يدير ديوان التعليم في تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" الآن شخص لقبه "ذو القرنين". وذو القرنين هذا مصري من الصعيد يحمل شهادة الدكتوراة في التربية.
بداية، كيف تسنى لذي القرنين هذا أن يجمع بين شهادة دكتوراة وفق العلوم الحديثة، التي لم تكن موجودة في زمن "السلف الصالح"، وبين لقبه المرعب الذي لا يصلح سوى لمحارب اعتاد لون الدم. لعلها مصادفة، أو تعاقب مراحل، أو قدر إذا شاء بعضنا!
في ما يشبه الخطف خلفاً، بدأنا من ذي القرنين، لكننا في الحديث عن التعليم، عموماً، لن نضطر للعودة إلى بداية بعيدة في عالمنا العربي، فتعميم المدارس، والتوسع العمودي والأفقي فيها، حدث قريب العهد لا يرقى إلى أبعد من عقد الخمسينيات من القرن الماضي.
لابد من مثال، وسيكون هذا عن مكان أدَّعي أنني أعرفه، أولاً، وأقصد مدينة الرقة منذ نهايات سبعينيات القرن الماضي. وثانياً، أتاحت لي الظروف أن أخوض تجربة خاطفة كمعلم في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، ولمدة شهرين فقط.
أكثر ما أذكره كان علاقتي الطيبة مع الأطفال في الصفوف الرابع والخامس والسادس، وعلاقتي الحذرة مع مدير المدرسة.
علمت الأولاد والبنات اللغة العربية والرياضيات والعلوم العامة (بيولوجيا)، وكنت أتنقل بين الصفوف، متبادلاً الأماكن مع المعلمات المجازات من معهد إعداد المدرسين، إذ كنت المعلم الوحيد بين ست معلمات. تلك المعلمات فضلن تعليم المواد "السهلة"، من الموسيقا، والخط، إلى الرياضة، كما فضلن تعليم الأولاد الصغار في الأول والثاني والثالث الابتدائي. وهي في رأيي الصفوف الأصعب.
علاقتي مع المدير كانت تقتصر على تقديم دفتر التحضير في وقت ما من اليوم الدراسي، ليضع ملاحظاته، ويصحح لي ترتيب الخطوات في الدروس. الأمر المتكرر الذي اختلفنا عليه كل يوم، هو وضعه علامة بالقلم الأحمر على جملة "أن يفهم الطالب"، ليكتب إلى جانبها "أن يُعرِّف الطالب". حاولت أن أشرح له خطأ عبارته، فلم يفاجئني بأنهم تعلموا ذلك في المعهد، ويطبقون ما تعلموه على التلاميذ الصغار.
بالطبع، لم يختبرني أحد عندما تقدمت بطلب تعييني كمعلم وكيل إلى مديرية التربية في الرقة، طلبوا فقط صورة من شهادتي الثانوية، وكتبت في الطلب أني طالب في كلية الاقتصاد.
هكذا أصبحت معلماً، وتسلمت مسؤولية تعليم الأولاد، أو أن مصير الأولاد أصبح في يد مجهول تقدم ليصبح معلماً دون مؤهلات، أو اختبارات. وعلى هذا النحو يجري تعيين آلاف المعلمين الوكلاء الذين يلقنون الأولاد في مراحل مبكرة ما قد يبقى في أذهانهم إلى الأبد.
الأبد نفسه لم يكن يعنيه من أمري سوى اتجاهي السياسي، عندما زار المدرسة مسؤول حزبي في المزرعة/ القرية، ليتأكد من خلفية القادم المجهول، وليطمئن أنني لن ألقن الأولاد والبنات أفكاراً تشوش على فكر حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يتلقاه الأولاد والبنات في مرحلة طلائع البعث خلال المرحلة الابتدائية.
"أن يُعرِّف الطالب"، و"أن لا يكون للمعلم اتجاه حزبي مخالف"، تلك الثنائية كانت كافية ليطمئن القائمون على المدرسة أنهم يقومون بعملهم على أكمل وجه.
اقتنع المسؤول الحزبي رغم نظراته المشككة بأني حيادي سياسياً، لكن المدير ظل على إصراره أن الطالب يجب أن يُعرِّف، وأنا لم أغير في قناعتي بأهمية المفهوم، وليعرِّف الطالب ما فهمه بالكلمات والطرق التي يرقى إليها عقله كلما اكتسب معلومة ما من أي مصدر كان.
