كيف عدتُ إلى المدينة؟ كيف دخلت؟ من مطار أم معبر برّي؟ مَن سمح بإدخالي؟ هل حقاً ليس عليّ أي ”منع سفر“ أو ”مذكرة اعتقال“؟ "يا للحظ!ّ". أقف في شارع الثامن من آذار "المجيد". أقف على رأس زلعومه وأنظر حولي. أين أذهب الآن؟ طفل ثلاثيني، صام دهراً و ربح تذكرة عبور إلى عالم الشوكولا. من أين أبدأ؟ من أزور أولاً، أين أتسكّع، و أين أجلس؟ أين أشرب القهوة, أين آكل الفتّة، على من أسلّم؟ عادة ما ينتهي الحلم هنا عندما أحاول أن آخذ خطوتين أو أكثر باتجاه مارتقلا ، أو شرقاً باتجاه ساحة الشيخ ضاهر فأشعر بثقل أرجلي و شللها. حلم يتكرر منذ خمس سنوات. يحمل ما يكفي من الصفات ليترقّى إلى رتبة "كابوس أول" لما يتركه من تعكّر نوساتالجي على مزاجي، يرافقني أياماً.
"كيف لي أن أتعامل مع هذا الحلم؟" سألت معالجي النفسي. تدريبه في التحليل النفسي لم يشجعه على إعطائي جواباً سريعاً حاسما كما كنت أشتهي. هيه كم أكره التحليل النفسي الآن، بقدر ما أحببته و تأثّرت به في مراهقتي. ماذا أفعل إذن؟ خاصة وأنّي لا أؤمن بالتفسير الشعبي للأحلام. أتذكّر عندما تصفحّت كتاب ابن سيرين في العاشرة من عمري، و تساءلت كيف لرؤية كبش في المنام أن تعني مجيء البركة وتدفق المال إلى جيوب الحالم المحظوظ؟ كم كبشاً يرى الناس في أحلامهم كل يوم على سطح هذه القارة؟ طيب، و ماذا عن الفقر، و الموت، و البؤس؟ وكأن الموضوع هو كتاب طبخ. "الميسّر في عجن الأحلام".
صدفة تركب قطار الروتين، وحيدة، و تتوقف على بابي. (اليوتوب)، بجلالة قدره، يقودني إلى بداية الطريق. كان فيلم ”اليوم كل يوم…؟“ لأسامة محمد، هو من أمسك بيدي . يدي نفسها التي مسحتُ بها وجهيَ الطفل -آنذاك- من عصير بوظة الفريز الدبق. فلاش-باك تاريخي. أعود ابن سبع أو ثماني سنوات. الصف الأول أو الثاني الابتدائي. نبيه كعادتي، لكن بذاكرة "مخردقة". طعم الفزع النيئ في مؤخرة الحلق أمام مشهد باخرة محترقة. الدخان يخنق فرحتي الصغيرة بمدينتي وهي تظهر على شاشة السينما. الدخان، صفارة السفينة الفزعة، و عجز من يراقب من البشر. (ثيمات) بدأت أتذكرها لأحلام تكررت في طفولتي.
شاهدته يومها كفيلم قصير في سينما الكِنْدي افتتاحية لعرض فيلم آخر. ناسياً ما بيدي من سائل أحمر متجمّد، كنت الوحيد الذي يلاحق بشغف الفيلم القصير المعروض، بينما الجميع منهمك بالتحضير لبداية الوجبة السينمائية الدسمة اللاحقة. هناك من انشغل بفتح أكياس البزر و النقولات، أو مَن فتح سندويشة البيض المسلوق لتفوح رائحتها على جيرانه، و مَن ارتبك بوضع جاكيتته الشتوية الزرقاء تحت المقعد الضيق. "عرّ أولاد”، بملابس الطلائع الباهتة، و "فولارات" ينبغي أن تكون ملوّنة. فيلق طلائعي كامل يزبّل على مقاعد سينما الكِنْدي المهترئة. كان علينا أن نشاهد الفيلم و نصفق صفقة طلائعية متزامنة عند بدايته و نهايته، و أن نتصرّف بشكل لائق. كانت "رحلة" ترفيهية حقيقية إلى سينما الكِنْدي. وما أطولها من رحلة. نقطع شارعين، ثم نمشي رصيفاً واحداً من المدرسة. خط طويل من جنود المستقبل المشرق، بنفس الزي، وطرقة الأقدام وقصة الشعر. طلبتُ من أمّي قبلها بأسبوع رسوم الاشتراك بالرحلة. عشر ليرات مجعّدة هرمة بالتمام والكمال. صرفتها بتهوّر في اليوم ذاته على شراء "الدقّة" الحامضة في فرصة المدرسة. لكنني دفعت رسوم الرحلة لاحقاً من ليرات أخرى طلبتها من أبي، متعلّلاً بشراء ”مجلة العربي الصغير“.
