتقسيم القدس.
[يعاد نشره ضمن اتفاقية تعاون بين "جدلية" و "مجلة الدراسات الفلسطينية"]
هوامش:
1 كان شارون في حينها زعيماً للمعارضة الإسرائيلية في الكنيست، وقد رافقه في تلك الزيارة وفد من أعضاء الكنيست من حزب الليكود، بحراسة المئات من أفراد الشرطة وحرس الحدود والقوات الخاصة، وكان كاتب هذه المقالة موجوداً في ساحات المسجد الأقصى برفقة المرحوم فيصل الحسيني وبضع عشرات من الشباب لإفشال اقتحام الموقع.
ولم يستطع شارون إتمام الزيارة، وأُخرج من باحات الحرم الشريف بسرعة وبشكل مهين، بعد اشتباك عشرات الشبان بالحجارة مع قوات الأمن الإسرائيلية، وكان شارون قد خطط للدخول إلى المصلى المرواني (إسطبلات سليمان). وفي اليوم التالي، وكان يوم جمعة، انطلقت الاحتجاجات من باحات المسجد عقب صلاة الجمعة، وتم إطلاق النار على المحتجين فيه، فاستشهد ثلاثة منهم وجُرح العشرات، وبعدها امتدت الاحتجاجات إلى باقي الأراضي الفلسطينية، وهكذا بدأت الانتفاضة الثانية أو "انتفاضة الأقصى".
ووفقاً لتصريح الناطق الرسمي لحزب الليكود أفير أكونيس، فإن هدف زيارة شارون كان "إظهار أنه تحت حكم الليكود، فإن جبل الهيكل سيبقى تحت السيادة الإسرائيلية" (Associated Press, September 27, 2000)، وقد أعلن شارون بنفسه أن "جبل الهيكل في أيدينا، وسيبقى في أيدينا. إنه أقدس مقدسات اليهودية، ومن حق كل يهودي أن يزور جبل الهيكل" (The Guardian, September 28, 2014).
2 عدنان الحسيني، "أضواء على قضية فتح النفق"، مجلة "شؤون تنموية"، العددان 1 و2، المجلد 6 (1996 / 1997)، الملتقى الفكري العربي، القدس.
3 مرت أعمال الترميم والتأهيل بعدة مراحل، وكان أولها في تموز / يوليو 1996.
4 يبلغ عدد الحركات التي تنظم الزيارات للمسجد الأقصى 22 حركة مسجلة رسمياً، بعضها يتلقى دعماً مالياً حكومياً بشكل مباشر، وبعضها الآخر بشكل غير مباشر، فضلاً عن 10 منظمات غير مسجلة رسمياً. كما أن هذه الحركات تغلغلت في النظام التعليمي، وتربطها علاقات بعدد كبير من أعضاء الكنيست. انظر البحث الذي أجراه يزهار بعير (Yizhar Be’er) لمنظمتَي عير عميم (Ir Amim) وكشيف (Keshev) المتخصصتين بوضع القدس والديمقراطية في إسرائيل، والذي ترجمته إلى الإنجليزية شوشانا لندن سبير (Shoshana London Sappir)، بعنوان:
Dangerous Liaison: The Dynamics of Rise of the Temple Movements and Their Implications.
5 انظر وكالة "معاً" الإخبارية في الرابط الإلكتروني .
6 المصدر نفسه، في الرابط الإلكتروني .
7 الموقع الإلكتروني لقناة "روسيا اليوم" (آر تي) في الرابط الإلكتروني .
8 لأول مرة يجري تسريب وثيقة أوروبية عبر الصحافة الإسرائيلية تتضمن وضع خطوط حمر لإسرائيل ومن ضمنها المستعمرات في القدس ومحيطها. ويبدو أن العمل على هذه الوثيقة بدأ بعد إعلان إسرائيل مصادرة 4000 دونم من الأراضي التي تقع إلى الغرب من بيت لحم، وذلك لتوسيع الكتلة الاستيطانية غوش عتسيون، الأمر الذي يعني خنق مجموعة من القرى الفلسطينية الواقعة إلى الغرب من بيت لحم، وقطع التواصل الجغرافي بين منطقتَي بيت لحم والخليل، وبالتالي تشكيل كتلة استيطانية ضخمة. كما تضمنت الوثيقة عدم المساس بمكانة الحرم الشريف.
9 جريدة "الراية" القطرية، في الرابط الإلكتروني .
10 انظر نص معاهدة السلام الأردنية ـ الإسرائيلية، في الرابط الإلكتروني .
11 انظر النص الحرفي للاتفاقية في الموقع الإلكتروني الخاص بالعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني.
12 انظر موقع "دنيا الوطن" في الرابط الإلكتروني.
13 انظر الموقع الإلكتروني "فلسطين أونلاين"، في الرابط .
14 انظر صحيفة "الأيام" في الرابط الإلكتروني.
15 انظر موقع "عمّان نت"، في الرابط الإلكتروني.
16 يمكن الاستماع إلى كلمة الملك الأردني عبد الله الثاني في موقع "youtube" في الرابط الإلكتروني.
17 انظر مقالة عريب الرنتاوي في صحيفة "الدستور" الأردنية بتاريخ 26/ 10 / 2015.
18 انظر على سبيل المثال: هاني المصري " العلاقات الفلسطينية ـ الأردنية: المشكلة ليست هناك!"، "السفير" (بيروت)، 3 / 11 / 2015.
19 انظر بيان الحركة الإسلامية، في موقع "المفكرة الإسلامية" .
20 انظر بيان حركة "حماس" في المصدر نفسه.
21 بشـأن بيان الهيئة الإسلامية العليا، انظر وكالة "معاً" الإخبارية.
22 بشـأن موقف المنظمات الأهلية في القدس، انظر وكالة "وطن".
23 انظر نظمي الجعبة، "القدس: خمسة عقود من القهر والتهميش ـ الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للحراك المقدسي" في "حوليات القدس"، العدد 18 (2015)، ص 7 وما بعدها.