بدأت الخطوات الأولى لانهيار التعليم في الستينيات، واكتمل الهدم في السبعينيات، بالرغم من التوسع الأفقي، وازدياد قدرة استيعاب المدارس، حيث اقتصرت شروط البنية التحتية للعملية التعليمية على البناء المدرسي النموذجي (المدارس متشابهة في كل أنحاء سوريا)، وعلى تجهيزات فقيرة لا تتعدى غالباً لوح الكتابة والطباشير، وإذا توافرت وسائل مساعدة، مثل الصور والخرائط، فإن ذلك يعتبر شيئاً متقدماً.
بداية الانهيار، كانت في منتصف سبعينيات القرن الماضي، مع استحكام التحالف بين الإيديولوجيا القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي، والإيديولوجيا الإسلامية، بهدف إضعاف الشيوعيين. لم تنجح الخطة، بعد إعلان الإخوان المسلمين الحرب على نظام حافظ الأسد. واتسم عقد الثمانينيات بتعميم القمع على كل السياسيين والمثقفين الذين ينتقدون السلطة، وشمل القمع إلى الإخوان والشيوعيين حزب البعث اليميني، أي المتهمين بتأييد حزب البعث العراقي وصدام حسين.
وعندما استحكم نظام حافظ الأسد بالوضع السياسي في البلاد، وصمد في وجه الضغوط الإقليمية والدولية، استطاع تجييش البعثيين والانتهازيين، في معركته الداخلية، وكان أكبر الخاسرين هي العملية التعليمية، واقتصاد الناس، وذهب هذان كفرق عملة في سبيل تثبيت السلطة، و"التصدي للمؤامرات الخارجية".
بالعودة إلى أسئلة الملف، سأحاول الإجابة عنها بشكل مباشر، بعد تلك المداورة:
ــ أكاد لا أذكر شيئاً من المناهج التي درستها، لأن ما كنت أحفظه في الصف الثالث، كتعاريف، كنت أنساه في السنة اللاحقة لأفرغ في دماغي مساحة لتعاريف جديدة. أذكر فقط معلمين جيدين حرضوني على القراءة في وقت مبكر. في النتيجة، تعلمت القراءة والكتابة في المرحلة الابتدائية، ومبادئ الحساب. وفي المرحلتين الإعدادية والثانوية تعلقت باللغة العربية، وكنت جيداً في الرياضيات، لكنني نسيت الأخيرة بشكل شبه كامل.
كذلك الأمر في المرحلة الجامعية، حيث درست الاقتصاد في جامعة حلب، وكنت طالباً كسولاً بإصراري على الفهم، فاصطدمت بطرق التدريس والمناهج المركبة على لازمة "أن يعرِّف الطالب".
ــ نعم، غيرت تلك المناهج من نظرتي إلى الواقع، لكن بطريقة عكسية، أي من خلال رفضي للمفاهيم التلقينية التي تقدمها تلك المناهج، وبالتالي رفض الواقع الذي يتقدم ببطء شديد، أو يتأخر غالباً حتى بالمقارنة مع عقود سابقة كانت تعد السوريين بمستقبل أفضل للبلاد.
ــ لم تواكب المناهج التطورات العلمية في العالم، بل هي متخلفة حتى بالمقارنة مع المناهج في لبنان. وأقول ذلك كوني اطلعت على بعض مناهج الدراسة في لبنان.
ــ المناهج السورية في جوهرها "سلفية"، إذا جاز التعبير. فالتلقين أحد ثوابت الدين عموماً، والإسلام خصوصاً، وحافظت مناهج التعليم على هذا المنهج، في استمرار للشكل والمضمون، مع ادعاءات أن المناهج تراعي التطورات العلمية في العالم، لكن المقررات العلمية بقيت شبه ثابتة خلال نصف القرن الماضي، وما زال الطلاب يدرسون فيزياء نيوتين على اللوح، ومراحل انقسام الخلية من خلال صور ثابتة، وعروض الشعر العربي من خلال التقطيع الصوتي على اللوح.
ــ بالطبع، أدت تلك المناهج التلقينية إلى تنشئة أجيال أوقفت الزمن في البلاد، وحكمت الناس بالحديد والنار، وأنشأت أجيالاً من الخائفين. واستمر كتاب "الترغيب والترهيب" الإسلامي، بطبعاته المتعددة دون تنقيح، محتلاً موقع الكتاب الأكثر قراءة، حتى لمن لا يتقنون القراءة.