هل حقاً تعلّمتَ يا حسام ما يتمتمه طلاب المدرسة في الفيلم، "أبآبا.. أبآبا.. بابا"و “أمآما، أمآما... ماما"؟ أقول لنفسي وأنا أعيد المشهد في ذاكرتي. "كلا آنسة" بتهذيب مبالغ به. كل ما أذكره عن المدرسة هو ذاك اللون الباهت لخشب مقاعد الصف، و محاولاتي البائسة لتجنب النظر تحت تنورة معلمتي البدينة. تجلس أمامي على كرسي المصطبة العالي، وتحتها، في المقعد الأول، حيث يجلس المجتهدون، زوج من العيون الحائرة تحاول الهرب عن تلك القطعة القماشية البيضاء. آه كم كنت طفلا مغفّلا. المهم أنّي لا أذكر "أبآبا أبآبا بابا”، ربما كان درساً عابراً لتعلم مخارج الحروف. و لكن أذكر بوضوح كم كنت أكره استخدام مراحيض المدرسة المقززة، وأهرول عائداً للمنزل، حابساً مصرّات يكاد يفجّرها السائل، أو أجلس متعرّقاً حابساً (الكبيرة)، و أنا أفكر بما قاله لي أحدهم عن أن الناس ستتعرق بدل استخدام المراحيض في الجنة. كانت مرة من المرات القليلة التي أحببت بها الجنة.
بعد عامين من تلك الرحلة، إبّان حرب العراق، و لسبب جهلته وقتها، شرع أهلي بتموين الطعام. حليب بودرة، معلبات، مارتاديلا، و خبز. أذكر خط البشر الطويل أمام فرن "الطيبة" بالشيخ ضاهر ومحاولاتي البائسة لتجاوز الجموع. صرخت في وجهي يومها امرأة عجوز تشبه تلكَ التي صرخت في فيلم أسامة محمد. كرهتها. كرهت الذهاب للفرن. كنت أفضّل أن أقضي النهار وأنا ألعب لعبة "الحرب" على البلكون. لذة ما بعدها لذّة. أستمع لإذاعة مونت كارلو بإثارة، وأتلقط الأخبار. "أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش (الأب طبعا) عن نية بلاده إرسال بلاه بلاه بلاه...". "يا حلاوة”، أفكر بما سمعته من أهلي عن قبو بيتنا ذي "البيتون المسلّح" الذي لم أنزل إليه قط، و أتخيّل "الأسلحة" على حائطه (و يا لخيبتي عندما تعلّمت ماذا تعني كلمة بيتون مسلّح). همست لعمّي محمد ونحن خارجون للتبضّع يومها، "أنا بحب الحرب”، فنهرني متحدثا عن موت ودمار لم يكن باستطاعتي أن أفهمه أو أعرفه إلا بعد عقود.
في الحلم كما الصحو تباغتني المدينة التي تركتها يوماً. في الذاكرة كما المخيّلة. ما بقي منها فيَّ لم يعد موجوداً. تلك المنسية على ضفاف المتوسط صارت خشبة مسرح مضاءٍ ببرجكتورات ساطعة لبوارج و قواعد عسكرية تحمل حروف لغة غريبة. أبجدية عجيبة لا تُقرَأ. أنا تغيّرت أيضاً، لم تعد فكرة الحرب مثيرة كما كانت عندما كنت طفلاً. أجدُني أحياناً على ظهر السفينة أسعلُ مختنقاً من تخريش الدخان القاسي، أحاول أن أصرخ فلا أقدر. أو أراني أنظر إليها تحترق من على الشاطئ. سفينة تصدر نداءات استغاثة أخيرة. أو أطوف شكلاً هلامياً بلا ملامح فوق سطح مائي يعكس حمرة الشمس الغاربة. في المحصّلة، لا شيء يبقى من المشهد إلا شقٌّ طويل من العجز، وأرغفة الخوف الطازج، و بقايا طعم الفزع النيء، تستحضره الذاكرة المرهقة مراراً على مؤخرة الحلق الجاف.
حسام جيفي: شاعر و طبيب نفسي سوري من مواليد مدينة اللاذقية, مقيم حالياً في بوسطن-الولايات المتحّدة الأميركية. صاحب "فتّاحة الأمل المعلّب" (شعر) الصادرة عن دار بعل- دمشق, 2008. قيد الطباعة "طيور تدخّن الماريوانا" (شعر) عن دار المتوسط ميلانو-إيطاليا قريباً.